الهجوم الإسرائيلي على قافلة سلاح من سوريا لحزب الله، والأجواء المتصاعدة في إسرائيل من خلال الحديث عن نوايا بالتقدم داخل الأراضي السورية نحو المنطقة التي يفترض أن تكون منزوعة السلاح.. وحتى تسمية بعض القرى والبلدات التي يمكن أن يصل إليها الجيش الإسرائيلي في درعا مثل كفر شمس وغيرها، تشير إلى نضوج مشاريع دولية مبيتة.

يبدو أن الإسرائيليين قد بدؤوا فعليا بالعمل على إحياء مشروعهم القديم الجديد.. مشروع التفتيت والتقسيم والدويلات الطائفية.. وأقربها إليهم جغرافياً الدويلة الدرزية، يتلوها دويلات طائفية أخرى مسيحية، شيعية علوية، سنية، وقومية كردية، وهذا نموذج إسرائيلي مدروس لتقسيم وتفتيت سوريا.

إن خوف إسرائيل من حروب استنزاف طويلة الأمد قد تنشأ على حدودها الشمالية بسبب الفوضى المعممة في سوريا، والعمل وفق المبدأ الأزلي «فرق تسد»، يدفعها لأن تعمل على خلق كيانات «دينية» تشبهها وتفصلها عن محيطها العربي، ويبدو أن هذا المشروع المرسوم منذ أواخر الستينات قد يدخل حيز التنفيذ الآن وذلك عبر البدء بوصل منطقة الجولان المحتل بمحافظة السويداء من خلال التعدي وتهجير عدد من التجمعات السكانية في محافظة درعا. ولاحقاً يمكن مد هذا الكيان إلى الجليل شمالي فلسطين وأجزاء من جنوب الليطاني في لبنان ليشكل ذلك القوس أو حذوة الفرس التي طالما حلمت بها إسرائيل كدرع بشري تابع، ضعيف، يراد له أن يكون موالياً للغرب وإسرائيل التي من المفترض وفق أجنداتها أن يحميها من تهديدات الشمال.

قد يجادل البعض بأن إسرائيل لن تسعى لتكرار تجربة جنوب لبنان بعد الفشل الذي أصابها هناك، إلا أن الحسابات الإسرائيلية تنظر إلى أن الخطر القائم حاليا على إسرائيل اكبر بكثير مما لو أقدمت على هذه الخطوة، فهي عمليا تحتل قسما من سوريا وهو الجولان والذي يكفي لخلق مقاومة وسخونة دائمة على هذه الجبهة في حال سقوط النظام، إضافة إلى الراهنية الدائمة للقضية الفلسطينية، ولهذا فإن إسرائيل تعتقد أن خلق كيان عازل، وتفتيت الدولة السورية لكيانات ضعيفة ومتخاصمة هو الأكثر ضماناً لأمنها على المدى القريب والبعيد.

كان مصدراً عسكرياً إسرائيلياً قد صرح مؤخراً لصحيفة صاندي تايمز البريطانية «إن إسرائيل تدرس إمكانية إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية لحماية نفسها من «العناصر المتطرفة» من الثوار السوريين في ظل تدهور الأوضاع الداخلية في سوريا واحتمالات سقوط نظام بشار الأسد».

وأضافت الصحيفة: «انه بحسب الاقتراح الذي تقدم به مسؤولون عسكريون لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فان المنطقة العازلة ستمتد على مساحة 16 كيلومترا تقريبا وستكون على غرار المنطقة الأمنية التي أنشئت في جنوب لبنان خلال تواجد قوات الجيش الإسرائيلي في لبنان».

إلا أن القول الأكثر دلالة للعسكري الإسرائيلي كان: «إن إنشاء المنطقة الأمنية سيتم بالتعاون مع القرى المحلية في الجانب السوري»، وتلك إشارة ذات دلالة وجب على القوى الثورية والمعارضة السورية التقاطها. ليس من أجل محاولة الوقوف بوجهها فحسب، إنما من أجل استبعاد بعض الأوهام والمراهنات الساذجة لدى شطر غير قليل من المعارضة، ومن أجل فهم أكثر واقعية لحقيقة الإرادة الإسرائيلية ومن ورائها الإرادات الغربية والأمريكية ونواياها القذرة حول مستقبل الصراع في سوريا.. وعلى سوريا.

أما على صعيد الفئة المعنية مباشرة بتلك النوايا، وأقصد سكان الجولان والسويداء، فرغم وعيهم المؤكد للعداء التاريخي مع إسرائيل، ورغم تأكيدهم الدائم على عروبتهم وانتمائهم السوري وتاريخهم الناصع في مقاومة الاحتلالات، إلا أنه من الواجب «الانتباه» من بعض طروحات «الخصوصية» والمبادرات الذاهبة باتجاه لملمة مكونات المجتمع «الأهلي» والتي يتم التعامل معها بنوع من البراءة وطيب النوايا. فرغم أن علاقة المدني / الأهلي ليست عموماً علاقة صراع لكن يجب الوعي أن نمو أحدهما يشكل تقليصاً للآخر، ويبدو بديهياً القول أن نمو المدني وامتداده هو الضمانة الأقوى والاهم لبناء الدولة المدنية وتماسكها، بينما ينحو الأهلي في أوضاع مثل أوضاع سوريا اليوم نحو مزيد من التقوقع الذي قد يشكل شرطاً مواتياً لنوايا دولية خبيثة تلوح في الأفق. في الوقت الذي تبدو فيه الخيارات السورية الوطنية محدودة الأمل يوماً بعد يوم، بفعل نظام متوحش يراهن في بقائه على التقسيمة الطائفية.

لن تجد إسرائيل فرصة مواتية لتنفيذ مشروعها الذي تحلم به منذ خمسين عاماً أفضل من هذه الفرصة. سواء من حيث الأوضاع السورية الداخلية التي تواجه احتمال التفتيت، أو من حيث المواقف الدولية المتكالبة، والأهم من حيث قبول النظام بل وسعيه لهذا، وانشغال المعارضة والثوار بمقاومة الحرب الشرسة التي يشنها النظام عليهم وعلى الوطن والشعب. ويكاد يكون عامل الحصانة الوحيد المتبقي أمام هكذا مشروع هو موقف أهالي جبل العرب وأهالي الجولان أنفسهم والذي من الصعب كما يقول لنا الواقع والتاريخ أن يجري بما تشتهي إسرائيل. وكما أحبط الشرفاء هذه المحاولة أواخر الستينات فمن المرجح أنها ستجد من يقف بوجهها ويقاومها اليوم سواء من قوى ثورية وتيارات وطنية وقومية وشخصيات ورموز واعية وثقافة شعبية أصيلة.

لكن المؤسف أن الواقع السوري الحالي الذي دفع إليه النظام والقوى الدولية يرمينا أمام مفترق طرق، إما التقسيم والدويلات الطائفية التي يبنى النظام استراتيجية بقائه على أساسها، والتي ترضي النوايا الغربية والإسرائيلية، وإما الوصول إلى صيغة سورية لا ترضي طموحات الثوار.

قد يستبعد البعض هذه الاحتمالات ويراها بعيدة، وهذا ما كنا نتمناه، لكن لننظر فقط لسيرورة الأحداث التي كنا نستبعدها منذ بداية الثورة وها نحن نشهد بذهول العاجز تحولها إلى واقع! فالواقع السوري اليوم ورغم كل الاستعصاء الظاهر تعتمل داخله فاعلية قصوى ومتسارعة ناتجة عن تدخل وفعل دولي هائل، قد يحول المستحيلات إلى حقائق في أيام معدودة.. أضف إليها نظاماً فاشياً مستقوياً قلما شهد له التاريخ مثيلا، لن يقبل السقوط كما ينبئنا الواقع القاسي.. إلا بسقوط سوريا.