تدور اليوم مناقشات في مجلس الشعب، بغرض إحداث محافظات جديدة، وذلك كتفاعل خلفي غير معلن مع معطيات الثورة السورية على الأرض، حيث تدل توصية من لجنة الموازنة والحسابات، واردة في مجال الإدارة المحلية، على توجهات بإحداث محافظة في ريف حلب الشرقي على أن تكون منبج مركزها موقعي الاقتصادي ومجلس الشعب الإلكترونيين.. وتعد محافظة حلب الحالية، صاحبة الكثافة السكانية الأكبر سورياً، بتعداد قدره 4,045,166 نسمة، أي ما يقارب ربع سكان سورية المكتب المركزي للإحصاء 2004.. ولا يعتبر هذا الإجراء التنظيمي–الإداري جديداً في التعاطي التاريخي للسلطة المركزية في دمشق مع نفوذ حلب، إذ ظلت الحكاية بينهما تندرج ضمن خانة التنافس والتناحر، والصراع على كل شيء، حتى لو كان ثورة.
في تاريخ حلب القديم
تعود نشأة مدينة حلب إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، وفي الألفية الثالثة أضحت مملكة مستقلة، وأخذت اسمها «حلب» حين صارت عاصمة لمملكة «يمحاض»، التي غزاها الحثيون في القرن السادس عشر قبل الميلاد وتنازعوها مع الميتانيين والمصريين، لتستقر في أيدي الآراميين كعاصمة لمملكة تل رفعت. وفي نهاية القرن التاسع أصبحت تابعة للآشوريين. ثم سقطت بيد البابليين. وسيطر عليها الفرس في نهاية العصر الحديدي. ثم فتحها اليونانيون على يد الإسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد. وصارت منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي تحت حكم الرومان، وإن ظلت اليونانية لغتها المحكية. وفي بداية القرن السابع غزاها الساسانيون لفترة وجيزة. ثم فتحها خالد بن الوليد، وحكمها العرب الأمويون، ثم العباسيون. وفي القرن العاشر صارت عاصمة للدولة الحمدانية، واحتلها لأقل من عقدين البيزنطيون في نهايته. ثم حكمها الفاطميون. وسيطر عليها السلاجقة بعد ازدياد العنصر التركي فيها. وحوصرت مرتين أثناء الحملات الصليبية، ولم يدخلوها. وهدمها زلزال عام 1138 خلال عهد الدولة النورية بتصرف ويكيبيديا..
اجتاحها المغول بقيادة هولاكو في العام 1260 وأعملوا فيها المجازر والحرائق، بعد أن كانت حاضرة الدولة الأيوبية. ثم استقلت عن الدولة المملوكية المركزية التي تنازعتها مع المغول، وعادت للحكم الذاتي منذ 1317. وفي 1400 غزاها تيمورلنك وذبح الكثير من سكانها. واعتباراً من عام 1516 صارت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية بعد معركة مرج دابق، كمركز لولاية حلب وعاصمة لسورية، وظلت حتى تدشين قناة السويس في العام 1869، حيث استعادت دمشق مركزيتها. كما فتحها إبراهيم باشا بن محمد علي، وبقيت تحت ولاية إسماعيل بيك والحكم المصري عشر سنوات، ليسترجعها بعد ذلك العثمانيون.
القصقصة التاريخية لحلب
يصف كتاب «نهر الذهب في تاريخ حلب» الكامل الغزي مطبوع 1923، ص 19. حدود ولاية حلب إبان السلطنة العثمانية: يحدها من الجنوب لواء حماه من ولاية سورية، التي مركز واليها مدينة دمشق الشام، ومن الغرب البحر المتوسط، ثم ولاية أذنة (أضنة)، ومن الشمال ولاية سيواس، ومن الشرق ولاية ديار بكر وولاية معمورة العزيز ولواء الزور.
وفي حين «مرت عبر دمشق قوافل شرقي الأردن وفلسطين ونجد والحجاز، أدارت حلب الشؤون التجارية للأناضول وكيليكيا ومنطقة الموصل وبغداد وفارس» باتريك سيل: الصراع على سورية.. إذ كانت حلب تسيطر على الطريق التجاري من أوربا إلى الهند، وبلغت أوج ازدهارها في عهد السلطنة العثمانية، إذ أنشئت غرفة تجارة حلب سنة 1885، وكانت العلاقات التجارية مع بغداد والموصل شديدة الترابط، حيث مثلت حلب لمدن ما بين النهرين منفذا تجارياً بحرياً على المتوسط، وشكل العراق عمقها العربي الإسلامي.
وبناءاً على اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، التي مثلت التفاهم السري بين فرنسا وبريطانيا بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام تركة الرجل المريض العثماني في غرب آسيا بين فرنسا وبريطانيا، تم تقسيم الهلال الخصيب لتحصل فرنسا على ىسورية ولبنان ومنطقة الموصل في العراق، وبقي لها حرية استخدام ميناء حيفا، مقابل حرية استخدام بريطانيا لميناء الإسكندرونة. وبهذا الاتفاق بقيت حلب محتفظة بمجمل أراضيها موحدة تحت لواء الحماية الفرنسية، بما في ذلك الموصل شرقاً كعمق لها في البر العراقي ضمن المنطقة العربية «أ»، ولواء اسكندرون الذي كان سنجقاً تابعاً لولايتها غرباً كمنطقة تحت الحماية الفرنسية. لكن اكتشاف النفط في ولاية الموصل جعل بريطانيا تفاوض فرنسا للتنازل عنها في «معاهدة سيفر للسلام» سنة 1920.
وبعد الثورة العربية الكبرى وهزيمة العثمانيين الذين أُجلوا عن بلاد الشام، نهاية العام 1918، أعلن عن قيام المملكة السورية العربية بحدود ضمت ما يماثل اليوم سورية ولبنان وفلسطين والأردن، وشمل ذلك لواء اسكندرون وأنطاكية وأراضي الأقاليم السورية الشمالية في الأناضول.
إلا أنه، ونتيجة للرفض التركي للاتفاقيات (سايكس بيكو وسيفر) بالإضافة لمعارك الاستقلال التي خاضها أتاتورك، فقد عقدت اتفاقية جديدة عام 1923 عرفت باسم «معاهدة لوزان» لتعديل الحدود، تم بموجبه االتنازل الاستعماري عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية، حيث أعيد ترسيم الحدود مع سورية بضم أراضٍ واسعة لتركيا تشمل مدن ومناطق مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفه وحرّان وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر. وبهذا تم تمزيق أراضي «ولاية حلب» التي أعلنها الفرنسيون في زمن انتدابهم لسورية وسلخها عن الأناضول.
توحدت ولاية حلب لاحقاً مع ولايتي دمشق واللاذقية، وصارت منذ عام 1930 جزءاً من «الجمهورية السورية»، وفي العام 1939 تم فصل لواء اسكندرون التابع لولاية حلب، التي خنقت بعد حرمانها من مينائها الرئيسي بقرار من عصبة الأمم. وعُيّن للواء حاكم فرنسي. وفي العام التالي دخلت القوات التركية إليه وتراجع الجيش الفرنسي إلى أنطاكية، وذلك لقاء حياد تركيا في الحرب العالمية الثانية.
كما تم إحداث محافظة إدلب في عهد الجمهورية العربية المتحدة (1960) من أراضي ولاية حلب التاريخية، حيث أن «إدلب وجسر الشغور يشكلان في الواقع جزءاً من مدينة حلب الزراعية» Van Dusen, Political Integration and Regionalism in Syria. وضمت المحافظة الجديدة مدن إدلب وأريحا ومعرة النعمان وجسر الشغور وحارم، وفُصلت حلب عن اللاذقية والبحر من ورائها، وعن معبر باب الهوى مع لواء اسكندرون، وهو المعبر الأكثر أهمية في تاريخ الهجرات القديمة من أوربا إلى آسيا عبر طريق الحرير.
حزب الشعب وسقوط المشروع الحلبي
إن الشريحة السياسية الحاكمة في سورية بعيد الاستقلال (1946) تكونت إجمالاً من رجال «الكتلة الوطنية»، وهم إجمالاً من المحافظين والأغنياء، الذين مثلوا طيلة سنوات الاتداب الحالة الوطنية السورية، وأداروا معارك الاستقلال السياسية والبرلمانية. شكّل عدم تجانس الكتلة الوطنية وتضارب مصالح مكوناتها، بالإضافة لعدم قدرتها على التحول إلى طبقة سياسية، أسباباً في تفتيت الكتلة، وانقسامها إلى كتلتين هما «الشعب» و«الوطني»، مما ساهم في ادخال الصراع بين المدينتين الكبيرتين واجهة السياسة. إذ تكوّن «حزب الشعب» من ورثة «الكتلة الوطنية» في حلب ومثّل المصالح الاقتصادية في المنطقة الشمالية، وحظي «الحزب الوطني» بتمثيل دمشق. وظل التنافس بين الحزبين عنواناً للسياسة السورية البرلمانية الناشطة حتى قيام الوحدة مع مصر 1958.
«إن سورية منطقة داخلية جدّ صغيرة بالنسبة لحلب، ولطالما حلمت بإمكانيات جغرافية أكثر اتساعاً» باتريك سيل: الصراع على سورية طبعة 1986 دار طلاس، ص 50.، لذا فقد ألقى حزب الشعب الحلبي ثقله في السياسة السورية، لنقض الحدود الجائرة على المدينة، وإعادة التوحد مع العراق، وازالة الحواجز التجارية، والحدود السياسية التي خنقت سورية.
ظل حزب الشعب مسيطراً على الحياة البرلمانية منذ انتخابات 1947، وشكل الكثير من الحكومات المتتالية قصيرة العمر في عهد الانقلابات العسكرية الثلاثة (من 1949 إلى 1954)، ووصل إلى رئاسة الجمهورية عبر شخص الرئيس هاشم الأتاسي، بعد الإطاحة بالشيشكلي. وكان دور حزب الشعب محركاً في صياغة السياسات السورية الداخلية والخارجية، وشهدت سورية في هذه الفترة نشاطاً اقتصادياً أشبه ما يكون بالغليان، إذ أنه بين عامي 1943-1953 تضاعف إنتاج القمح، وازداد إنتاج القطن إلى عشرة أضعاف. ويُعزى السبب بشكل غير مباشر إلى تجار حلب الذين استثمروا في الزراعة، وأدخلوا الآلة إليها، وحرثت أراضي بكر في السهول غرب الفرات وشرقه، وفي منطقة الجزيرة.
يضاف إلى ذلك، التنافس بين شركتين قابضتين شكلتا دعامتين اقتصاديتين لسياسات حزبي الشعب والوطني، حيث قامت الشركة «الخماسية» في دمشق سنة 1945 في ظل رئاسة شكري القوتلي للجمهورية، وتحت رعايته، وكانت داعماً للعقيد الشيشكلي، ودعمت سياسات الحزب الوطني، بل تدخلت في صناعتها. وفي موازاتها، تشكل في حلب «نوع غير رسمي من الشركة القابضة المساهمة عُرفت محلياً بمجموعة ’الحجّاج الخمسة‘، الذين عملوا في استحداث الشركات المساهمة، وفي تملك أصول الشركات المساهمة الأخرى في سياق تعزيز حزب الشعب لقوته السياسية بقوة اقتصادية» محمد جمال باروت: العقد الأخير في سورية، بيروت 2012، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات 2012، هامش ص 67.. وانضم إلى «الحجّاج الخمسة» الكثير من رؤوس المال الحلبية، وسيطرت على معظم الحركة الصناعية الناهضة في مدينة حلب، وأهمها صناعة النسيج، وظل نفوذها قائماً حتى موجة التأميم الأولى في عهد الوحدة مع مصر.
إن تراجع نفوذ حلب في السياسة السورية منذ منتصف الخمسينيات، متجلياً في تراجع نفوذ حزب الشعب ونواب حلب الموالين للعراق في الحزب الوطني، يعود إلى عدة أسباب: منها صعود سياسة مصر القومية بزعامة عبد الناصر؛ والتقارب مع السوفييت والكتلة الشرقية؛ وظهور أحزاب الطبقات الوسطى (كحزب البعث) ذات البرنامج الاجتماعي التغييري الحاملة للمشروع الوحدوي العربي مع مصر، وتراجع تعاطف الشارع السوري مع العراق بعد توقيع حلف بغداد 1954؛ كما أن التطورات المتلاحقة بعد العدوان الثلاثي على مصر دفعت باتجاه تشكيل صبري العسلي، زعيم الحزب الوطني، حكومة في 31 كانون أول 1956 خلت للمرة الأولى من ممثلي حزب الشعب، واقتصرت على «التجمع القومي» التجمع القومي كان يضم خالد العظم وكتلته الديمقراطية والبعث ومستقلين.، وذلك إثر اكتشاف مؤامرة تورط فيها أعضاء من حزب الشعب قبل أيام، واتُهموا فيها بتلقي أموال عراقية، والتخطيط لإقامة انقلاب عسكري بتنظيم فرنسي–إنكليزي يُبعد سورية عن منحى التقارب الجدي مع مصر.
«فازت حكومة التجمع بثقة المجلس النيابي، وخسرت الحكومة والمجلس كثيراً من ثقة الرأي العام عندما حمل النواب المستقلون على حزب الشعب لأنه لم يحدد موقفه من أعضائه المشتركين في المؤامرة» الحوراني: مذكرات أكرم الحوراني، مدبولي 2000، ص 2255.، علماً أن العديد من أسماء المتورطين تنتمي إلى قوى وأحزاب وتكتلات سياسية أخرى، بما فيها الحزب الوطني. وكانت نتيجة كشف المؤامرة إخراج حزب الشعب من الحياة السياسية البرلمانية السورية، كممثل إقليمي لحلب التجار والزعماء التقليديين وكبار الملاكين والصناعيين.
في ظل الوحدة
لم تحمل السنوات التالية اختلافاً نوعياً عن مسار الأحداث الماضية، إذ ازداد سوء الحال في عصر الوحدة السورية مع مصر، وتضاءل الحضور الحلبي في التمثيل السياسي والعسكري للسلطة الجديدة، إذ شغل فقط ثمانية حلبيين مناصب وزارية في الحكومات الأربع المتتالية إبان «الجمهورية العربية المتحدة»، وترافق ذلك مع فصل محافظة إدلب عن حلب، وموجات التأميم الأولى التي طاولت رأس المال الحلبي، وتسببت في هربه إلى الخارج، ثم لتتحول طبيعة استثماراته لصالح الصناعات التكميلية، ونزع لسبق ريادته الأولى، وذلك نتيجة بدء ظهور الدولة كمشغل أساسي للعمالة، ومحتكر للصناعات الثقيلة والتحويلية.
إن جزءاً مهماً من الصراع قد حُسم لصالح دمشق عبر حليفتها القاهرة، اعتباراً من هذه المرحلة، وذلك في ظل إعادة ترتيب الجغرافيا السياسية للمنطقة في عهد الحرب الباردة. وظل النمو التاريخي غير المتوازن للمدينة–الدولة الحلبية، المائل لصالح المدينة على حساب مشروع الدولة فيها، عاملاً حاسماً ضد وعي حلب لذاتها، مما دفعها للانكفاء أكثر داخل أسوار مدنيّتها.
إن تدخل الدولة المركزية في القاهرة، في سياق عملية التشكل الطبقي الطبيعي، عبر إجراءات التأميم المبسترة والقسرية، في مرحلة التكوين للبرجوازية الوطنية السورية، وعدم استكمالها جدياً في عهد البعث، ولا العودة عنها، تسبب في تشوه بنيوي لعلاقات الإنتاج، مما أحدث تصدعات لاحقة ظهرت في بنية الطبقات الاجتماعية–الاقتصادية، في ظل تغييب قسري للتعبير السياسي السوري في تلك المرحلة، عبر منع الأحزاب وحل البرلمان للتماشي مع الشرط المصري في التقدم الاجتماعي، وبتحريض من أحزاب البرجوازية الصغيرة السورية!
في ظل الانفصال
كان الثأر من الوحدة بالانفصال (1961) عملاً دمشقياً بامتياز، إذ إن برجوازيتها، المثقلة بالغضب على عبد الناصر، تركت لضباط دمشق العسكريين مهمة الفصل بين العاصمتين. لكن ذلك لم يُعد عقارب الزمن إلى الوراء، ولم يتمكن أحد من إحياء التراث البرلماني الديمقراطي، وعادت الحكومة فريسة سائغة للعسكر، كما كانت قبل الوحدة. لكن التنافس العسكري على السلطة تميز هذه المرة بوجود لاعبين جدد، ممثلين في أحزاب البرجوازية الصغيرة وطروحاتها التغييرية الجذرية، مستمدين قاعدتهم الشعبية من الريف السوري المتسع، ومن الأقليات.
ولم تقم الحكومة المركزية في دمشق برفع الغُبن عن حلب، وظلت نسبة التمثيل الحلبي في الوزارات إبان عهد الإنفصال دون سابق عهدها قبل الوحدة، ولم تزد النسبة عن 16% من مجمل أعضاء الحكومات الخمس المتتالية.
في ظل البعث وحتى 1970
لم يحصل البعث على امتداد قوي في المدن الكبرى قبل آذار 1963، إذ لم تجذب طروحاته البرجوازية المدينية، وخاصة الحلبية، وساهمت رؤيته القومية في عدم جذب كتل كبرى من المجتمع الحلبي (متمثلة في الأرمن والتركمان والأكراد)، وظل اعتماده على الأرياف السورية، ولم تكن حصة الريف الحلبي منها كبيرة، مما انعكس سلباً على حصة حلب من السلطة السورية الجديدة.
حدث الصراع داخل أجنحة حزب البعث العربي الإشتراكي، منذ تسلمه للسلطة في آذار 1963، على أسس متناقضة، تركزت أحياناً على الجانب الإقليمي أو الطائفي، مما أسهم في خلق تكتلات طائفية أو إقليمية داخله.
وفي سياق هذا الصراع، تمت تنحية الكتلة الحلبية عن سلطة الشرعية الانقلابية، كنتيجة كرست هزيمة النفوذ الإقليمي الحلبي في الدولة السورية. فرئيس الجمهورية حينها، البعثي الحلبي أمين الحافظ، قائد القوات المسلحة وصاحب النفوذ القوي في القيادة القومية لحزب البعث، خاض معارك خاسرة طيلة عامي 66-65 في محاولة لتعزيز النفوذ الحلبي والإسلامي داخل القيادات البعثية الحاكمة، ووجد نفسه هو والقيادة القومية وجهاً لوجه مع القوة العسكرية للقيادة القطرية الصاعدة كقوة وحيدة، وذلك في انقلاب شباط 1966، الذي أطاح به وبوزارة صلاح الدين البيطار حديثة الولادة حينها، ثم تم حل القيادة القومية وملاحقة أنصارها.
وكان ذلك نتيجة صراع طويل على مراكز النفوذ ضمن البعث، تفاعلت فيه استقطابات مصلحية، وكرست أبعاداً طائفية وإقليمية وعشائرية. وتسببت تلك اللحظة في إخراج الرئيس أمين الحافظ إلى منفاه في الشقيقة–العدوة بغداد، وتجميد وعزل مشايعيه من تنظيمَي البعث العسكري والمدني، وغالبيتهم حلبيون.
أحدثت عملية طرد الكتلة الحلبية انخفاضاً قياسياً في التمثيل البعثي–الثوري لحلب في الوزارات السورية بين عامي 1966-1970، وهو المتدني أصلاً لضعف القواعد البعثية في المدينة، إلى أربعة وزراء فقط من أصل 120 وزيراً في الوزارات البعثية الخمس المتعاقبة، في حين تلاشى وجودهم نهائياً في القيادة القطرية الحاكمة فعلياً في الفترة نفسها الأرقام من دراسة إحصائية لنيكولاس فان دام في: الصراع على السلطة في سورية، منشور الكتروني..
خاتمة
تحسنت نسبة التمثيل الحلبي بعد ذلك نسبياً، لكنها لم تعد إطلاقاً إلى ما كانت عليه في زمن الاستقلال، الذي شكل مرحلة ذهبية لحلب استعادت فيها جزءاً من مجدها القديم أيام الولاية، وإن كانت مناطق نفوذها قد تغيرت، حيث شهدت نهضة اقتصادية مدهشة موازنة بين ريفها والمدينة، وناقلة لمشروعيتها إلى العمق السوري، كقاطرة للازدهار والنمو، لكنها سرعان ما عانت من عجز نخبتها السياسية عن مواكبة طموحها، وعدم قدرة حزب الشعب على تجاوز طروحات الوحدة مع العراق، وارتهانه مراراً للنفوذ العراقي، وعدم مواكبتها للتغير الديناميكي الحاصل في النصف الثاني من القرن الماضي، وصعود أفكار القومية العربية وحملتها من أحزاب جديدة أكثر تنوعاً وامتداداً على الساحة الوطنية، مما تسبب في بدايات النهاية للمشروع الإقليمي الحلبي. تكرس ذلك في الإبتعاد التدريجي والحاسم عن العراق، والتقارب المتصاعد مع مصر، حيث فقدت حلب من قوة الاندفاعة الأولى بعد الاستقلال، لتصل إلى دولة الوحدة مقصورة النفوذ على محيط إقليمي ضيّق عليها، ولم تستردّ أنفاسها منه بعد الانفصال، إلا ليعاد حشرها فيه قسراً، مع وصول التغيير الإجتماعي الجديد على يد الريف السوري والبرجوازية الصغيرة والطبقات الفقيرة الصاعدة إلى سدة الحكم عبر جهاز حزب البعث، الذي قام بدوره بنزع شرعية كتلة حلب الثورية نتيجة صراع داخلي على السلطة، ليتكرّس وضعها خلال القادم من الزمن في ظل البعث كمحافظة حلب.