متحفزاً للكتابة في ملف هام عن جبهة النصرة في موقع «الجمهورية» شرعت في إنشاء ملف جديد على حاسبي. كانت الورقة بيضاء، خلاف أفكاري الرمادية المتداخلة. هناك الكثير مما يمكن أن أقوله، بدأت بترتيب أفكاري، فكان لا بد من سؤال البداية: ما هي جبهة النصرة؟ أليست تنظيماً أصولياً نخبوياً يعتمد البنى الهرمية والعمل السري والعقيدة الطليعية والتبشير المجتمعي والعنف الثوري؟ إنها، تبعاً لهذه المحددات، تنظيم لينيني إسلامي!

فلنفترض ذلك. ولكن، ألا يحتاج هكذا تنظيم إلى سياق تاريخي استثنائي ليظفر بالسلطة أو يحدث تغييراً عميقاً في بنية المجتمع؟ هل يعقل أن تكون المناخات التي تسقط عن النظام الحالي كل شرعية واليائسة من إمكانية مساعدة الغرب في تحقيق الانتقال الديموقراطي والرافضة لسياسي الفنادق ومناضلي الكيبورد هي ما يساعد جبهة النصرة على تسويق نظريتها التي ترى في سوريا أضعف حلقات السلسلة وأرض الخلافة الموعودة.

يبدو أن منشورات دار التقدم المبتذلة وأمثولة الثورة البولشفية قد أطّرت تفكيري، لا بد من ذلك، ففي سوريا كما في باقي بلدان الربيع العربي دخل الشعب مسرح التاريخ ولم يعد من الممكن فرض تلك الأيديولوجيات الطليعية، وحيوية المقاومة المصرية لأخونة الدولة رغم تفشي الفقر والبطالة والأمية خير دليل على ذلك. بل إن ما تشهده تونس من نشوء قطب مدني يثبت أن الأدلوجات الإسلامية السلطوية المفتقرة لجاذبية ما سبقها من أدلوجات قومية ويسارية لا يمكن أن تكون إلا حالة عابرة سيبتلعها التاريخ خلال سنوات قليلة. وأكثر من ذلك، فالأخوان المسلمون السوريون وهم القوة الإسلامية الأكثر قدرة على إعادة إنتاج الأمثولة البولشفية سورياً، أدركوا أن المناخات الشعبية لن تسمح لهم ببلورة شرعية كفيلة بالقضاء على التعددية كقيمة أصيلة من قيم الربيع العربي، وهو ما اضطرهم إلى التحالف داخل المجلس الوطني مع قوى ليبرالية ويسارية وازنة وذات مستقبل واعد في سوريا.

فما هي العوامل التي خلقت جبهة النصرة إذاً؟ لا بد أنه التعفن الذي حل بسوريا منذ شهور، فتلك الأرياف المقاتلة تحولت إلى أنقاض، لم تعد جبهة المقاتلين بدايات ساحة المظاهرة لحمايتها، إنها اليوم تلك الأنقاض التي تخلفها براميل الموت وطائرات الحقد. زد على ذلك أن المقاتلين لم يعودوا بين أهلهم، فقد هجر الأهالي بلداتهم، ولا بد إذاً من تضخم أنا المقاتلين الذين أصبحوا الأعمدة الوحيدة القائمة في بلداتهم، عدا عن غياب أي نقد مجتمعي حقيقي، فالمجتمع غير موجود، إنه لاجئ ونازح، شهيد وجريح، وما من دعم حقيقي ومسئول للمعارضة، فلا بد للمقاتلين من تمويل حتى لو اضطروا إلى الارتهان أو الجريمة، وفي ظل غياب الدعم تغيب عن المعارضة الهيبة والمشروعية والمؤسسات فلا بد أيضاً من مشروع بديل، إنه ما تنطق به ألسنة المقاتلين على صور اليوتيوب من تأتأت إسلامية شعبوية وتعبوية، إنه الفوضى التي ترافق التحرير نظراً لغياب الدعم والخبرة والكفاءات والتواصل. هذه الحالة هي ما يجتذب جبهة النصرة، وهي أيضاً ما يجتذب سياحاً يابانيين لزيارة الجبهات حسب بعض التقارير!

ويبقى السؤال، ما سبب هذا التعفن؟ جميعنا يعرفه، بل إننا نسمعه يومياً من المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين، إنها الغطاءات السياسية والاقتصادية التي تقدمها روسيا وايران وتخاذل الغرب عن القيام بمسؤولياته. ولكن لا ينبغي أن نكون منحازين، علينا الاستماع إلى ما يقوله الغرب، إنه يريد أن تتحقق وحدة المعارضة وأن تقدم ضمانات للأقليات، إنه يقول أن روسيا تمنعه من الحصول على الشرعية الأممية للتدخل.

يبدو ما يقوله الغرب أقرب إلى الذرائع، بل ولا تبدو هذه الحجج إلا خميرة ذاك التعفن. فكيف يمكن لمجتمع مخنوق منذ أربعين عاماً أن يفرز معارضة مؤسساتية واضحة البرامج وجوانية الحضور، وقادرة بالتالي على التوحد ولعب دور القيادة والتوجيه. بل إن ما أفرزته الانتفاضة من تعبيرات سياسية أكثر تماسكاً مما هو متوقع، وكان من الممكن لو توفر الدعم الكافي أن تتحول إلى بنى مؤسساتية حقيقية قادرة على بلورة مشروعيتها وفرض هيبتها، وهو ما لم يفعله الغرب. أما تطمين الأقليات فلا يكون إلا بالقضاء على ذلك التعفن المستقطب لكافة أشكال التطرف، لا بالتحول إلى خميرته. أما عن العقبة الروسية، فالدعم الكافي للمعارضة وتشكيلاتها العسكرية كفيل بحفر قناة السويس في تلك العقبة!

«أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا»، هذا ما يبدو أنني وصلت إليه، وهذا ما قالته لافتات المتظاهرين قبل عدة أسابيع في مظاهرات الجمعة المعنونة «أمريكا، ألم يشبع حقدك من دمنا»، اعترف أننا استعدنا موات ما قبل الربيع العربي، إنه الإحساس بابتلاع السياق التاريخي لفردانيتنا.

كل ما سبق من كلمات تدخل في نطاق ما يمكنني قوله، وهذه الكلمات بطبيعة الحال لا يجب أن تتواجد جميعها في هذا النص، بل يجب أن أرتبها شفاهيةً لأعيد إنتاجها بعد الانتقال من سؤال «ما يمكنني قوله» إلى سؤال «ما ينبغي أن أقول وما أريد قوله»، والواقع أنني فعلت ذلك ولكنني لم أجد إجابة مقنعة على السؤال الثاني، بل وجدت نفسي أتساءل عن فائدة القول وعضويته في هذا السياق.

أغلب الظن أن ما كتبته قد كتبته لأعبر عن غصتي وعن غصة تلك المصورة الفوتوغرافية السورية التي قالت لي أنها عندما ذهبت لتصوير معاناة اللاجئين السوريين في أحد المخيمات لم يسمح لها حياؤها ومعاناتهم أن تخرج الكاميرا من حقيبتها، فقد صورهم كثيرون قبلها دون جدوى، وأصبحت الكاميرا صفعة إهانة تحولهم إلى متحف للعجائب، فكان كل ما استطاعت فعله هو الجلوس معهم وتحسس معاناتهم ومحاولة التحول إلى آخر بينهم، يبتلعه المخيم… والسياق التاريخي.