في الزجّ والغيتو المزعوم!

مع دخول الثورة السورية منعطفات حاسمة من امتداد شمل أرجاء الوطن السوري كافة راجت فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني مقولات عدّة كان أبرزها ربما مفهوم «الزّج بالفلسطينيين» في الصراع السوري. لم تكن أطراف تُحسب على النظام من فلسطينيين وغيرهم رافعي راياته الأواحد. من وجهة نظر لغوية بحتة يأخذ مفهوم «الزّج» الدفع والتوريط من قوى «خارجية» مع افتراض «المزجوج» وبشكل سلبي كامل، فيما يفترض هؤلاء «الأوصياء» المفترضين وجود كتلة صمّاء من الفلسطينيين السّذج الذين يتوجب تنبيههم لما يتربّص بهم. لا يمكننا الحسم باتجاهات اللاجئين الفلسطينيين نحو الثورة السورية، إلّا أننا لا نعدم شواهد عدّة على مماثلة سورية للانقسام، في بادىء الأحداث على الأقل. تطور الوضع لاحقاً مع مسار الثورة ودخول عوامل فلسطينية جديدة كاملة الانخراط (أبرزها القيادة العامّة التابعة لأحمد جبريل، مظاهرات تشييع شهداء المخيم، بدء مرحلة العقاب الجماعي لمخيم اليرموك بالقصف والقنص)، وأدّى إلى تبلور «رأي عام» فلسطيني يغلب عليه التعاطف مع الثورة، رغم وجود قطاع لا بأس به يردد مقولات النظام عن «المؤامرة الكونية»، رافعاً شعارات مستفزّة عن ضرورة حماية المخيّمات من هجمات «المسلّحين» الذين لا يريدون خيراً لسوريا.

في غضون ذلك نجد ملمحاً مهماً فيماً يتعلّق بهذه الاتجاهات بين أبناء الجيل الأول والثاني من جهة والجيل الثالث، الأيفع والأكثر إنفتاحاً من جهة أخرى. هذا الجيل الذي يغلب عليه تعاطف واضح مع الحراك الثوري السوري، دونما ضغط ما من محتويات «ذاكرة» الأجداد والآباء حول بؤس اللجوء وخطورة الدخول في صراعات مجتمعات اللجوء أو الأنظمة العربية. ورغم أنّ المحاججين لنظرية «الزّج» يرون أنّ الواقعة الأهم تبدو في اجتياح مجموعات قتالية من الجيش الحر مخيّم اليرموك و«قتحامها لمقرات القيادة العامّة جنوب المخيم وماتبعها من قصف عنيف وبالطائرات الحربية للمرة الأولى، إلا أنهم يغضون الطرف عن اشتراك واضح لمجموعات فلسطينية تقوم على عناصر من القيادة العامّة و«فتح الانتفاضة» مع قوات أمن ومخابرات النظام في قتال قوات الجيش الحر المتمركزة على الخاصرة الشرقية (التضامن) والجنوبية للمخيم (الحجر الأسود ويلدا)، مشاركة فعّالة وصل بها الحد إلى قصف بالهاون من مناطق يسيطر عليها هؤلاء في المخيم واستهدف الأحياء الجنوبية الثائرة على وجه الخصوص.

هذا الطرح يخفي نظرة «خيالية» ترى في المخّيمات الفلسطينية عامّة على أنها بؤر معزولة عمّا يجري حولها، تفتقد إلى المبادرة والتفاعل الديناميكي، تبدو أقرب إلى «ذهنية الغيتو» بكل ما يحمله هذا المفهوم من أبعاد نفسية وإجتماعية. فأن تشتعل مناطق مجاورة لا يعرف حتى أهل المخيم حدودها الواقعية وتداخلها مع مخيّمهم ولا يتأثر سكّان المخيم تبدو صيغة أقرب للخيال منها إلى الواقع المتربّص، هذا الخيال الذي يريد للفلسطيني أن يكون «سوبرمان»، أو «ضيف» حسن الأخلاق على ما أوردته أبواق النظام وعلى أعلى المستويات. كانت مفارقة كبيرة أن يدافع أقحاح النظام عن «الغيتو» الفلسطيني في وقت لا يكلّون ولا يملّون فيه من الحديث عن «عطايا» الأسد تجاه الفلسطينيين، مع الإشارة اللاحقة إلى أوضاع الفلسطينيين في لبنان تحديداً، في طرح يبدو مقارنة وتذكير بين السيء والأسوأ وبصفاقة كبيرة.

لا تعاطف

على مدار الثورة السورية، لم تكن أخبار الفلسطينيين في المخيّمات على تلك الدرجة من الأهمية لباقي الفلسطينيين في بلدان الشتات والأرض المحتلة، لا على المستوى الرسمي ولا الشعبي، مع العلم أنّ المخيمات لم تكن بعيدة عن يد البطش، أسوة بالجوار السوري المنتفض. فمخيّم درعا على سبيل المثال، كان قد تعرّض منذ البدء لحملات شرسة من الدهم والإعتقال أثناء انشغال النظام بتطويع المدينة التي استهلت طليعة الثورة بصمود كبير. وحتى عندما باشر النظام اجتياحه الشرس لمخيّم «الرمل» في اللاذقية في تلك الحملة الشهيرة، لم يكن هناك ما يشير إلى وجود «تضامنٍ» ما مع محنة الفلسطينيين في بعض أماكن تجمعهم في سوريا الملتهبة. ورغم الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به «مسيرة العودة» الشهيرة، ونهاياتها المأساوية، والتي يبدو أنها قد استغلّت ورتبت ونظّمت بمعيّة الفصائل الداعمة للنظام ولأسباب لا تخفى على المراقب، إلا أن أخبار الواقعة التي تلاها والتي كان مسرحها تجمّع «الخالصة» التابع ل«لقيادة العامّة» في مخيم اليرموك والتي ذهب ضحيتها عشرات الشبّان الذين قتلوا عمداً من قبل عناصر تابعة للحركة بعد إحساس المشاركين بالطّعم، لم تسفر هي الأخرى عن نوع من التعاطف الشعبي الفلسطيني “الخارجي» مع “الداخل» الفلسطيني السوري. كذلك الأمر، ومع دخول مخيم اليرموك بشكل واضح خط الثورة ونزول عشرات الآلاف في جنازات الشهداء الذين قضوا على أيدي قوات النظام وترديدهم لشعارات الثورة السورية بكل وضوح، وبعد بدء مرحلة «العقاب» بالقصف وإلحاقه بالمصير التدميري الذي حلّ بباقي البلدات أو الأحياء المجاورة في دمشق، وصولاً إلى استخدام الميغ في مجزرة مسجد «عبد القادر الحسيني» المريعة أواخر السنة، وما تبعها من نزوح كثيفٍ لأهالي المخيم في مناظر بؤس أحيت «حديث النّكبة» من جديد، لم يكن هناك مجدداً ما يشعر المرء بأن أوضاع الفلسطينيين في سوريا لها شأن عند غالبية الفلسطينيين خارجها. على المستوى الرسمي، لم يكن هناك أكثر من تصريحات صحفية وبيانات «تلفزيونية» مقتضبة لرجال من السلطة الفلسطينية، يكررون ضرورة تجنيب «المخيمات» آثار الصراع «الدّاخلي» بلغة ديبلوماسية غائمة، فيما لم يكن «نظرائهم» في غزّة بأحسن حالاً، حتى بعد إعلان الطلاق «الرسمي» مع النظام الأسدي من قبل بعض قادتها، في حركة بدت وكأنّها «جولة» من كسب نقاط سياسية أكثر من كونها موقفاً وطنياً وإلتزاماً بقضية يتعرّض فيها قسم مهمٌّ من اللاجئين الفلسطينيين لمحنة وجودية. على المستوى الشعبي، عدا عن بعض التجمّعات البسيطة «البائسة» هنا وهناك، والتي لم يكن يتعدّى عدد المشاركين بها بضعة أشخاص، لم يكن هناك أية مظاهرات أو نشاطات تضامنية تندد بما يحدث لا في مدن الضفة الغربية ولا في غزّة، لا في مخيمات لبنان ولا في الأردن، في مشهد يبعث على الدّهشة و«الحزن» ويحرّض على الأسئلة.

لماذا لم يحظ الفلسطينيون في سوريا بتعاطف أهلهم من الفلسطينيين في «الخارج»؟ كيف يمكن تفسير ذلك؟ أعتقد بأن هناك عاملان إثنان، على الأقل، قد يسعفان في تفهّم السبب الكامن وراء هذه «الأزمة» الأخلاقية- السياسية، إن صحّ التعبير. أولاً، ليس سراً بأنه على مدى العقود السابقة كانت أخبار الأرض المحتلة في فلسطين هي قبلة الأخبار ومثار الاهتمام الفلسطيني العام وبوصلة المزاج العام. كانت معظم مخيّمات الشتات تعيش على وقع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، كان الحاضر الفلسطيني يرتبط دوما ب«هناك» أكثر من هنا. وهكذا كان الحدث الفلسطيني، نفسياً وعملياً، هو حصراً ذلك الذي لا يتجاوز حدود فلسطين «التاريخية» في اشتباكها الضاري مع الاحتلال. مع مرور الوقت أصبحت المخيّمات، وأخبارها، السورية وسواها أيضاً على هامش الهامش، الوضع الذي ساهم فيه عامل سياسي آخر، اشتركت فيه سياسات فلسطينية وعربية أفضت إلى بلورته بشكل كبير. وهنا يكمن العامل الثاني، حيث يلاحظ بأن المخيّمات الفلسطينية و«مسألة اللاجئين» قد تم تجاهلها بشكل كبير منذ اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، بينما كان «الشلل» البطيء يعمل في هياكل منظمة التحرير التي أصبحت على حال لا يليق بتاريخها التأسيسيّ الجامع، القائم على أكتاف وأكلاف فلسطينيي المخيّمات، تلك التي لم تكن مخيّمات سوريا بعيدة عنه بأي حال. بينما كان المجلس الوطني الفلسطيني، وهو الذي من المفروض أن يكون «كياناً» تمثيلياً يضفي تماسكا ما على التجمعات الفلسطينية أينما كانت، يضمر ويتلاشى في نهاية تاريخية بائسة. طبعاً عدا عن حقيقة أنّ أوضاع الأنظمة العربية وأحوالها شديدة التباين والتعارض والصراع تجاة قضية الفلسطينيين عموماً واللاجئين خصوصاً لم تكن لتسمح بوجود نوع ما من التواصل بين مخيمات الشتات، اللهم إلا على سبيل فرديّ خاص، بينما لم تكن اجتماعات ومؤتمرات «حق العودة» فرصاً حقيقية للتواصل الفلسطيني- الفلسطيني، أكثر مما كانت بحق عبارة عن مناسبات فلوكلورية، هزلية، لا تلبي برامج بعض القنوات العربية الفضائية فقط، بل تتلاقفها مصالح عدّة، لم يكن النظام السوري ولا حليفه اللبناني المستفيدان الوحيدان من استمرارها. وهكذا شعر الفلسطينييون كنظرائهم السوريين باليُتم، ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل والإنساني أيضاً.

مخيّمات شابة!

كحال توأمه السوري الأوسع، يعتبر المجتمع الفلسطيني في سوريا مجتمعاً فتياً، يشكّل فيه الأطفال واليافعين الراشدين اليفّع نسبة كبيرة من تشكيلاته الديموغرافية. إذا ما يزال مفهوم الأسرة الكبيرة نسبياً مع عددٍ من الأطفال له «قيمة» لابأس بها في وعي الفلسطينيين عموماً، في الأرض المحتلة وخارجا على حدٍ سواء، وذلك لما يمثله «العدد» كسلاح ديموغرافي «سهل المنال» في صراع «الوجود»، الافتراضي والواقعي مع دولة الاحتلال، وبشكل يؤمّن نوعاً من التعويض «المادي» المحسوس عن باقي الأسلحة التي جرّبها الفلسطينييون في تاريخهم الحديث في مخيمات اللجوء.

منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي ولد جيل جديد، هو الآن شابٌ وطموح، لم يعرف التجربة السياسية التي خاضها بعضٌ من الآباء والأجداد، بعجرها وبجرها، جيلٌ لا تمثّل منظمة التحرير، ولا غيرها من التشكيلات والتنظيمات الفلسطينية أية مرجعيّة عقائدية أو فكرية له. فيما يبدو أنّ تجربة المقاومة المسلّحة في غزّة على وجه الخصوص وما تمثّله «حماس» من بعد ديني ما، كان له بعض الأثر في تلوين توجّهات هؤلاء الشباب بقيم المقاومة ضد الإحتلال، من دون الارتباط بأي شكل مؤسّساتي أو تنظيمي، فصائلي ما. بينما كان الجفاء الروحي والمادي مع السّلطة الفلسطينية التي تعاملت بسلبية مفرطة تجاه قضايا اللاجئين، سياسياً وإنسانياً، يُعمل في الوعي الفلسطيني الجديد، في عقول شباب وشابّات، يبحثون عن أدوار وقضايا، سياسية وإجتماعية، يستطيعون من خلالها تأكيد ذواتهم المتحفّزة لجديد ما، في بيئة اقتضت ميزاتها اجترار كلّ قديم بنسخ متعددة، والإجهاز على أية مبادرة، إن لم نقل وأدها قبل أن تبدأ. هذه الحيوية كان يعكسها بالإضافة إلى الالتحاق بالمعاهد والجامعات الحكومية السورية، وجودٌ  طاغٍ وملحوظ لهؤلاء الشباب في مقاهي الإنترنت ومعاهد تعليم اللغات، خاصّة اللغة الإنكليزية، رفيقة درب أغلب الشباب الفلسطيني، بالرغم من معاناة أغلب هؤلاء من قلّة الموارد وشبح البطالة الذي كان يلفّ المجتمع السوري الأعم، وإن كانت آثاره أكثر فقاعة على المجتمع الفلسطيني الأصغر.

من جهة أخرى، وخلال العقد الأخير، يمكن للمراقب أن يجد بأن مخيّمات اللجوء كانت تنشط إزاء مستجدّات «خارجية» على الأغلب، يرتبط جلّها بالوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلّة صعوداً وهبوطاً (الانتفاضة الثانية ورحيل ياسر عرفات وحروب غزّةً مثلا)، فيما لم ينقطع الفلسطينيون داخل مخيماتهم عن التفاعل «الغير ممنهج» مع الأحداث التي عصفت بالبلدان حولهم إبتداءً من العراق، مروراً بلبنان وانتهاءً بالثورات العربية التي هبّت من جهات الغرب من تونس المبتدأ. ما يهمنّا هنا، هو أنه مع اندلاع الثورة السورية وامتدادها كالنار في الهشيم، يمكن القول بأن الفرصة بدت مواتية، على المستوى النفسي على الأقل، للإمساك بزمام المبادرة والدّخول في منعطف جديد سوف يطبع الوجود الفلسطيني في سوريا ولفترة لا تبدو أنها قصيرة. وهكذا ورغم اختلاف ظروف كل مخيّم من المخيّمات الثلاثة عشر المنتشرة في المدن السورية الثائرة التي اجتاحها لهيب الثورة، وتفاوت انخراطها من مدينة لأخرى، غدت المساهمة في الثورة السورية شيئا فشيئا «حاجة نفسية» بحتة قبل أن تكون نشاطاً «سياسيا» جديراً بالاستحقاق.

كان مخيّما درعا واليرموك في دمشق أحد أبرز محطّات الانخراط الفلسطيني الواضح في مجريات الثورة، فيما بدت باقي المخيّمات كالمراقب الحذر والخائف، خاصّة بعد اجتياح مخيّم الرمل في اللاذقية بوحشية كبيرة، في حملة منظّمة بدت وكأنها نوعٌ من العقاب الجماعي للمخيم الذي جاور مناطق البؤس والغضب في مدينة يعتبرها النظام إحدى معاقله التي يجب إخضاعها للطاعة قدر الإمكان وبالقوة العارية. في كلا المخيمين شكّل الشباب تنسيقيات عدّة على غرار تنسيقيات الثورة السورية وبدأت أخبار الثورة مع تركيز أكبر على تلك المتعلقة بالمخيمات تنتشر عبر الأثير وقنوات التواصل الإجتماعي، وصل بعض مشتركي الصفحات فيها إلى الآلاف. فيما ذهب البعض الآخر بتشكيل هياكل ومنظمات إغاثية تقوم بما تستطيع وبكفائة مشهودة (جفرا وتواصل على سبيل المثال). ورغم الأنباء الواردة من باقي المخيّمات حول أحداث تتصل بسياقات الثورة وتحوّلاتها، في درعا وحمص لا سيّما، إلا أن الأنباء الواردة من مخيّم اليرموك تحديداً كانت تسيطر على ما سواها فيما يخص الشأن الفلسطيني، وهكذا أضحت تطوّرات المخيم «تيرموميتر» الهوى الفلسطيني، في حالة بدت وكأنها نوعٌ من إسباغ الشرعية عليه كقبلة المخيّمات، فيما طغى لقب «عاصمة الشتات» على ألسنة المتابعين، فلسطينيين وغيرهم.

ولك قوموا اهربوا، إجوا اليهود!

حدث في مخيم فلسطين أن دخلت امرأة عجوز يبدو عليها أعراض اضطرابات حادّة في الذاكرة والتوجّه إحدى البيوت حيث تجمّع عدد من الجيرة الهاربين من زحف المعارك في الشوارع المتاخمة لحي التضامن، وصاحت بهذه الجملة التي يبدو أنها كسرت حواجز الوجوم والخوف القابضة على أرواح الحاضرين، الذين وإن أطلقوا بعدها ضحكات علت، إلا أنهم صعقوا بهذه الكلمات عالية الترميز والدلالة. بغض النظر عن أن الذكريات طويلة الأمد، الساحقة في القدم تظل حيّة في العقل الباطن ولا يطالها الخلل إلّا في مراحل متأخرة من المرض (كما في اضطراب «الزهايمر»)، إلا أن الواقعة عبّرت عن جيل فلسطيني عاش ما عاش وخَبِر ما خَبِر. أكثر الظواهر الملفتة للنظر هي استجابات الطاعنين في السن، جيل وأبناء فلسطين «التاريخية» على الأحداث المتلاحقة التي عصفت بمخيماتهم في اللجوء السوري، «أوطانهم البديلة» المؤقتة، التي بادلوها من الإلفة ما بادلتهم. فبحسب أغلب الروايات التي تجمّعت من حكايا الناس، فقد عانى أبناء اللاجئين من الجيل الثاني والثالث أكثر ما عانى في إقناع كبار السن من أهلهم، فلسطينيي المولد، بضرورة النزوح عن المخيم وترك البيوت بما حوت لأن الأوضاع لم تعد آمنة، واحتمال الوقوع ضحيّة المجازر المتنقّلة أو القصف العنيف أضحى وارداً للغاية. كان العناد والمكابرة مع عدم التصديق ب«الهجّة» مرّة ثانية هي الدفاعات المتبقية من جيل اعتاش على الذاكرة، الشخصية والوطنية، ذاكرة القرى والمدن والبيوت المتروكة ورحلات الشقاء والبؤس على دروب اللجوء المؤلم، عشيّة «النكبة» الكبرى سنة 1948. ورغم تلاشي هذا الجيل يوما بعد آخر (مواليد فلسطين لا يشكلون اليوم أكثر من 10% على أكبر تقدير)، إلا أن جلّهم يملك ذاكرة وروايات لابأس بها عن الأرض التي إضطروا إلى تركها وهم أطفال ويافعين، وعن «الدمدمات» التي كانوا يسمعونها من كبارهم عن «الستة أيام»، التي أصبحت «ستين سنة» فيما بعد. ورغم أنباء القصف والقنص وعمليات القتل «العشوائية» التي تتسلّى بها مليشيات الأسد على تخوم المخيم وفي أزقته وشوارعه العديدة، إلا أن هؤلاء، «جيل الذاكرة»، باتوا لا يبرحون يسائلون أبنائهم عن «العودة» المرتقبة للمخيم، فيما يحاول الكثير منهم «رشوة» أحفادهم لمرافقتهم إلى بيوتهم ولو خلسة، تحت جنح الليل.

أزمة تمثيل!

كشفت الأحداث عن أزمة تمثيل عميقة يعاني منها الفلسطينين في «سوريا الأسد»، وأظهرت هشاشة الوضع الذي قيل أنّهم يتمايزون به عن باقي مجموعات الشتات الفلسطيني، الأدنى والأبعد. الصورة الخارجية تعطي انطباعاً بوجود تمثيل سياسي-اجتماعيٍ ما في المخيمات، خاصة عندما تذكر كلمة «الفصائل» التي وإن لم يتعدّى نفوذها على الأرض الدور «التزييني» كواجهات تنتمي لأزمنة مضت، إلا أنه الصورة الأقرب للواقع هي بعكس تلك التي تمّ الترويج لها على مدار عقود سياسة «هندسة الرعب» التي رعاها ومنهجها الدكتاتور الأب. ورغم أن بعض هذه الفصائل قد كان لها ماض تراثي ما (مثل الجبهة الشعبية، الجبهة الديموقراطية)، إلا أنها لا تمتلك صفة تمثيلية لقطاعات اجتماعية كبيرة من أبناء المخيمات، خاصّة الجيل الشاب منهم، فيما تقوم بتعويض تراثها السياسي المتآكل بمكاتب شبه خاوية إلا من صور «القادة المؤسسين» واجتماعات لمسؤولين متواضعي الثقافة هي أقرب لجلسات المقاهي العامّة منها إلى النشاطات السياسية الهادفة. بالمقابل لم تكن حركة فتح من الناحية التمثيلية بأفضل حالاً، رغم عدم مجاهرة منتسبيها ومؤيديها بأهوائهم التي يعرفون مدى خطورة الأجواء، لا سيّما أنّ ذكريات الثمانينيات من الملاحقة الشرسة ما تزال ماثلة في مخيلاتهم وأدبياتهم، بعد اجتياح بيروت وخروج منظمة التحرير وما تبعها من انشقاق دموي في الحركة، رعاه النظام السوري ومضى به بلا هوادة، وصلت حد التصفيات الشخصية سواءً داخل أزقة المخيّم، أم في شوارع العاصمة دمشق. أما فيما يتعلّق بالجبهة الشعبية-القيادة العامّة فالكل كان يعلم ارتباطها «التاريخي» بأجهزة مخابرات وأمن النظام. ورغم الدعم اللامحدود التي تلقّتها الحركة متمثّلة في زعيمها أحمد جبريل وخاصّة من الناحية اللوجستية (مقرات وتسليح وعناصر تحمل رخصاً لإستعمال السلاح) والإعلامية (ظهور يكاد يكون حصريا لأبرز وجوهها في قنوات الإعلام الرسمي السوري)، إلا أن أهل المخيّمات لم يكنّوا لها ذلك الود الذي كان يتوقع منهم منذ الشهور الأولى للثورة، فيما امتزجت عناصر الخوف من الملاحقة مع إمكانية حدوث اقتتالٍ داخلي مع عناصرها، الذين كانوا يجاهرون بعدوانيتهم في أزّقة المخيم، بشكل واضح جعل الحركة في موضع التجنّب وتفضيل عدم الاحتكاك معها استراتيجية عامّة في التعامل من قبل أبناء المخيمات وخاصّة في مخيم اليرموك. بينما كان لحركة «حماس» نصيب غير محدد المعالم، خاصّة في ضوء الأدوار المحددة التي سُمِح للحركة بلعبها إبان فترات «سنوات العسل» الذي تناغم فيه النظام والحركة في عرقلة دروب «السلام العرفاتي» الوعرة.

هذا التمثيل الهشّ للفلسطينيين في مخيماتهم كان يزداد وضوحاً يوماً بعد آخر، وبرز بشكل فاقع خاصّة بعد تطور الأحداث بتسارع غير مسبوق بعيد إعلان عدد من كتائب الثورة في الأحياء الثائرة المتاخمة من جهة الجنوب الدخول إلى المخيم في عملية هوجمت فيها مقرات الجبهة الشعبية وتم طرد أغلب كوادرها إلى حين، فيما تكفّل النظام بعدها بإبراز «خبراته» السابقة في القصف الوحشي العنيف لأحياء عديدة في المخيم، مما تسبب في أزمة نزوح/ لجوء فلسطيني هي الأكبر منذ بداية الثورة. بعيد ذلك كان أكثر ما يدعو للسخرية تلك الأنباء التي تحدّثت عن اتفاقات وتفاهمات بين ممثلين عن قوات النظام من جهة وفصائل فلسطينية بما فيها منظمة التحرير وحركة فتح من جهة أخرى، يزعم أنه تم بموجبها الاتفاق مع كتائب الجيش الحر على الرجوع إلى الوضع السابق مع ضمان عودة أهالي المخيم إلى بيوتهم آمنين. أصبحت أنباء «التفاهمات» المزعومة «نكتة» سمجة في وقت لم يتوقف فيه القصف اليومي من قوات النظام على المخيّم، فيما كان قناصو الأسد يمضون أوقاتهم في تصيّد مدنيين وأطفال ممن حاولوا بين الحواري والأزّقة الهروب من الجحيم، أو ممن حاول من أبناء المخيم الدخول خلسة في محاولات «انتحارية» لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ممتلكات وحاجيات. ورغم الدور الكبير الذي لعبته بعض الجمعيات الأهلية التي تم تشكيلها على عجل في محاولات يائسة لترتيب أوضاع المخيم الداخلية إلا أنها بدت بلا حول ولا قوّة وسط أطراف الصراع، ووسط تدهور الوضع الإنساني العام لمن فضّل البقاء داخل المخيم على خروج لا آفاق له إلّا البؤس والتشرّد والعوز. وهكذا، فهذه الأحداث لم تسفر عن «معضلة» أو«أزمة» تمثيل فلسطينية في سوريا بقدر ما أظهرت عمق هذه الأزمة التي بدت «أصيلة» في تجاوز محاولات «التمثيل الفلوكلوري» الذي رعاه النظام وعزّزت من حضوره أطراف فلسطينية على مدى العقود الماضية.

لجوء اللاجئين!

يرتبط الواقع الفلسطيني بكل تفاصيلة بمعنى «اللجوء» و«المنفى القسري». اللجوء هو «واقع» روحي ونفسي، يُعْمِل في الوجود وينهل من ذكريات ومرويات الأجداد، عن التشتت والمعاناة، وعن سوء معاملة الأقربون و«وصمة اللاجئين» الذين أضحوا ينتظرون مساعدات الإغاثة بامتهان إنساني كبير. كان الفلسطيني يداوي جراح اللجوء بسلاح آخر ينبع من نفس المصدر، إنها قصص البيّارات وأغاني الفلاحين والبلدات والقرى العامرة، وبصيغة تبدو أحيانا «سحرية» تشحذ الحاضر بما يقوى على المضي في المجول المضني. فيما بدت المخيمات نفسها صورة مصغّرة عن «فلسطين الذاكرة»، فشوارع صفد ولوبية ومدارس صرفند وسخنين وأسدود ونمرين كانت واقعا يتداخل فيه الحنين بالذاكرة بطريقة آخّاذة وفاجعة. ورغم أن الوجود الفلسطيني في سوريا لم يكن بذلك الوجود العاصف، الدامي المشحون بالأحقاد والتناقضات التي كان الفلسطينيون، بما تمثله منظمة التحرير الفلسطينية «المسلّحة» جزءا منها لاشك، إلا أن «حديث اللجوء» كان غالبا ما يحرّض على خوف وقلق وجودي مع مضي الثورة السورية مرتفعة الأكلاف، لاسيما بعد أن فعلت سياسة «الإبادة الممنهجة» التي إتبعها النظام والتي قامت على مبدأ «اقصف ثم هجّر» فعلها في باقي مناطق الثورة لعلّ مأساة «بابا عمرو» إحدى أهم محطّاتها، وإن لم تكن الوحيدة. بعد تسارع الأحداث بشكل دراماتيكي ساعة بساعة أواخر السنة الماضية تحوّل الكابوس الى واقع، إذ اضطر عشرات الآلاف من سكّان مخيم اليرموك وفلسطين إلى ترك بيوتهم و«وطنهم المصغّر» تحت وابل من القصف والتهديدات بالاجتياح في أية لحظة. بعد أن كان المخيم حيّاً وواثقاً من دوره الإنساني في إغاثة آلاف من السوريين ممن تقطّعت بهم السبل وجد أبناء المخيم أنفسهم كحال أمثالهم من لاجئي أهل البلد في درب لجوء جديد، قد يكون أشد مرارة من لجوئهم الأول، لم يعد مخيمهم فلسطينهم «المؤقّتة». ضاع المخيم وضاعت فلسطينهم من جديد. آثر أغلب اللاجئين الفلسطينيين البقاء في الأراضي السورية واتجهوا مجدداً لمخيمات إخوانهم الأخرى التي لم تطلها يد النظام، فيما كانت أنباء التمييز الفاضح الذي يتعرض له من استطاع الوصول حدود الأردن ولبنان تنذر بأن الأمور يمكن أن تكون بدرجة لا يمكن توقعها من السوء. مع «لحلحة» بسيطة في الأوضاع بما يخصّ الجانب اللبناني، فيما كان وصول من استطاع سبيلاً إلى مخيّمات البؤس هناك يؤكد على التمام التعاسة وخيبة الرجاء. كأحوال أغلب السوريين لم يكن أغلب الفلسطينيين من ذوي الأحوال الاقتصادية الجيدة. وفي ظل عدم وجود بدائل وتقصير كبير من جهات الأمم المتحدة (الأونروا)، فضلا عن ارتفاع تكاليف الحياة ووصول أسعار الآجارات إلى مستويات غير مسبوقة، وجد الفلسطينييون أنفسهم أمام واقع جديد وقاسي، فيما واصل قادة السلطة وحماس تجاهلهم الكبير لما يحدث وأكتفوا بمبارزة بعضهم على ما درجت عليه العادة.

وخاتمة!

قد نكون مررنا بشكل انتقائي على جوانب معينة من «محنة الفلسطينيين» في سوريا، إن صح التعبير، والتي تبدو أنها شابهت محنة أغلب السوريين المنتفضين في صراعهم المفتوح مع هذا النظام الشرس، لقد فتحت «أزمة اللاجئين الفلسطينيين» مجدداً نقاشاً محموما حول الأكلاف الكبيرة للعسكرة في مواجهة نظام البطش، وشرعت في موجة من الأسئلة حول البدائل المتاحة لخفض الأثمان. إلا أن أكثر ما عبرت عنه هذه المحنة أن وحدة المصائر قد تسير عبر قنوات متشابهة من الألم والمعاناة، بغض النظر عن بلاهات على شاكلة أين ينتهي «السوري» وأين يبدأ «الفلسطيني»، والتي روّج لها أشخاص وفصائل تنتمي إلى أزمة مضت، أزمنة تخطّتها الثورة السورية وجرفتها بكل سطوة. يبدو أنه الزّمن السوري الجديد، حاملاً معه زمناً فلسطينياً لا يقل جدّة بكل تأكيد.