قصة قصيرة، هي قصة الآن هنا في إحدى أحلك مراحل الثورة السورية. الزمان: الشهر الأول من عام 2013، المكان: قريتين صغيرتين في القلمون الغربي على بعد 25 كم من العاصمة دمشق إحداهما ذات أغلبية مسيحية ساحقة والأخرى، الأصغر، ذات تركيبة أحادية سنية. فلاش باك: تشكيل لجنة شعبية في القرية المسيحية يسلّحها النظام بطريقة غير واضحة بالنسبة لأهل القرية؛ المسؤول المباشر عن اللجنة والوسيط مع النظام هو حتماً ليس الشخصية الأحب إلى قلوبهم حتى لا نقول أكثر عن تاريخه الشخصي وعلاقاته، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأمن.

المتتبع لتنسيقيات القلمون المحيط يرى أن اسم بطل قصتنا، صخر، يتوارد منذ مدة كشبيح مؤذي «تفتحت العين عليه». في منتصف شهر كانون الثاني ينتشر خبر أن أهالي القرية السنية اختطفوا ابن صخر. يجنّ جنون صخر وتهجم اللجنة الشعبية بقيادته على كل عامل وموظف بلدية وعامل مخبز من القرية المجاورة يعمل في قريتهم ويحتجزونهم كرهائن لمقايضتهم بابن صخر. في اليوم التالي يصحو أهل القرية ليجدوا أن لا خبز في الأفران بعد أن أصبح الفرانون رهائنهم، إلا أن هذا كان آخر همومهم، فقذائف الهاون بدأت تنهال عليهم من القرية المجاورة. تصنيع قذائف الهاون أصبح متداولاً بيسر كبير، مما اضطرهم لأن يلازموا بيوتهم بعد أن كانت قريتهم من أهدأ النقاط في هذا الجزء المشتعل من القلمون.

راحت سكرة الفحولة والإقدام وجاءت الفكرة: إلى أين يودي صخر بأبناء قريته؟ تبدأ الوساطات ويتوجه إلى بطلنا كل ذي حكمة، يطلب منه الإفراج عن الرهائن تحسباً للمشاكل وحقناً للدماء، الأطباء والشيخ والكاهن، عبثاً دون جدوى. يرد صخر الجميع ويهينهم، مستقوياً بسلاحه ومصراً على الاحتفاظ برهائنه. إعلام النظام يبرز تلك الحادثة ويظهر مناشدات القرية المسيحية بالإفراج عن رهينتهم (الوحيدة) مع الإهمال الواضح لقضية الرهائن (بالجمع) من القرية المجاورة.

انقضى بضعة أسابيع، أُفرج عن عدد من الرهائن ومازال بعضهم محتجز عند صخر. لم يُعرف بعد مصير ابنه، تتباين الروايات حسب وجهة النظر والموقف من الثورة: القرية المجاورة اختطفته معاقبة لأبيه «الشبّيح»، عصابة إتجار بالمخدرات اختطفته لحسابات شخصية، الأب تواطأ مع النظام لإخراج هذه التمثيلية واختلاق الخلاف والعدائية في المنطقة والحؤول دون إرساء سلم أهلي قد يتحول إلى مناخ مناسب لانتشار المسلحين في القلمون، يكون بذلك قد خفف ضغطاً على نفسه بتوكيل هذه المهام إلى اللجان الشعبية.

انتهت قصتنا القصيرة جداً دون حبكة ولا ذروة درامية فيها، اللهم إلا موت إحدى المحتجزين المصاب بقصور كلوي في اليوم التالي لرده لذويه. إلا أن التراجيديا بالنسبة لأهل القرية امتدت لتكون أطول من ذروة وأبطأ من حدث بعينه، إنها تكمن في مكان آخر، في الاكتشاف المباغت لبعض النخب المتعلمة من الأهالي أن من بات يصنع الرأي العام في بلدتهم ويفرض قوانينه بقوة السلاح هو الأبعد عن هامش الانضباط الاجتماعي ومعايير النجاح التقليدية والكفاءة و الأخلاق.  تكمن كذلك بالحقيقة المباغتة والفظة بأنهم أصبحوا مجردين من كل قوة تأثير بمحيطهم، اكتشفوا أن عزلتهم المتدرجة والتي كانوا يتكلمون عنها بخفة ولامبالاة أصبحت واقعاً صعباً ومراً وحقيقياً لم ينتبهوا (أو انتبهوا) متى صار «الآن» و«هنا». الحقيقة أن «النظام» القائم في سوريا (وهنا أضع النظام بين مزدوجين لأنه نظام بمعنى منظومة (سيستام) اجتماعية كاملة فرضته الأجواء السياسية والاستبداد الطويل)، شكّل عبر الزمن كتائب من الأشخاص المرتهنة لرجال السلطة، عبر الوساطات وتبادل تسيير الأمور والسمسرة. والآن وجاء وقت الاستحقاق وقطف الثمار، على الأشخاص المرتهنين دفع ثمن ارتهانهم. لا يمكن أن يكون صخر مجرداً من كل قدرة ذهنية تجعله يدرك خطورة ما يقترف ولكنه دُفع دفعاً إلى خانة اللاعودة في التعامل مع النظام، ولي نعمته المباشر في ارتزاقه ولن يتراجع حتى لو دفع مجتمعه المحلي الثمن أو حتى يدفع هو نفسه حياته ثمناً لارتهانه.

دعوني أخيراً أسّر لكم بشيء! التراجيديا الحقيقية تكمن في عدم وجود ذروة لقصتنا، التراجيديا هي في حالة «الستاند باي» التي تُفرض على المجتمع السوري حالياً: نسلح الجميع، الجميع يترقب الجميع بانتظار القتل، دون حل. وهناك في الخفاء، أشباح تستفيد من استدامة الحرب، قد يكون صخر أقلها شأناً. هذه الترسيمة تنسحب على مستويات أكبر أبطالها من قرى ومدن و كتائب وطوائف مختلفة.  وللحديث بقية.

* التصميم لسلافة حجازي