تحاول هذه الورقة إلقاء الضوء على بعض «مظاهر» الحوار بين السلطات السورية والأصوات المعارضة خلال عهد الأسدين «الأب والابن» بهدف مراجعة الظروف التي استخدمت فيها السلطة هذه الورقة الرابحة كوسيلة للاستمرار في إحكام قبضتها الفولاذية على مفاصل الحكم في سوريا، وصولاً إلى مبادرة الحوار الأخيرة التي اقترحها السيد معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة.
الضحية والحوار: فصول من حوارات الأسد الأب
قد يكون من المفيد إعادة قراءة أحداث الثمانينات وما بعدها ومراجعتها في ضوء ما يحدث اليوم، خاصة وأن «دليل المستخدم» المتمثل بالذراع الأمني الصارم، الذي أورثه الأب لابنه عام 2000، أثبت منذ رحيل حافظ الأسد فاعلية منقطعة النظير في التصدي لأي صوت أو حركة معارضة مهما كانت ماهيتها.
لكن بمواجهة التشابه في آليات النظام التعسفية تجاه الأصوات المعارضة، يوجد بون شاسع بين دوافع الثورة اليوم وبين دوافع حركة الإخوان في الثمانينات، وإن كان الجزم بأي واقعة تتعلق بتلك الحقبة يبقى افتراضاً غير دقيق تماماً. فالكثير من التفاصيل حول تلك المرحلة لا تزال مغيبة بسبب عسف وتكتم النظام أولاً، وثانياً بسبب أدبيات الإخوان الموتورة الملويّة العنق، لكن الاستدلال ومقاطعة المصادر ومقاربتها من شأنه أن يقدم رؤية أقل ضبابية.
يختزل الكثيرون مجزرة حماه بالأحداث التي وقعت في شهر شباط من عام 1982. بالطبع هذا التاريخ هو ذروة المقتلة المفتوحة التي قادها حافظ الأسد ونفذها أخوه رفعت الأسد مع عدد آخر من الضباط المخلصين للنظام.
لكن الوقائع والتاريخ يذكرُ وجودَ حوادث مفصلية أخرى للصراع بين الإخوان ونظام الأسد، امتدت على عدة سنوات منذ ما يقارب عام 1964، وأسفرت عن الكثير من الضحايا والمعتقلين. بلغت هذه المناوشات الدامية ذروتها في مفصل عام 1979- 1980، تلتها مناورات سياسية محمومة، بدت ظاهرياً وكأنها تهدف إلى نزع فتيل الأزمة، لكنها في جوهر الأمر لم تكن سوى تمهيد بطيء للضربة القاضية في شباط 1982.
تتشابه كثير من تفاصيل الصراع الإخواني – البعثي مع ما يحصل اليوم في سوريا، لا سيما وأن الأسد الابن اختار اتّباع أسلوب الأسد الأب بحذافيره، بهدف التصدي للثورة السورية، ليس فقط على صعيد الأدبيات والخطابات («عملاء» الأب- «مندسّو» الابن)، بل كذلك على صعيد الآليات التنفيذية؛ يعزز ذلك استمرار وجود شخصيات مشتركة بين المجزرتين في مفاصل الحكم حتى اليوم. مما لاشك فيه أن نظام الأسد لم يكن ليسمح لأي صوت معارض بالعلو فوق صوت دكتاتورية البعث، سواء كان من اليمين أو اليسار، لكنه وجد في حركة الإخوان المسلمين وطليعتها المقاتلة آنذاك ضالته، فترجم إرادته في التمسك بالحكم إلى أقصى مستوياتها. لكن حافظ الأسد بما عرف عنه من دهاء وبطش مهد الطريق أمام ضربته الساحقة بسلسلة من الخطوات شرعنت استخدامه للقوة وجعلته يبدو أمام الرأي العام مرغماً على اللجوء إليه، ليصبح العنف دواءً مراً لا بد منه.
لقد احتاج الأسد الأب حينها أن يبدو كحاكم ديمقراطي منفتح، وأن يظهر بمظهر الضحية التي تواجه قوة متشددة متطرفة ومسلحة، لذلك سمح بتسريب كميات محدودة من السلاح إلى أيدي شباب الإخوان كانت كفيلة بإشعارهم بتفوق عسكري نسبي، ثم أعقبها بإجراء سلسلة من الخطوات السياسية المبنية أساساً على استغلال نقاط ضعف التنظيم الإيديولوجية والأخلاقية، كالنزعات المتشددة والتوجهات الطائفية والانقسام بين القيادات الثلاث المركزية (أبو غدة، العطار، وحديد).
كل ذلك دعم توجهه نحو «شيطنة الإخوان»، معمقاً الصفة الطائفية للصراع بوسائل عدة، أبرزها اغتيال رموز وشخصيات مرموقة وإلصاق التهمة بـ«الطليعة المقاتلة»، كما هو الحال في حادثة اغتيال الحقوقي المعروف الدكتور محمد الفاضل عام 1976(أَلصِقت تهمة اغتياله حينها بالطليعة المقاتلة، رغم أن كثيراً من المراجع تشير بأصابع الاتهام لرفعت الأسد الذي اعترض الفاضل حينها على تسلطه على الحياة الأكاديمية، وكان له مواقف حادة من سياسات النظام).
استكمالا لسلسلة الخطوات الاستعدادية، كان لابد للأسد من خطوة أخيرة تمهد البيت الداخلي والرأي العام السوري لتبرير اتخاذ أي خطوة متشددة، وهي خطوة إطلاق «الحوار». فقبيل آذار 1980 علت في صفوف الإخوان المسلمين أصوات معتدلة دعت إلى تلقف فرصة «الحوار» (وليس المفاوضات) التي دعى إليها الأسد الأب في أواخر الـ٧٩، خاصة بعد الاعتقالات الكثيرة التي طالت صفوفهم، وبعد انتقال الكثير من القيادات الإخوانية إلى الخارج للحفاظ على سلامتهم.
لقد أدركت بعض قيادات الإخوان ضعف موقفها أمام تهور الطليعة المقاتلة وتسلحها، وانقسام التنظيم على ذاته إزاءها، وأدركوا تراجع الحاضن الاجتماعي للحركة في مدن عدة، خاصة بعد حادثة مدرسة المدفعية في حلب 1979.
لقد صدّقت تلك الأجنحة «المعتدلة» نيات النظام الكاذبة من أجل إنهاء الأزمة بأرخص التكاليف.
بدوره، لم يكن النظام بذلك الضعف كما خيل لكثيرين آنذاك، والسبب يعود إلى أمرين رئيسيين. أولهما: عدم قدرة الإخوان على نيل ثقة طبقة التجار الحذرين، مقابل تحالف يزداد وثوقاً بينهم وبين حافظ الأسد، هذا التحالف الذي أعلن عن نفسه مبكراً بلافتة رنانة احتلت سوق الحميدية أوائل السبعينات كتب فيها: «طلبنا من الله المدد/ فأرسل لنا حافظ الأسد». بالطبع هذه البادرة المبكرة لم تكن سوى رد فعل على سياسات صلاح جديد الراديكالية، لكن الأسد استطاع التقاطها وترجمتها إلى شراكة غير معلنة، اتضحت ملامحها أكثر في أواسط الثمانينات وكان أحد وجوهها العلاقة الوطيدة بين الأسد الأب و«شهبندر» تجار دمشق بدر الدين الشلاح، وتَوّجت بدعوة الأسد للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر إلى مزرعة الشلاح الشهيرة في الريف الشامي أثناء زيارة كارتر لدمشق.
أما عامل القوة الثاني فهو الجيش. لقد خسر الأسد بسبب عسكرته للمجتمع وسعيه الحثيث لتطييف القوات المسلحة، القواعد الشعبية التي أوصلته إلى الحكم، لكنه استطاع الاحتفاظ بولاء أعمى من قبل الجيش، ومن قبل طبقة ضباط تحكمها اعتبارات إيديولوجية تارة، وطائفية تارة أخرى.
كان عرّاب الحوار مع السلطة والوسيط الأساسي فيه آنذاك الشيخ الحلبي أمين يكَن، الذي شغل خلال الستينات منصب نائب المراقب العام للإخوان المسلمين، لكنه اعتزل العمل السياسي بعد أن سُجِن وعذِّب ونُفي، ليعود إلى سوريا بعد حصوله على عفو شخصي من حافظ الأسد عام 1976.
اشترط الإخوان المسلمون آنذاك كما يشير صدر الدين البيانوني، المراقب العام الحالي للإخوان المسلمين، في إحدى المقابلات، اشترطوا لبدء الحوار مع السلطة وحقن الدم، الإفراج عن معتقلي الإخوان والسماح بعودة المعتقلين والمنفيين من رجالات الحركة.
وفعلاً تم لهم ذلك، فتم الإفراج عن دفعات منهم منذ أواخر 1979 حتى آذار 1980، وقد أشار حافظ الأسد بوضوح إلى هذا الموضوع في خطابه في 8 آذار من العام نفسه، مع إنكار دائم لوجود اعتقالات واسعة في صفوف الإخوان، حيث ورد في ذلك الخطاب الذي اختلطت فيه لهجة التهديد بالتهدئة قوله:
«… ورغم ما ارتكب من أعمال الإجرام والقتل خلال سنوات فالموقوفون في بلادنا عددهم قليل. تحضرني هنا أو يحضرني حديث ذكره لي الوزير عبد الكريم عدي بعد أن عاد من حماه (….)، قال: عندما ذهبت إلى حماه وسألت مسؤول الأمن، قال: إن مجموع المعتقلين هو حوالي مئة وخمسين، طبعا خرج منهم منذ أيام عدد [و]لم يبق العدد الآن مائة وخمسين».
عاد الأسد بعد عشرين يوم لإلقاء خطاب آخر في 23 اذار 1980 من نفس العام بعد تصاعد الاعتقالات والعنف من جديد من جانب قوى النظام «المتشددة» كما تصفها بعض الأدبيات، حيث مضى باللعبة إلى أبعد من ذلك، مستغلاً شقاق الإخوان، فأسقط عنهم جرائمهم، مقابل تجريم الطليعة المقاتلة فقط، حيث قال:
«إن الإخوان المسلمين في سورية ليسوا مع القتلة، ولا خلاف لنا معهم إطلاقاً بل نحن نشجعهم، ولهؤلاء الحق، بل وعليهم واجب أن يقترحوا علينا وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة الدين ورفع شأن الدين».
خلال ذلك الشهر ظن الكثيرون أن الأسد انتزع بحكمته فتيل الانفجار، وبدأ الحديث يدور عن السلم الأهلي، وعن التشارك في الحكم، وعن التداول السياسي.
لكن هذا الحوار المفتعل لم يصمد أكثر من أسبوع واحد، ففي 31 آذار استعاد حافظ الأسد زمام المبادرة، وكشر عن أنيابه مجدداً، فبدأ سلسلة اعتقالات جديدة بعد أن ركّب تهمة مبتكرة، اعتبر بموجبها جميع الإخوان المسلمين أعضاء في الطليعة المقاتلة.
شملت سلسلة الاعتقالات هذه معظم من أفرج عنهم في العفو السابق، وأضاف الأسد الأب عليهم كثيراً من أعداءه، خاصة أولاء المنتمين لتيارات يسارية متهماً إياهم بالتعاون مع الإخوان (كان منهم آنذاك رياض الترك).
بعد شهور قليلة على إطلاق الحوار المزعوم أيضاً، أكمل الأسد حصاره السياسي فأصدر القانون المشؤوم رقم 49 الذي يعاقب بالإعدام كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين.
الجدير بالذكر أن النظام استطاع الترويج في دوائره الضيقة، وكذلك على صعيد عام غير معلن، لمقولة مفادها أن حافظ الأسد يريد التسوية والحوار مع الإخوان وحقن الدماء، لكن الجناح المتشدد الذي يمثله زعيم سرايا الموت رفعت الأسد هو من يصر على الحل العسكري الاستئصالي. يشبه هذا الطرح إلى حد كبير منظومة فكرية بعثية متجذرة سعت دوماً إلى تبرئة القائد المنزه عن الخطأ، ويمكن متابعتها في سنوات حكم الأسد الابن العشرة الفائتة، ابتداء بمقولة: «عبء الحرس القديم على الرئيس الشاب» التي راجت أوائل الألفين، مروراً بمقولة: «هو رئيس جيد، لكن حوله الكثير من الفاسدين» خلال السنوات الخمسة التي سبقت الثورة، وصولاً لمقولة: «ليبقى الأسد ويذهب أشرار فروع الأمن حقناً للدماء» التي راجت بعد اندلاع الثورة.
بالطبع أي فصل بين رأس النظام وجسده (أجهزة الأمن) لا يعدو أن يكون مناورة ساذجة أو سوء تقدير سياسي، إن لم نقل أنه اصطفاف مصلحي مبطن مع القاتل.
خلال عقد التسعينات بدأت سلسلة إفراجات عمّن بقي حياً من سجناء الـ٨٢، حاولت دوائر النظام أثناءها الترويج لذلك بوصفه «كرم أخلاق» من قبل حافظ الأسد تجاه «ثلة المارقين».
أُعيد بعدها إطلاق حوار غير معلن بين الإخوان- هذه المرة إخوان الخارج- ونظام الأسد حوالي عام 1997-1998، فقد كان الأسد الذي خسر وريثه المدرب جيداً ابنه باسل، يريد تنظيف البيت الداخلي قبل تسليمه للوريث الثاني الغر بشار. قاد الحوار في هذه المرة أيضاً عراب الحوار الأول نفسه الشيخ أمين يكَن، واشترطت قيادات التنظيم لطي صفحة الشقاق أن يتم إطلاق سراح السجناء وأن يسمح للمنفيين بدخول سوريا ورفع الحظر عن الجماعة. لكن الحوار انتهى أسرع مما كان متوقعاً، حيث تم اغتيال الوسيط يكَن عام 1999.
حوار العميان: محاورات الأسد الابن
في تموز عام 2000 ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه، وقدم ـ مدعياًـ في خطاب القسم رؤيته لسوريا أكثر انفتاحاً، جاء في الخطاب:
«إن الفكر الديمقراطي يستند إلى أساس قبول الرأي، وهو طريق ذو اتجاهين»، ثم أضاف: «فإذا أردنا أن نعالج مشكلة ما فيجب أن نتناولها من بدايتها وليس من نهايتها، وأن نعالج السبب قبل النتائج، وهذا يحتاج إلى مواجهة جريئة مع أنفسنا ومع مجتمعنا، وهي مواجهة حوارية نتحدث فيها بصراحة عن نقاط ضعفنا وعن بعض العادات والتقاليد والمفاهيم التي أضحت عائقاً حقيقياً في طريق أي تقدم».
تلقف هذه الرؤية عدد من الشخصيات «العاملة في الشأن العام» على حد تعبير ميشيل كيلو الشهير، إضافة إلى سياسيين وكتاب ومثقفين وناشطي مجتمع مدني سوريين، وترجموها إلى ما عرف لاحقاً بـ«ربيع دمشق» 2000 ـ 2001 مستلهما اسمه من تجربة «ربيع براغ 1968». خلال تلك المرحلة انطلقت عدد من المنتديات الحوارية التي بدأت تتناول صيغ إجراء إصلاحات سياسية تدريجية تحت سقف النظام وبالتشارك معه. كان منها منتدى الأتاسي ومنتدى الحوار الديمقراطي الذي أطلقه في منزله النائب الدمشقي آنذاك رياض سيف. صدر في ذلك الوقت بيان عرف ببيان ال 99، طالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وعودة المبعدين، ورفع حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة.
قبل بشار الأسد حينها بربيع دمشق على مضض، فقد كان يريد كسب الوقت ليرتب أوراقه بعد الرحيل المفاجئ للأسد الأب، وكان يحتاج أن يبدو بمظهر القائد الشاب المنفتح، حيث اتخذ عدة قرارات «ذات طابع سياسي ـ سياحي»، من أبرزها حينذاك منع تعليق صوره في الأماكن العامة، لكن هذه القرار الشكلي كما غيره لم يصمد طويلاً. فلم يمض أكثر من ستة أشهر قبل أن يصدر قرار أمني بإغلاق وحظر المنتديات السياسية الحوارية، وقبل أن يئد الأسد بتصريحه الشهير ربيع دمشق تماماً، حيث قال في مقابلة أجرتها معه صحيفة «الشرق الأوسط»، بأنه سمع عن البيانات لكنه لم يقرأها، وأضاف: «شخص يخاطبك من خارج بلدك فمن الطبيعي أن لا تهتم به. النقطة الثانية، سُميت بيانات مثقفين، هل هم مثقفون فعلاً أم ماذا؟». وبعدها عادت صور الرئيس تغزو من جديد شوارع البلد ومؤسساته، وبدأت قوات أمنه حملة اعتقالات شملت معظم الناشطين في حركة ربيع دمشق. كان منهم هذه المرة أيضاً رياض الترك، إضافة لشخصيات معارضة أخرى أمثال رياض سيف، عارف دليلة وآخرين، حُكموا لمدد تتراوح بين عامين ونصف وعشر سنوات.
في عام 2005 ظهر إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي على شكل بيان يدعو إلى «ضرورة التغيير»، لكنه لم يلقَ آذاناً صاغية من قبل حكومة الأسد التي احتفظت بموقفها المتصلب تجاه المعارضة السياسية الداخلية للسنوات الخمس القادمة أيضاً. ففي عام 2009 برز الدور التركي ليقود حواراً مفترضا بين الأخوان المسلمين والحكومة السورية، لكنه سرعان ما اصطدم برفض الأسد رفع الحظر عن الجماعة، مع إنكار وجود مزيد من المعتقلين وإدعاء الإفراج عن جميع سجناء الثمانينات. لقد كان هذا التصريح كارثياً على المستوى الإنساني حيث أدركت مئات العائلات ممن كانوا يعولون على وجود أبنائهم أحياء في السجون، أن أبنائهم قد أصبحوا منذ زمن في عداد القتلى، ولا جدوى من الانتظار مجدداً.
الثورة السورية والحوار
بعيد اندلاع الثورة السورية استلهم بشار الأسد، كما فعل خلال السنوات العشر الأخيرة، طريقة أبيه في الحكم، القائمة على التصلب في الجوهر، وتقديم التنازلات الشكلية. لا بل مضى أبعد من ذلك حيث استلهم أيضاً أساليب والده الوحشية في التصدي للاحتجاجات والمظاهرات. وبالتزامن مع استمرار ما دعاه الحل الأمني، دعا مرة بعد أخرى لإجراء «حوار» يقينا منه أنه سيحاور من موقع المنتصر، وليس من أي موقع آخر. لذا أطلق منذ 2011 عدة مبادرات «خلبية» للحوار، أكثرها إثارة للسخرية تلك التي لعب فيها فاروق الشرع دور العراب. فقد ساهمت بدفع اسم الشرع إلى الواجهة كقوة معتدلة، وهو أقصى ما يريده الأسد، حيث أن الرجل لا يعدو أن يكون في منصب فخري، معطل الصلاحيات، منزوع القوة، وبالتالي فأي قرار أو رأي يصدر عنه لا يعدو أن يكون بمثابة تصريح غير نافذ أو ملزم.
في خطابه الأخير أعاد بشار الأسد مرة أخرى طرح مبادرة «الحوار» بعد أن فصّل لها قناعاً جديداً كي تبدو أكثر تكاملاً، فوضع لها خطوات مرحلية، وجدولا زمنياً، وكذلك آليات تنفيذية، لكنها في الجوهر بقيت تكرس هيمنته على مفاصل الحكم.
لقد أسند مهمة إجراء الحوار للحكومة! هذا الأمر يمكن تفسيره ضمن منحيين رئيسيين. الأول يستند على طبيعة الجهة المحاورة، حيث يعلم الجميع أن الحكومة في سوريا لا تتمتع بأي سلطة سيادية أو سياسية، وهي لا تعدو أن تكون واجهة إدارية تنفذ قرارات الدائرة الضيقة الحاكمة، وإلا كيف يتم تفسير أن ينشق رأسها في مرحلة سابقة رياض حجاب دون أن تهتز قيد أنملة. والمنحى الثاني يرتبط بخفض سقف التنازلات. فالحكومة السورية ـ بوصفها حكومة شكلية فقط ـ ستنخرط بالحوار، لكنه حينها سيكون حوارا إداريا وليس حوارا سياديا إن صح التعبير، وهي بالمحصلة لن تستطيع أن تقدم تنازلات إلا ضمن صلاحياتها، أي امتيازات شكلية في أحسن الأحوال، دون المساس بصلب القضية وجوهرها التي تتعلق بسلطات بشار الأسد نفسه.
على الطرف المقابل، قدم معاذ الخطيب المعروف بحسن نواياه وانحيازه الصادق للثورة مبادرته للحوار مع النظام، للخروج من حالة الجمود المخيمة منذ شهور على المشهد السوري، لكن الطريق إلى الجحيم أيضاً معبد بالنوايا الحسنة.
أثارت المبادرة كثيرًا من التحفظات، وأدت إلى انقسام الشارع السوري المعارض إلى مع وضد، لكن بعيداً عن الاصطفاف الافتراضي لا بد من قراءتها من وجهة نظر تحليلية، ومقاربتها كأرضية مفترضة للتلاقي بين المعارضة والسلطة.
كشفت مبادرة الخطيب عن كثير من مواطن الضعف في عمل الائتلاف الوطني باعتباره ممثلاً للشعب السوري، فالمبادرة رأت النور عبر صفحته الخاصة على الفيسبوك، حيث قدمها بوصفها موقفاً شخصياً غير ملزم. ينطوي هذا الطرح على تناقض واضح، فكيف يمكن لشخصية عامة، على رأس قوة سياسية مؤثرة في مرحلة حساسة أن تقدم «رأياً شخصياً» غير ملزم!
على الطرف الآخر كشفت المبادرة عمق الخلافات الواقعة في صفوف الائتلاف، فـ «الرأي الشخصي غير الملزم» للشيخ معاذ الخطيب سرعان ما تحول إلى «مبادرة وطنية» عند بعض قوى الائتلاف السياسية المناصرة للخطيب، كما هو الحال بالنسبة للجان التنسيق المحلية، في حين رفضته رفضاً قاطعاً قوى سياسية أخرى تنتمي للائتلاف ذاته، كما هو الحال في المجلس الوطني. للجناحين كليهما مبرراتهما في الرفض والقبول، لكن حالة الانقسام تبقى دون مبرر، خاصة وأن الائتلاف خلق أساساً لينهي الانقسام، وإذا به يعمقه. كان من الأفضل أن يصاغ شكل من أشكال التوافق على المبادرة، وأن تقدم باسم الائتلاف وقواه المختلفة بدلا من أن تبقى مبادرة شخصية تناصرها قوى وتقف في وجهها قوى أخرى في ذات الوقت.
بالإضافة إلى ذلك يكشف توقيت طرح المبادرة خللاً مفصلياً في التعاطي مع ظروف ومتغيرات الثورة، فهي تأتي في الوقت الذي يمر فيه الحراك السوري بأدق مراحله وأكثرها خطورة، لا بل في الوقت الذي تتعرض فيه الثورة إلى انتكاسة خطيرة ناتجة عن تجفيف مصادر دعمها الدولي. لقد طرح الخطيب مبادرته من موقع «المظلومية» إن صح التعبير. هذا الطرح أعاد الثوار إلى موقع الضحية بدلاً من أن يدفعهم إلى موقع الند الجدير بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. كما طالب الخطيب بالتفاوض مع فاروق الشرع، الرجل المعطل الصلاحيات، الذي لن يكون أكثر من رسول الأمير في حال تم ذلك، كان الأجدى أن يطلب الخطيب التفاوض مع أشخاص من قلب الدائرة الضيقة كجميل حسن أو علي مملوك أو حتى مع وليد المعلم.
على صعيد آخر قدمت مبادرة الخطيب سقفاً منخفض المطالب لثورة قدم في سبيلها آلاف الشهداء أرواحهم رخيصة، وأظهرت الأيام القليلة السابقة انهياراً أكبر في حجم المطالب، حيث بدأت لهجة الخطيب تشدد أكثر على «النساء المعتقلات» متجاهلاً مطلبه الأساسي الأول بالإفراج عن 160 ألف معتقل، هذا لو افترضنا أن مسألة إصدار جوازات سفر أمر يستحق الوقوف عنده كثيراً في حال تم الإفراج عن 160 ألف معتقل.
يعود معاذ الخطيب بعد أيام ليوضح، أنه ليس سياسياً، بل هو يعتبر نفسه «ثائرا»، لكن كيف يمكن لرجل لا يعتبر نفسه رجل سياسة أن يكون على رأس أكبر فصيل سياسي في ثورة تبدو بحاجة للسياسة أكثر من أي وقت مضى؟! الإجابة بسيطة: يمكن ذلك. لم لا؟ ياسر عرفات (أحببناه أم كرهناه) أيضاً لم يعتبر نفسه يوماً رجل سياسة رغم كل شيء، لكنه، بعكس الخطيب، كان يحمل البندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى. أما الخطيب فعلاقته مع السياسة مبنية على معطيات إنسانية فقط، في الوقت الذي تتطلب السياسة فيه نظرة براغماتية ودوغمائية أحياناً، فهو ما زال يطلب من بشار الأسد أن «ينظر في عيون أطفاله»، ويرحم الشعب السوري ويجلس إلى الحوار، وكأن رجلا مثل الأسد يكترث بالمبادرات الإنسانية أو يكترث بنظرات الأطفال المسحوقين بفعل ترسانته العسكرية البغيضة.
أيضا يبدو بعد الخطيب الحقيقي عن السياسة في المصطلح الذي يبدو الأكثر مدعاة للتندر بين ما اخترعته المعارضة السياسية السورية خلال سنتين «التفاوض على رحيل النظام»، وهل يمكن لنظام يمتلك في هذه المرحلة ـ على الأقل ـ كل عناصر القوة اللازمة، فيما تعترف أنت بالضعف وعدم القدرة على تأمين حتى الطعام للجيش الحر، أن يسلم مفاتيح القصر الجمهوري، ويوضب حقائبه ويمضي ببساطة؟!
رد النظام على مبادرة الخطيب يدخل في خانة السياسة الشيطانية أكثر من أي شيء آخر، لكنه رد سياسي «غير شخصي وملزم»، فهو لم يرفض الحوار، بل يزيل عنه شروطه المتواضعة أصلاً التي طرحها الخطيب (المعتقلين وجوازات السفر)، ويعيده إلى خانة التفاوض مع «الحكومة» مانعاً عنه حتى الاقتراب من رأس الدولة ولا حتى من الدائرة الضيقة المحيطة به، في الوقت الذي يروج فيه مصطلح «التفاوض على رحيل النظام» بوصفه الخلطة السحرية التي تبرر الحوار.
تحتاج مبادرة الخطيب للكثير من المراجعة، وتحتاج لأن تصبح مبادرة سياسية حقيقية لا مجرد «رأي شخصي غير ملزم» قبل أن تتحول إلى عبء على الثورة، لكنها قبل كل شيء لن تقدم شيئاً لوحدها. لابد من ترافقها مع الضغط العسكري الذي يبدو أنه يسدد للنظام ركلات موجعة، عندها يكون الحوار ورقة بيد المعارضة لا عليها. إن لم يحصل ذلك سيمضي بشار الأسد في لعبة الحوار التي يجيدها نظامه أباً عن جد، فهي لعبة سهلة بالنسبة له، وخطواتها متضمنة أيضاً في «دليل المستخدم» الذي تركه له والده قبل رحيله، وقد يقدم تنازلات مرحلية، لكنه سرعان ما سيسترجع مواقعه القديمة، وعندها ستعود سوريا لتصبح مرة أخرى «مملكة الصمت».