لقد بولغ بموضوع موت العلمانية العربية. ومانترا العلمانية في البلدان العربية هو أعقد بكثير من مجرد فصلٍ واضحٍ بين المؤسسات السياسية والدينية ومستقبل العلمانية في المنطقة أعقد بكثير من مجرد صعود الإسلامية.
في إحدى المرات، أكد ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث في سوريا، أن «سلطة/قوة الإسلام بقيت حية لتعاود الظهور في شكل جديد هو القومية العربية». في ذلك الوقت، أثارت هذه الحجة غضب الإسلاميين، الذين أرادوا أن يؤسسوا لحضورٍ إسلامي أقوى وأوسع. على العكس من ذلك كان يعتقد سيد قطب، أحد أهم مرشدي حركة الإخوان المسلمين، أن القومية العربية كانت قد «استهلكت دورها في التاريخ العالمي».
في المجتمعات التي يكون فيها الخط الفاصل بين الدين والثقافة وبين الفضاء العام والفضاء الخاص وبين ممارسات الأفراد والجماعات ملتبساً، فإن وزن العلمانية على الأفراد، على المدى البعيد، سيكون إشكالياً على أقل تقدير.
كما تبيّن ملاحظة عفلق، فإن القومية العربية، كما فهمها، كانت ماتزال متعلقة بالإسلام ولكنها كانت تتسع للعلمانية.
زادت تلك المناوشات غير المنتهية بين الحركات القومية كالبعث والحركات ذات التجاه الإسلامي، زادت من الأسئلة حول أصالة العلمانية في العالم العربي. كان ذلك حال مصر وسوريا والعراق، خاصة بعد حصولها على استقلالها واستخدامها الممارسات القمعية الوحشية لإبعاد العقائد المعارضة، الدينية منها أو غير الدينية.
في سنوات مابعد الاستقلال، أدخلت حكومات بعض الجمهوريات العربية، العلمانية اسماً، أدخلت الإسلام في صياغات مختلفة لخطابها لتصل إلى جمهور أكبر.
ولكنها كانت أيديولوجيا هجينة. تلك الدول، التي كانت بالاسم علمانية ولكنها بالحقيقة كانت دولاً أمنية، استخدمت الإسلام كقشرة خادعة.
أثناء ذلك، كان الإسلاميون يطورون أيديولوجياتهم واستراتيجياتهم وأهدافهم في ظل تعذيب أقبية الدولة.
هذا ما هيأ للظرف الذي كانت فيه تلك المجموعات المنظمة مستعدة لجني مكاسب، بعد أن حمل الربيع العربي تغييراً هائلاً على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاقتصادية.
في الواقع، الانطباع العام هو أن الفصائل الإسلامية في الجمهوريات تُبعث من جديد بعد سنوات من النفي والإقصاء من الفضاء العام.
في حين امتنع الإسلاميون بدايةً أو ترددوا في الالتحاق يالثورات، قاموا لاحقاً بتوجيه ضربة ضد العلمانيين والليبراليين الذين حملوا معاً عبء الثورات بكل تصميم وشجاعة.
وخاصةً في مصر، ما بدأ كنشوة عارمة وعامة بإسقاط الديكتاتور، أصبح اغتراباً بالنسبة لغير الإسلاميين، فنفس المجموعات التي كانت يوماً مضطهدة ومقموعة أصبحت اليوم تقوي نفسها لتفرض هيمنتها السياسية.
في النهاية، فالإسلاميون في مصر هم مثال جيد لنعرف لما العلمانية لم تنته بعد. فجاذبية سياسة الإسلاميين بدأت تتناقص شيئاً فشيئاً حين بدأ الجمهور الواسع يفهم نواياهم الحقيقية.
بالرغم من فوز الفصائل الإسلامية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر، فإن إحصاء صناديق الاقتراع الأولى ليس مؤشراً دقيقاً لرؤى سياسية أوسع. ربما كانت بكل بساطة ردة فعل على ما كان قبلاً. في الواقع، كلما أجهر الإخوان والسلفيون علناً برؤاهم السياسية كلما تناقصت شعبيتهم.
والانتشار المفاجئ للقنوات التلفزيونية الدينية كشف القناع عن نقص وعيهم السياسي أو معرفتهم العميقة في الدين.
يمكن للعرب أن يروا كيف تستخدم تلك المجموعات خطاباً عبثياً ولهجة عدائية، تلوم وتشتم الأقليات، تقلل من أهمية النساء و تهدد العلمانيين والليبراليين.
بينما يعطون لأنفسهم الشرعية ليتهموا الآخرين بالكفر (العقيدة التكفيرية)، يتغاضون عن أنهم يسببون رفض المسلمين وغير المسلمين لهم، المؤمنين وغير المؤمنين.
يقول الأكاديمي الفرنسي أوليفيه روا، وهو الذي كتب بشكل واسع عن الإسلام السياسي: «هناك فجوة ثقافية بين الإسلاميين وجيل الشباب، هذه الفجوة لا تتعلق بالإسلام بقدر ما تتعلق بما يعنيه أن يكون المرء مؤمناً».
البروفيسور روا على حق: هناك عناصر شابة من المجموعات الإسلامية كانت قد تركت تلك الحركات طوعاً ما أن سنحت لها الفرصة أن ترى التنظيمات من الداخل. التناقض بين الإيديولوجية المعلنة والأفعال الذرائعية، الفساد الداخلي واضطهاد المعارض لهم، كل ذلك دفع بالعناصر الشابة إلى الرحيل.
على المدى القصير، فشلت الحركات الإسلامية في الاستجابة لأهداف الشعب. بدأت مصداقيتهم توضع موضع الشك عندما أخذوا يغيروا باستمرار سرودهم وتحالفاتهم، يبحثون عن التفوق السياسي أو يطلبون تطبيق الشريعة بالقوة.
يكمن التحدي الحقيقي للأحزاب الإسلامية بتقديم أجندة اقتصادية مفهومة مع نتائج ملموسة، تضم التعليم، النمو الاقتصادي والعمل. فقد نسيت الأحزاب الإسلامية أن الانهيار الاقتصادي كان عاملاً رئيساً في التحضير للربيع العربي.
لم يفهموا أن جاذبيتهم ستذبل بين داعميهم إن لم تترافق مع تطور اجتماعي اقتصادي. فانفتاح الجمهور العربي على الخطاب الديني دون فعل سياسي ضيق.
لاشيء من كل هذا يعني أن العلمانية ستعود. فيبدو أن الأحزاب العلمانية ارتكبت نفس الأخطاء. حتى الآن، مازال تعبيرا «إخوان» و«علماني» يحملان مدلولاً اجتماعياً موصوم. مع أن الحركات القومية العربية في فترة الاستقلال، بعد الحرب، كان تسعى لإعادة إحياء العلمانية، كان هناك وبالتوازي إلغاء للحركات الإسلامية وأعضائها. الصحوة الجديدة الآن هي للمجموعات الإسلامية، ولكن زوالهم قد يأتي بسرعة، تاركين المكان لتحالفات علمانية وعلمانية أكثر تنظيماً، قد تتعلم من الماضي وتحاول أقلمة المثل العلمانية بحسب السياقات الوطنية الخاصة.
المعركة بين الإسلاميين والعلمانيين سيبقى مستمراً وتطور العلمانية سيعاود زخمه. قد لا يحدث ذلك على المدى القصير. قد تتغير الظروف الخارجية لصالحهم. إلا أن المجموعات العلمانية ولكي تدعّم تأثيرها السياسي، عليها أن تطور سردياتها، وأن تبلور أفكارها وأن توحد قيادتها.
لقد فقدت الأحزاب الإسلامية مصداقيتها، أسرع بكثير مما كان متوقعاً. إن تمادي التنظيمات الإسلامية سيكون له عاجلاً أم آجلاً نتائج وسيخلق فراغاً دينياً وسياسياً جديداً سوف يساعد الأحزاب العلمانية. سيتغير السجال العام. وما بدا يوماً مستحيلاً سيبدو فجأة حقيقي جداً.
إعادة إحياء العلمانية هي سيرورة. هي أمل، أمل ألا تكون تضحيات الشعب الذي قاتل للتخلص من الديكتاتورية قد ذهبت سدىً. هي دحض كذلك لفكرة أن العالم العربي، بتاريخه وحضارته وإبداعه وذكائه لا يمكن أن يكون له سوى مستقبل إسلامي.