منذ وقت مبكر من الثورة السورية أخذت تظهر حساسيتان في أوساط المعارضة التقليدية والجديدة. حساسية تتماهى مع الثورة كعملية صراعية موجهة نحو إسقاط النظام، وتستمد من هذا التماهي شرعيتها؛ وحساسية متباعدة عنها الثورة كعملية صراعية، لكنها تستمد شرعيتها من اعتناق هدف الثورة المفترض، التغيير الديمقراطي.
بسبب التصاقها بالثورة، تخفق الحساسية الأولى في أن تقودها؛ وبسبب انفصالها عنها تخفق الحساسية الثانية في أن تقودها أيضا ً. لا يمارس المتماهون (المجلس الوطني والائتلاف الوطني…) السياسة لأن الثورة التي يستندون إليها هي كل سياستهم، ولا يمارسها المنفصلون (هيئة التنسيق وتشكيلات مقاربة) لأنه لا وزن ذاتيا ً لهم يسند دعواهم إلى «الحل السياسي».
أما محاولة الجميع بين الثورة كصراع والسياسة كاستثمار للصراع بأدوات أخرى فأمر لم يباشره أحد.
ومن هذا الباب لقيت «مبادرات» السيد معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني اهتماما ً أكبر من المتوقع. لقد جاءت لتملأ مكانا شاغرا ً، ولتفتح، لأول مرة منذ بداية الثورة، بابا ً لمقاربة ديناميكية تستند إلى فعل الثورة على الأرض، وعمل المقاومة المسلحة الذي يواجه النظام في عشرات المواقع في البلد، وتحاول في الوقت نفسه محاصرة النظام سياسيا ً وإظهاره طغمة عدمية تصر على حلها الحربي المدمر. فتح باب السياسة ليس خسارة للثورة، بل هو خسارة للنظام وضغط عليه وإحراج له.
وليس صحيحا ً القول إنه لا شيء يحرج النظام الذي قتل عشرات ألوف السوريين، وأظهر أنه أسوأ من أسوأ توقعاتنا. بلى، إن من شأن مبادرة سياسية تقترح، مثلا ً، أن يتنحى بشار الأسد الذي ورث الحكم دون وجه حق، وتعد بأن تُقيد المحاسبة القانونية لأركان حكمه في إطار منضبط، وترفض كل محاولة للانتقام وتتعهد بمقاومتها من قبل الثورة، وأن يربط ذلك بحرية الشعب السوري والمساواة بين السوريين وصون الكيان الوطني…، من شأن ذلك أن يضغط على النظام على نحو ما كانت تضغط مبادرات فلسطينية للحوار على إسرائيل في ثمانينات القرن العشرين. كانت إسرائيل تغتال أمثال إبراهيم الصوص وعصام السرطاوي لأنهم كانوا يلتقون بيساريين أو سلاميين إسرائيليين في أوربا، ويناقضون بمجرد وجودهم روايتها العدمية عن فلسطينيين إرهابيين يرفضون وجودها ويريدون قتل اليهود.
وظاهر منذ الآن أن «مبادرات» الخطيب أحرجت النظام، وكشفت أنه ليس مستعداً لأي تفاوض مع معارضين جديين، وهي لم تؤثر سلباً على الثورة، رغم ما لقيته من تحفظ واعتراض في الائتلاف الذي يرأسه الخطيب بالذات، ومن ناشطين في إطار الثورة في الداخل.
على أن الفضل في انعدام هذا الأثر السلبي هو للنظام في الواقع، أو لتطرفه وعدميته التامة. لو قبل التفاوض لكان مرجحا ً أن ينفتح باب الاختلاف داخل الائتلاف حول مقدمات التفاوض وأهدافه ومن يفاوض من… إلخ. لا يزال يحمينا من الانقسام اليوم أن النظام يعتبر مجرد اعترافه بوجودنا تنازلا خطيرا ً. قد يضطر في أي وقت إلى ذلك. وسيكون هذا جيدا ً أن أحسنا استغلاله وتصرفنا بتواضع وثقة. إنه باب يمكن توسيعه لتدخل منه رياح أقوى تطيح بالنظام.
ما يلزم اليوم هو مبادرة جدية، تتمسك بهدف الثورة المباشر، إسقاط النظام، لكنها تحاول اختصار آلام السوريين، ويستحسن أن تُقدّم بعد إنجاز مهم عسكريا تحققه الثورة (طرد النظام من مدينة مثلا أو تحرير مطار…).
ومن شروط جدية المبادرة أن تنال إجماعا ً داخل الائتلاف كيلا يتسبب الاختلاف عليها في تداعيه، فنكون كمن اخترق خطوط العدو لكن جبهته الداخلية انهارت.
هذا ما لا يبدو أن السيد الخطيب يهتم به بقدر كاف، وهو مخطئ في ذلك كثيرا ً. كلامه على أنه ثائر وليس سياسيا ً أخرق في أحسن الأحوال. إنه كلام شعبوي، يفتقر إلى الجدية والحصافة. الخطيب في موقع سياسي على رأس أهم تكتل سياسي سوري معارض، إذن هو سياسي، وعلى السياسي أن يحترم السياسة. احترام السياسة صفة للقادة الديمقراطيين، بالمناسبة، أما ازدرائها فهو مميز للطغاة. ومن التهافت أن نعمل على تأميم السياسة، وأن ينشط السوريون سياسيا ًويقتحمون بقوة المشهد السياسي في بلدهم، بينما يعبر قادتنا الذين ظهروا بفعل هذا الاقتحام الجسور عن ازدرائهم للسياسة، إن باسم الثورة ذاتها أو باسم الإنسانية، أو باسم الشعب وآلامه.
والخلاصة أن ما يمكن أن تكون عناصر سياسة ديناميكية هو الارتباط بالثوار في الداخل والعمل على نيل ثقتهم، والحفاظ على وحدة الائتلاف (والتواصل الودي مع من قد يرغب بالتواصل من تشكيلات المعارضة الأخرى)، وتقديم مبادرات سياسية مقتضبة جدا تسهم في تحقيق هدف الثورة.
إن استجاب النظام، كان بها ونَعِمتْ. هذا سيفتح بابا ً لتنازلات إضافية منه، ربما تتسبب في شق معسكره وإضعافه أكثر. وإن رفض نكون أسهمنا بقدر ما في تعريته وعزله، داخليا ً وخارجيا ً. أي أضعفناه أيضا ً.
وماذا إذا استجاب على نحو مراوغ، بدفع دمية مثل علي حيدر للإعلان عن استعداده للقاء السيد معاذ الخطيب؟ هذا لا يملك تفويضا حقيقيا ً، ولا قيمة له. لكن لا بأس أن يلتقيه وفد شبابي (وليس من قادة المعارضة)، يشترط اعترافا ً علنيا ً من النظام بأن في البلد ثورة شعبية، وأن هذا الوفد يمثل الثورة، وأن الأمر يتعلق بتفاوض على تغيير النظام السياسي، وأساسا ً أسرة الأسد والمخابرات وأجهزة القتل، ويتيح لثائرين في الداخل مخاطبة الشعب السوري عبر وسائل الإعلام العامة.
هذا يكفي مبدئيا ً.
والثورة مستمرة.