يكثر الكلام والتحليل للوضع السياسي والاقتصادي السوري بينما يغيب عن القراء تحليل واقعي لوضع العمل الإغاثي في سوريا و أسباب تأخره، وفي بعض الأحيان فشله في تلبية حاجات الشعب السوري المنكوب. في هذا المقال سيتم تناول الجانب الإغاثي تحديداً في مجال العمل المدني، وسوف يتم تحليل أسباب تأخره التاريخية وتقديم أهمّ التحديات التيتواجه المنظمات الإغاثية السورية المنشأة حديثاً استجابة للمعاناة السورية مع بعض الحلول المقترحة.

نستطيع تقصي أسباب ضعف العمل الإغاثي في سوريا بدايةً إلى تفعيل قانون الطوارئ الأحدث في فترة انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في آذار (مارس) 1963. حيث نصت  المادة الرابعة من هذا القانون على العديد من البنود التي تسمح للحاكم العرفي العسكري بتقييد الحريات الشخصية و حرية التجمع و التنقل والانتظام في جماعات مدنية سياسية أو غير سياسية. والجدير بالذكر أن العمل بقانون الطوارئ هذا استمر منذ عام 1963 حتى عام 2011 عند انطلاق انتفاضة الشعب السوري، حيث تم تناول هذا الموضوع كمادة للإصلاح دون تغيير جذري. وبغض النظر عن مدى دقة هذا التحليل التاريخي فإن حدّ حرية التجمع والتنقل، منطقياً، سوف يحدّ قدرة أفراد المجتمع على العمل في جمعيات أهلية تعتني بقضايا معينة في مجتمعهم أو تعمل على خدمة قطاع من المجتمع هو أقل حظاً من غيره. قد يردّ البعض على هذا المسبب بطرح وجود منظمات غير حكومية على الأرض السورية تابعة للأمم المتحدة مثل اليونيسيف و اليونيسكو وغيرها إلا أنه من الواضح أن عمل هذه المنظمات كان محدوداً من الرقابة الأمنية الحديدية، بدليل عدم السماح لهذه المنظمات  بالتحقيق في العديد من المخالفات الإنسانية أو بإجراء دراسات علنية عن وضع الجمهورية العربية السورية آنذاك، ناهيك عن عدم قدرة أي متطوع سوري على الانضمام للعمل في هذه المنظمات غير الحكومية من دون تصريح أمني أو مراقبة أمنية مستمرة وفقاً لقانون الطوارئ المعمول به.

المسبب الثاني، إلى جانب عدم الممارسة هو ضعف وصول الشباب السوري إلى علم المنظمات أو ما يُعرف ب(organizational studies)، وهو علم قائم بحد ذاته يتناول بالدراسة أفضل الأساليب لإنشاء المنظمات بشتى أنواعها وكيفية إدارتها وتنميتها وتمويلها. ولذلك، عند بداية الجنون الذي مارسه النظام السوري على شعبه الأعزل، وقف السوريون (في داخل و خارج الوطن السوري) حائرين أمام هذا الكمّ الهائل من المآسي، فنشأت مئات المنظمات الإغاثية السورية ومئات المواقع على الإنترنت لجمع التبرعات دون حرفية وتنظيم وتنسيق يبث الثقة والدفئ في قلوب السوريين، متبرعين كانوا أو متلقّين.

بعد الحديث عن المسببات التي أدت إلى هذا التخبط، يجدر بنا سرد أهم التحديات أمام العمل الإغاثي السوري واقتراح بعض الحلول. أول وأهم هذه التحديات، في وجهة نظري، هي عدم الالتزام بالعمل الجماعي أو ما يُعرف ب(fidiciary duty).

العمل الجماعي عماده تقسيم المهام في المشاريع التي تهدف إلى تحقيق الغاية الأسمى للمنظمة. فما نلحظه الآن من وجود أفراد  يفضلون العمل بشكل فردي بدون الالتزام بتقسيم المهام، على الرغم من التزامهم بنفس الهدف العام، هو أكثر العوامل هدماً للعمل المنظماتي. يلغي هذا التصرف توزيع الأعمال بحسب الاختصاص والاهتمام، كما يلقي بالكثير من الضغط والتوتر على هذا الفرد الذي يعمل بشكل فردي وفي أغلب الأحيان بشكل صامت. وفي بعض الأحيان نجد بعض الأعضاء الذين لا يلتزمون بالعمل الجماعي إلا لغرض شخصي أو هدف قصير المدى قد لا يتنافى مع الهدف العام للمنظمة نفسها. ومن هنا نتعرف على التحدي الثاني الذي يواجه العمل المنظماتي وهو تعارض المصالح (conflict of interests). هؤلاء الأفراد قد لا يكونون أشخاص غير صالحين كما يتراءى للبعض، بل هم في أغلب الأحيان من أكثر الأفراد عطاءً للمحتاجين ولكنهم لا يرتضون سلك الطرق الطويلة لتحقيق أهدافهم! ففي بعض الأحيان قد ترى من هو عضو في أكثر من منظمة بهدف خدمة مشروع واحد باعتقاده هو الأهم ويحاول من خلال هذه المنظمات تمويل هذا المشروع وبعد حصوله على التمويل قد ينعدم اتصاله بهذه المنظمات إلى الأبد!

نصل في رحلتنا الآن إلى التحدي الثالث وهو الاعتماد الخالص على العمل التطوعي. وبانعدام أي خبرة من قبل المجتمع السوري عموماً (في الداخل والخارج) بأصول العمل المنظماتي تنتشر الفوضى وتتبعثر الجهود وتضيع التبرعات وينعدم التسويق الصحيح للمشاريع أو التعاطي الصحيح مع حكومات دول المغترب التي ترعى وتقدم المنح للعديد من المشاريع المطروحة بشكل صحيح. هذا الانعدام لتوظيف الكادر الخبير في علم المنظمات والتسويق، وخاصة المحاسبة، سوف يودي بالمنظمة إلى تحدٍ جديد وهو انعدام الشفافية. فتتطاير الأرقام والفواتير هنا وهناك دون توثيق أو تعاطي مع المتبرع أو المتطوع الذي قد يشعر أن مجهوده في خدمة سوريا قد ضاع أدراج الرياح. كما قد يؤدي ذلك إلى مسائلات قانونية وتعقيدات قد تؤدي إلى إفلاس المنظمة أو إغلاقها أو في بعض الأحيان قد يعرض أفرادها لمحظورات قانونية ليس لهم بها علم! يقودني ذلك إلى التذكير بذلك الفيديو الذي انتشر على شبكات التواصل الذي يصور شاباً من خيرة الشجعان، فقد ساقاً وكسرت الأخرى خلال اشتباكات مع جيش النظام، فيشتكي سوء تقدير المنظمة الإغاثية لحاجات الناس.

رابعاً، وهو التحدي الأصعب أمام السوريين قاطبة بسبب الظروف الاستبدادية التي نشأنا في ظلها كسوريين، يظهر اتخاذ القرار أمام كل السوريين في المنظمات كبعبع عملاق يخرج من قمقم الذكريات ويعبق برائحة بدلة العسكرية، فيتحول الأعضاء في المنظمة إلى مستبدين صغار ينفذ كل منهم رأيه بالقوة مدعياً عمق الخبرة والمعرفة، فينعدم تمثيل الأعضاء في قرارات المنظمة، وتختفي أي في فرصة لتعلم أساليب الحوار والنقاش لإيجاد أرضية وسطى يتفق عليها الجميع ويشارك كل برأيه ومعلوماته. لذلك وجب التنويه إلى أن المنظمة التي تتمتع بمجلس إدارة متوازن  يتم اتخاذ القرار فيه بشكل جماعي وبديمقراطية تامة مبنية على المنطق والتجربة هي منظمة سورية قد قطعت شوطاً طويلاً في تجربة العمل الجماعي ويجب اتخاذها مثلاً والعمل على تطويرها بشكل أكبر. لن يغيب عن تصور القارئ كارثية الاستبداد بالرأي في العمل المنظماتي والتي سوف تؤدي بالضرورة إلى العديد من العجائب والمصائب،  كالخروج التام عن أهداف المنظمة، ثورة عارمة  لدى الأعضاء المهتمين بسبب عدم تمثيلهم، وتجاهل عجيب من الأعضاء الموجودين أصلاً بالاسم في المنظمة والذين قد يكونوا ذوي طاقات هائلة لم تستغل بسبب سوء القرارات.ي عني باختصار فوضى غير خلاقة البتّة!

أخيراً، في التحديات لهذا اليوم، نجد توفر المنظمات ذات الأجندة المنحازة في توجيه العمل الإغاثي كارثة حقيقية. قد يثور البعض عند الوصول إلى هذه النقطة بحكم أنه من المعروف من القاتل ومن المقتول ومن المتنعم ومن المحروم، ولكن من الواضح على الأرض أن النظام يضرب عشوائياً ويقتل برعونته من كان معه و من كان عليه ومن كان في الحقيقة غير مكترث للموضوع برمته. والالتزام بالعمل الإغاثي يملي على السوريين القادرين في الداخل و الخارج إغاثة المحتاجين قدر المستطاع دون تمييز بين تيار سياسي أو ديني أو عرقي أو جنس. وإلا بذلك تتحول هذه المنظمة إلى نسخة مصغرة من العمل الإغاثي الذي يدعي النظام القيام به، وأقل ما يقال عنه أنه مدعاة سخرية.

أين الحلّ؟ الحل يتم بإجراءات بسيطة لو اتخذتها المنظمات السورية الإغاثية لاستطعنا تلافي الكثير من الأخطاء في المستقبل. أولاً، دعوة الخبراء في العمل الإغاثي، خاصة السوريين في المغترب ممن تمكن من دراسة هذا المجال، لعقد ورش عمل تدريبية دورية للمتطوعين للتعرف على قوانين المنظمات غير الحكوميّة وغير الربحيّة في بلادهم، وللتعرّف على كيفية تطوير العمل الإغاثي وكيفية تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب.  ثانياً، توظيف أشخاص ذوي خلفية في المحاسبة و العلوم التنظيمية والتسويق لتسيير عمل المنظمة التنفيذي تحت إشراف مجلس الإدارة وبمشاركة أعضاء المنظمة قاطبةً. ثالثاً، التركيز على روح الفريق وبث الشعور المستمر لدى المتطوع أن عمله يساهم في مساعدة الشعب السوري وإبقاءه مطلعاً باستمرار على تطورات المشاريع التي انخرط فيها وسؤاله باستمرار عن أي مقترحات للتطوير والتجديد. رابعاً، الالتزام بأهداف المنظمة البعيدة المدى وعدم تشجيع روح العمل الفردي والأهداف الشخصية مهما كانت المشاريع المطروحة مفيدة، بل العمل على إيجاد حل وسط يؤدي إلى تنفيذ المشروع واستمرارية العضو في الاهتمام بمشاريع المنظمة الأخرى وأهدافها. وأخيراً، التواضع واليقين أن الكلّ يستطيع أن يضيف و يساهم ويساعد بما تيسر له من الوقت أو المال أوالموهبة وأن لا يعتقد أي فرد، خاصة في مجلس الإدارة، كما يقال بالعامي أن «الله خلقه وكسر القالب»!

قد يتساءل البعض: «وحضرتك مين لحتى نسمع نصايحك؟» بصراحة أنا مجرد مواطنة سورية في المهجر راقبت العمل الإغاثي في المغترب عن قرب وكنت عضو في مجلس إدارة منظمة إغاثية سورية مقرها الولايات المتحدة الأميركية. شاهدت مع أقراني الكثير وتعلمت الكثير وأحببت أن أشارك هذه الخبرة البسيطة مع إخوتي من السوريين في كل مكان، عسى ولعل نتوصل إلى مظلة عالمية للمنظمات الإغاثية السورية يتعاون فيها المغتربون وغيرهم من «أصدقاء سوريا» على إغاثة الشعب الملهوف الذي حلم مرّة بالحرية والديمقراطية والكرامة.

*من موقع شمس سورية. اقتباس مترجم من مقال The Dilemma of  Civil Society work in Syria –revisted