رغم أن عموم السوريين ما زالوا في معمعان دام لا شبيه له في التاريخ الحديث من حيث العنف، إلا أنّ الحديث عن المرحلة الانتقالية لما بعد الأسد بدأ منذ فترة غير قليلة ليس لأن سقوط النظام أصبح شبه بديهي وحسب بل لأن التحضير لهذه المرحلة شديد الأهمية كي لا يفوّت الشعب السوري جنى ما ضحى من أجله التضحيات الهائلة وحتى لا يقع في مطبات عميقة تعثر انتقاله الديمقراطي.
في هذا السياق يصبح التعرف على المفردات والأدوات النظرية التي تتناول الانتقال الديقراطي عموماً مهمة، وهذا ما يقترحه علينا هذا المقال أدناه. ويمكننا القول كذلك أن مايفوق تلك المفردات والأدوات أهمية هو طرح الأسئلة الأصيلة الخاصة بالوضع السوري في مرحلة انتقاله الديمقراطي، ذلك أن اللوحة السورية تفرض باراميترات اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة الخصوصية، لا يمكن زجها زجاً اعتباطياً في معايير تتحدث عن دول حققت سيرورات طويلة في الحداثة أو الرأسمالية أو الاستقرار الاجتماعي والثقافي.
علّها تكون دعوة للمثقفين السوريين كي يصوغوا أسئلة وتوصيفات سورية تفيد في المرحلة الانتقالية.
تتزاحم التخمينات والتحليلات عن مستقبل سورية الديمقراطيّ ومآلاته بعد سقوط النظام، وسأحاول في هذه العجالة أن أعرض لنظريات التحوّل الديمقراطي الأساسية وأسقط الضوء على الحالة السوريّة بما تليه هذه النظريّات، لعلّ في ذلك استشرافاً لمستقبل سورية الديمقراطيّ وتحدّياته وإغناءً للحوار حوله.
تنقسم نظريات التحوّل الديمقراطيّ الى ثلاث أنماط Potter, D., Goldblatt, D., Kiloh, M. and Lewis, P. (eds) 1997 Democratization, Cambridge: Polity Press:
أ- النمط التحديثي: رائد هذا النمط هو سيمون مارتن ليبست Lipset, Seymour Martin. 1959. Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy. American Political Science Review. 53 (March): 69-105، وتقوم نظريته على أنّ مقدار ديمقراطية النظام السياسي لدولة ما يعتمد على مقدار تطوّر الظروف الاقتصادية والاجتماعيّة في الدولة. ويقيس ليبست وأتباع طريقته التطوّر بمقاييس التنمية من تعليم وتمدّن ودخل وتقدم البنية الإنتاجية من زراعية إلى صناعية وتقنية.
وبحسب هذه النظرية فان التطوّر الاقتصادي يوفّر بيئة حاضنة للديمقراطية بما يتمتّع فيه أفراد المجتمع المتقدّم من تعليم و سعة اقتصادية واستقلالية وقيم أخلاقية ضرورية للديمقراطية كالتسامح والتعايش والفردية والفضائل المدنية .civic virtues
تعاني هذه النظرية حين تُختزل بمقاييس التنمية من الخلط بين السببية والارتباط بين هذه المقاييس والديمقراطيّة فمع تمتّع العديد من دول العالم الديمقراطي بظروف معيشية جيّدة إلا أنّ العالم شهد بدءاً من الثمانينات تحوّل دول عديدة في أمريكا اللاتينية وآسيا إلى الديمقراطية دون تمتّعها بظروف نمائية رفيعة وبالعكس من ذلك هناك دول- كدول الخليج العربي- مكّنتها ثرواتها الاقتصادية من تحقيق مستوى عال من التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بعض الجوانب، في حين تشهد ضموراً وتخلّفاً في مؤسساتها السياسيّة. ولا أعتقد أنّ سورية بمقاييسها النمائيّة هي أسوأ بكثير من دول نظامها السياسي ديمقراطي كبوليفيا واندونيسيا. ومن الجدير بالذكر أنّ هناك فرّق بين التحوّل الديمقراطي وبين ترسيخ الديمقراطيّة، ولا بدّ أن في التنمية والتطوّر ما يساعد على ترسيخ الديمقراطيّة في بلد قام بالتحوّل إليها ابتداء Przeworski, Adam 2004, “Capitalism, development and democracy” . Brazilian Journal of Political Economy, vol. 24, nº 4 (96), October-December).
ب- النمط البنيوي: أصّل هذا النمط بارينغتون مور Barrington S. Moore, Jr., 1966, Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Making of the Modern World (Bogton: Beacon Press)، وتقوم نظريّته على دراسة بنية الإنتاج الاقتصادي وما تفرزه من تفاعل وتموضع للطبقات الاجتماعية لإنتاج النظام السياسي في الدولة. درس مور تحولات النظام السياسي في سبع دول حتى منتصف القرن العشرين، ويأخذ في تحليله نمط الإنتاج الزراعيّ كنقطة بداية تُورّث بتفاعلاتها الطبقيّة نمط النظام السياسيّ في الدولة. فحسب مور إنّ بنى الانتاج المختلفة وديناميّاتها الطبقية هو ما أنتج أنظمة دكتاتورية كالفاشيّة في ألمانية واليابان والشيوعية في روسيّة والصين كما أنتج أنظمة ديمقراطيّة حرّة في بريطانية وفرنسة والولايات المتّحدة الأمريكيّة.
ولعل هذه المدرسة في شرح التحوّل الديمقراطيّ أخذت شكلاً أنضجاً مع ديتريك رشمرير وستيفنس Rueschemeyer, Dietrich, Evelyne Huber Stephens and John Stephens. 1992. Capitalist Development and Democracy. Cambridge: Cambridge University Press في كتابهما ” التطوّر الرأسمالي و الديمقراطية” حيث قام المؤلفان بسبر التحوّل الديمقراطي وقاموا بتحليل مقارن لتجاربه في الدول المتقدّمة و دول أمريكا الّاتينية وجاءا بالخريطة التالية للطبقات الاجتماعية و تموضعها في المجتمع من حيث دعمها للتحوّل الديمقراطي.
دور الطبقة في التحوّل الديمقراطي | الطبقة |
– دائما ضد التحوّل الديمقراطي. | – ملاك الارض |
– لهم دور تعبوي و ليس قيادي ضدّ أو مع التحوّل الديمقراطي. | – الفلاحين |
– لعبت دورا هامّا في التحوّل الديمقراطي يتناسب مع حجم القطاع الصناعي في الاقتصاد. | – الطبقة العاملة المدينية |
– يعتمد دورها سلباً و إيجاباً على حجم قوتها نسبة الى قوة الطبقات الأخرى وخاصّة ملاك الأراضي والطبقة العاملة وعلى دور الدولة وقوّتها وعلى العلاقات الدوليّة | – الطبقة البرجوازية “الرأسمالية” |
– إيجابي لتحسين ظروفهم عندما تكون الطبقة العاملة ضعيفة وغير محدّد عندما تكون الطبقة العاملة قويّة. | – الطبقة الوسطى |
وهكذا فموقف الطبقات الاجتماعيّة من التحوّل الديمقراطيّ يعتمد على تموضعها وحجمها بالنسبة للطبقات الأخرى ضمن البنية الاقتصادية للدولة.
وهناك عاملان آخرين مهمان في التّحوّل الديمقراطي وفق هذا النمط، وهما أولاً قوّة الدولة، فعندما تكون الدولة قويّة جدّا إلى درجة اكتفاءها بمواردها عن الطبقات الأخرى للقيام بواجباتها كما يحدث في الدول الغنيّة بالموارد الطبيعية فهي غالباً ما تقف ضد التحوّل الديمقراطي، وإذا كانت الدولة ضعيفة وغير قادرة على تنفيذ المطالب الديمقراطية للكتل الشعبية من فرض ضرائب وحماية حقوق الطبقات العاملة فهي أيضاً عامل سلبي في فرص التحوّل للديمقراطية. فقوة متوسّطة للدولة تبدو الأكثر ملائمة للتحوّل الديمقراطي.
العامل الثاني هو العلاقات الدولية والتي قد تؤثر بمفاعيلها باتجاه النظام السياسيّ نحو الديمقراطية أو الاستبداد. فقد فرضت استقطابات الحرب الباردة والصراع مع إسرائيل في أوائل الخمسينات على سورية التوجّه نحو الكتلة الشرقيّة للتسلّح وتمويل مشاريع التنميّة. كان لهذا كلّ الأثر في تراجع الحكم الديمقراطي في أواخر الخمسينات وما بعدهاّ. ومن أكبر شواهد أثر العلاقات الدولية في الدمقرطة ما شهدته دول أوربة الشرقيّة من تحوّل ديمقراطي مع انهيار الاتحاد السوفياتي أو انتكاس الديمقراطية في إيران مصدّق 1953.
ولعلّ رواية قصّة فشل الديمقراطيّة في سورية ما قبل البعث كما طرحها ستيفن هايدمان Steven Heydemann, 1999, Authoritarianism in Syria: Institutions and Social Conflict, 1946–1970, (Ithaca N.Y.: Cornell University Press) تتوافق وهذا النمط، فكان السبب في هذا الفشل تعذّر الوصول إلى عقد اجتماعيّ ناجح بين طبقة ملاك الأراضي والرأسماليين والطبقات العاملة. ومن الممكن توصيف تعثّر الديمقراطيّة في سورية ما بعد 1954 أولاً مع حل الدولة السوريّة بضمّها إلى مصر، ثمّ مع انقلاب البعث ضدّ الحكم المحافظ الذي أتى بعد الانفصال كصراع بين سياسييّن محافظين شرعيين وضبّاط جيش تقدّميين انقلابيين.
و مع الانفجار السكّاني الذي تزامن بتآكل القدرة الشرائية وارتفاع نسب الفقر والتهميش الّذي شهدته سورية في العقدين الأخيرين، ومن ثمّ الدمار الذي أصابها في السنتين الأخيرتين تتكرّر معضلة إدارة عجلة التنميّة بما يوفّر نمواً مستديماً ورص عمل وشروط حياة كريمة تواكب الانفجار السكّاني الذي شهدته سورية في العقدين الأخيرين.
ومن أكبر الانتقادات لهذه المدرسة هي اختزالها لخيارات الأفراد بانتمائهم الطبقي بما يعجز عن الإحاطة بتعقيدات الخيار السياسي للأفراد حين تدخل الايديولوجيا وغيرها من الولاءات و العوامل إلى الصورة، بالإضافة إلى عجز هذه المدرسة عن شرح التحوّل الديمقراطي في التسعينات الكثير من دول أمريكا اللاتينية باقتصاداتها المتخلّفة وضعف طبقتها الوسطى.
ولا يفوتني أن أضيف أنّ العامل الثقافيّ قد يلوّن الخيارات السيّاسيّة للطبقات الاجتماعية، بما قد يتعارض مع التحوّل الديمقراطي إذا كانت هذه الخيارات في اتجاه دعم تيّار سياسيّ شمولي وغير ديمقراطي كما حدث في انتكاسة الديمقراطية في ألمانيا الثلاثينيات https://www.blogger.com/blogger.g?blogID=2919377423020228373#allposts, http://ahmadecon.blogspot.com/2012/12/blog-post.html..
ج- نمط التحوّل السياسي: ويركّز هذا النمط في شرحه للدمقرطة على العملية السياسيّة ومبادرات نخب القوى السياسية وخياراتها. ومن أبرز الأمثلة على هذا النمط أطروحة دانكوارت روستو عن التحوّل إلى الديمقراطية Rustow, Dankwart,1970, Transitions to Democracy. Towards a Dynamic Model. Comparative Politics. 2: 337-363، وتقوم طريقته على مقارنة العمليّة السيّاسية الّتي أدّت إلى الديمقراطية. ويقسّم روستو هذه العمليّة الى خمس مراحل:
1- تأسيس الهويّة الوطنيّة: وتتحقّق عندما تتمتّع الأغلبية في الدولة بهويّة سياسية مشتركة كمواطنين لهذه الدولة أو تلك. كما قال الحقوقي الدستوري البريطاني ايفور جينينغس: “لن يستطيع الشعب أن يقرّر حتى يقرّر أحدهم من هو الشعب”.
2 – صراع سياسي مفتوح: ويحدث هذا الصراع بين قوى اجتماعيّة على قضايا هامّة لهذه القوى، وقد يأخذ هذا الصراع بعداً طبقياً أو إيديولوجياً أو اجتماعياً: صناعيين مقابل ملاك أراضي- يساريين مقابل يمينيين- الريف مقابل المدينة. وقد يطول هذا الصراع ويقصر، على أن حدّة هذا الصراع يجب أن تبقى ضمن حدود الهويّة الوطنيّة واستمرارها.
3 – القرار: وتأتي هذه المرحلة عندما تقبل الأطراف السياسية بالتنوّع ضمن الوحدة الوطنية تتوافق على الديمقراطية كإطار للصراع السياسي.
4 – الترسيخ, وهي مرحلة استقرار الأعراف الديمقراطية في المجتمع بعد أن كان تبنّيها نتيجة لمقتضيات الصراع وظروفه.
ومن الّذين اتبعوا هذا النمط في تركيزه على العملية السياسية وسلوك النخب صموئيل هنتنغتون، حيث فرّق بين أربعة أشكال للانتقال السياسي نحو الديمقراطية Huntington, Samuel P. 1991. The Third Wave: Democratization in the Twentieth Century. Norman: University of Oklahoma Press:
* انتقال تقود فيه النخبة الحاكمة بنفسها الانتقال نحو الديمقراطية (البرازيل).
* انتقال تقوم فيه المعارضة باستبدال النخبة الحاكمة و تقود التحول نحو الديمقراطية ( الأرجنتين، ألمانيا الشرقية، البرتغال).
* انتقال تتشارك فيه المعارضة والنخبة الحاكمة في قيادة التحوّل (بولونيا وبوليفيا).
* انتقال يفرض من الخارج بالقوة (بنما).
كما يفصّل آخرون في دراسة توجّهات المعارضة والنخبة الحاكمة بين حمائم و صقور وانتهازيين لاستشراف إمكانية الوصول إلى حكم ديمقراطي مستقر كنتيجة للصراع.
والجدير بالذكر أنّ هذا النمط يفضّل في شرح تحوّل دول أمريكا اللاتينية نحو الديمقراطية بسبب الطبيعة المتأخرة لاقتصادات تلك الدول وشروط التنمية فيها، ممّا يسلب النمطين الأوليين قوّة شرح التحوّل. فطبيعة معظم اقتصادات تلك المنطقة ذات طبيعة ثنائية يتجاور فيها قطاع إنتاجي متقدم وآخر متأخّر، ومقاييس التنمية في العديد منها ليس بالعالية، وهو ما يشابه بنية الاقتصاد السوري وشروطه، لكن تواجد عناصر مهمّة في الحالة السوريّة (ضعف الهوية الوطنية، ضعف مؤسسات المجتمع المدني، طبيعة الصراع العنفية) تجعل تحوّل سورية نحو الديمقراطية وفق هذا النمط محمّلا بالكثير من التحديّات.
ومع التّحدّيات الكبرى قد يكون أكبر ما يعول عليه في دفع سورية باتجاه الديمقراطية هو في الأثر النفسي و الماديّ الذي أحدثه حجم المأساة و الدمار الّذي شهدته البلاد تحت النظام الديكتاتوريّ خلال عقود حكمه ومقدار التضحيات الّتي بذلت وتبذل لإسقاط هذا النظام.