تشكّل جبهة النصرة مادة للنقاش والخلاف بين أنصار الثورة السورية، إذ لا يبدو أنّ للثوار أو المعارضين رؤية واضحة لكيفية التعامل مع النصرة. تتوزّع الآراء بين من يتخوّف من النصرة ويرى أنّ لخلافنا معها أولوية توازي أولوية إسقاط النظام، وبين من يرى تأجيل الخلاف مع النصرة إلى ما بعد سقوط النظام. يبدو أن جزء من مشكلة النصرة، ليس في غموضها فحسب، بل في غموض من يختلف معها أيضاَ. ما هو بالضبط خلافنا، أو خلافاتنا، مع النصرة؟
أحد أهداف النصرة المعلنة هو إقامة دولة الخلافة في سوريا. ما الذي نختلف عليه مع النصرة في هذه الدعوة؟ نقترح أنّ خلافنا مع الدعوة لإحياء الخلافة، سواء أتت من النصرة أم من غيرها، يجب أن يكون على مستويين مختلفين تماماً. الأول، في مبدأ الدعوة للخلافة، والثاني، سياسي، في أسباب رفضنا لإحياء الخلافة.
المستوى الأول، في المبدأ. يحق لأتباع النصرة، و لغيرهم، الدعوة لإحياء الخلافة في سوريا، أو خارج سوريا. كما يحق لغيرهم، الدعوة لدولة مدنية، أو علمانية، أو إسلامية، أو شيوعية، أو اشتراكية، أو ملكية… إلخ. من حيث المبدأ، لا يوجد ما يمنع أي من السوريين من التعبير عن آرائهم في طبيعة الدولة القادمة. كما يحق لنا، أن نختلف معهم في أطروحاتهم. المبدأ هنا أنّ لكل السوريين الحق في إبداء الرأي، والدفاع عن آرائهم، طالما لم يحاولوا فرض آرائهم بالقوة، أو لم يحاولوا قمع الرأي الآخر، بأي شكل كان. علينا أن ندافع عن أتباع النصرة، في حقهم في الدعوة لإحياء الخلافة.
إذن، يبدو أنّ خلافنا الأول، المبدئي، مع النصرة هو التالي: لا يبدو أن النصرة تريد أن تمنح الفرصة لبقية السوريين في أن يعبّروا عن آرائهم بحرية. ما يرشح من النصرة يزكّي أن النصرة تريد إقامة دولة الخلافة، بغض النظر عن رأي السوريين الآخرين. إن صحّ هذا، تكون النصرة هي الوجه الآخر للنظام.
بالمقابل، قد لا يرى البعض في أسلوب النصرة الغامض، أو ما يتواتر عن أسلوبها العنيف اتجاه من يخالفونها الرأي، أسلوباً مقبولاً، حتى من زاوية دينية. إلا أنهم قد يرون في الخلافة، أو في الدولة الدينية، الشكل الأنسب لسوريا المستقبل. هؤلاء يجب أن يكونوا حلفاءنا في مواجهة النظام، وأي مجموعات إسلامية متشددة، تريد فرض رؤيتها بالقوة على السوريين. كل من يدافع عن حرية التعبير، هو حليف لنا، بغض النظر عما يدعو إليه. بالتالي، ليس كل من يدعو للخلافة، أو لدولة دينية، يريد قمع السوريين. فقط أولئك اللذين يحاولون فرض رأيهم على كافة السوريين يشكّلون خطراً على مستقبل سوريا .
المستوى الثاني، سياسي. يدعو البعض إلى دولة دينية، ولكن دون إحياء للخلافة. قد يرى آخرون أننا بحاجة لدولة مدنية، أو علمانية، أو شيوعية…إلخ. الخلاف السياسي مع دعاة الخلافة مفتوح للجميع. هذا الخلاف مع النصرة يجب أن يكون مشرّعاً للنقاش. هنا نسجّل خلافاتنا مع النصرة بالتفصيل، ومع كل دعاة الخلافة أو الدولة الدينية، دون حرج أو تردّد.
لا يجوز أن يبقى الخلاف مع النصرة غائماً. ما نريده من النصرة، هو عبارات واضحة لمنهجها السياسي، وكيفية الدعوة للخلافة. إن كانت النصرة تريد التحول لحزب سياسي يدعو للخلافة، كأي حزب آخر، فعلينا الترحيب بها، والدفاع عن حقها في التعبير عن آرائها. إن كانت النصرة تريد فرض الخلافة بالقوة على كافة السوريين، فيجب أن نكون ضد النصرة. لا نريد استبدال استبداد باستبداد آخرلا أدعي هنا تقديم إجابات شافية لكيفية التعامل مع النصرة، إن ثبت أنها تريد فرض الخلافة بالقوة. .
في المقدمة التي كتبتها «مجموعة الجمهورية» لملف النصرة، نقرأ أن النصرة: «تتطلع إلى خلافة إسلامية في سورية، أي فرض نوع من الطوبى الماضوية، المنفصلة عن واقع مجتمعات اليوم وممكناتها، ويمتنع أن تتحقق دون طغيان بلا ضفاف». يبدو أن الخلاف السياسي جلي، بين من كتب تلك المقدمة، ومن يدعو لدولة الخلافة. يرى الكاتب في «مجموعة الجمهورية»، أن النصرة، في دعوتها للخلافة، منفصلة عن واقع المجتمعات وممكناتها. من وجهة نظر التمييز السابق، هذا خلاف سياسي في الرؤى. ولكن يبدو أن هناك خلط بين هذا الخلاف، والخلاف المبدئي. هل خلافنا مع النصرة أنها تسعى «لفرض نوع من الطوبى الماضوية»؟ أي أنها لا تقبل بالرأي الآخر، بل تريد فرض رؤيتها بالقوة؟ هنا، نوافق «مجموعة الجمهورية» على أن هذا خلاف رئيسي، ولكن ندعو لفصل هذا الخلاف، عن الخلاف السياسي، الذي يرى أن مشروع إحياء الخلافة منفصل عن الواقع. بالمقابل، يبدو من الجملة الأخيرة: «ويمتنع أن تتحقق (أي دولة الخلافة التي تدعو إليها النصرة) دون طغيان بلا ضفاف»، أن الخلاف مبدئي مع كل من يدعو لدولة الخلافة، لأنها من حيث المبدأ مستحيلة التحقيق دون طغيان. هنا أود، إن صحّ تأويلي، أن أسجّل اختلافي مع الأصدقاء في «مجموعة الجمهورية». لا أرى أن الدعوة لإحياء الخلافة تمتنع دون طغيان. إن رأت النصرة أن تدعو للخلافة، دون قمع الآخرين، فعلينا أن ندعم هذا التوجّه، و نرحّب به.
يبدو أن معظم التحليلات و المقالات التي تتناول النصرة لا توضّح، كما في النص أعلاه من «مجموعة الجمهورية»، أسباب الخلاف مع النصرة. نجد، على سبيل المثال، في مقال ياسين الحاج صالح «ما هي مشكلتنا مع جبهة النصرة؟» ومقال حازم الأمين «عن «جبهة النصرة» التي تقاتل النظام من خارج الثورة» نقاش لجوانب متعددة من إشكالية النصرةلم نتطرّق في هذا المقال إلى أي من هذه الجوانب. يهدف هذا المقال إلى نقاش الدعوة لإحياء الخلافة فقط.، ولكن يبقى الخلاف مع الدعوة لإحياء الخلافة غامضاً، بالنسبة لي على الأقل. أقترح أن فصل الدعوة لإحياء الخلافة عن الجوانب الأخرى يساعد في عدم استعداء الرأي العام السوري المتدين، من جهة. ولكن، وهو الأهم، من جهة أخرى يساعد من يختلف مع النصرة أن يكون متّسقاً، إن كان إلى جانب الثورة. إن كانت الثورة ضد النظام السوري قد قامت لاحتكاره السياسة واستعباده الناس، فالمبدأ ذاته يجب أن ينطبق على النصرة. طالما لم تقمع النصرة السوريين، فالدعوة لإحياء الخلافة، هي مشروع سياسي كأي مشروع سياسي آخر. إن دعت لقمع السوريين، فيجب على الثوار أن يكونوا ضد النصرة.
الثورة السورية تعيد السياسة إلى السوريين، وعلى الثورة ضمان حرية التعبير لكل السوريين بلا استثناء. من حيث المبدأ، لا أعداء للشعب السوري إلا من يمنع السوريين من التعبير عن أنفسهم. هذا هو النظام. أما الثورة فمفتوحة للجميع، لمن يدعو للخلافة، ومن يدعو للعلمانية. لا أبواب مغلقة إلا أمام أولئك اللذين يريدون الاستبداد مرةً أخرى.