لا يخفى على أحدٍ بأنّ اتّساع العمليات العسكريّة التي يشنّها النظام ضدّ بؤر الثورة منذ أكثر من ثمانية أشهرٍ واشتدادها وما رافقها من نزوح أعداد كبيرة من ساكنيها إلى مناطق أكثر أماناً، سبّب تراجعاً ملحوظاً في النشاط الثوريّ اليوميّ للسوريين واقتصاره على التظاهرات الأسبوعيّة أيّام الجُمَع ونشاطاتٍ مدنيّةٍ قليلة، ومع ارتفاع وتيرة العنف من قبل النظام و ردّه من قبل الثوّار، وتذبذب المواقف والسياسات الدولية والإقليمية مع هذا الواقع المتجدّد، أدّى مؤخّراً إلى تصاعد دور بعض الفصائل المقاتلة ذات الطابع الإسلاميّ المتشدّد أبرزها جبهة النصرة.
لا ينفكّ هذا التّصاعد لـ«جبهة النصرة» يخلق جدلاً واسعاً في أوساط الثورة السورية ما بين مؤيّدٍ ومعارضٍ، وإن كان مؤيّدو «الجبهة» يتغنّون بفاعليتها وقدراتها العسكرية وجلد مقاتليها وخبرتهم وقوّة تنظيمها ونزاهتها، إلّا أنّهم يجدون حرجاً من تبرير التفجيرات التي تقوم بها أو تتبناها «الجبهة» والتي طالت – في أغلبها – مدنيين إلى جانب مقرّات وعناصر النظام المستهدفة. في الطرف الآخر فإنّ معارضي «الجبهة» لا يعترضون على طابع عمليّاتها المتّسم بالعنف فقط، بل يذهبون بالقول بأنّها صنيعة النظام بهدف تخويف أقليّات المجتمع السوريّ من الثورة وبالتالي ارتدادهم نحوه وتمسّكهم به، وأنّه ساهم في صنعها ليجد فيها مبرّراً للاستمرار في حملته العسكريّة ضدّ الثائرين ممّا يعفيه من فتح باب السياسة على أيّ حلٍّ ينزع منه السلطة، ويردّها البعض الآخر بأنّها تعمل لصالح جهاتٍ إقليميّةٍ تهدف للانتقام من النظام وتدمير سوريا. ولعلّ تصريح عبد القادر صالح – القائد في لواء التوحيد – بأنّ: «الجبهة يقبلها الميدان ويرفضها الشارع» يختصر حال هذا الجدل القائم. لكن لا يختلف المؤيّدون والمعارضون بأنّ هذا التصاعد لدور «الجبهة» وممارساتها العنيفة قد أثّر في مواقف المجتمع الدّولي من الثورة السوريّة، وغيّر من إستراتيجيتهم حيالها. وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لوضعها في لائحة المنظمات الإرهابيّة مطلع الشهر الأخير من العام الفائت.
لم يعد من المهمّ الجدل حول ارتباطات «جبهة النصرة» وتحليل ممارساتها، كما أنّه ليس من الموضوعية التقليل من شأن هذا التصاعد أو تهويله، ولا يعدّ تعاملاً ذكياً دفاع بعض السياسيين السوريين عن «الجبهة» كردّ على القرار الأمريكي فقط، ما يهمّ الآن – وأكثر من أيّ وقتٍ مضى – التعامل مع «الجبهة» ضمن الثورة نفسها، وتحديد علاقتها وأهدافها وسياستها بالثورة، وخصوصاً أنّ بعض القوى الإقليمية والدولية تدفع قوى الثورة والمجتمع للتصدي لهذا التصاعد الذي بات هاجسها وهذا ما يفتح الباب لإعادة تجربة «الصحوات العراقية». فـ«جبهة النصرة» المتواجدة على الأرض، وتقاتل النظام بشراسة، ولها مساهمات نوعية في العمليات العسكرية إلى جانب كتائب الجيش الحرّ، وأيضاً لها مصادرها الخاصّة بالتزوّد بالسلاح والمعدات، قد أنشأت في أغلب المناطق المحرّرة هيئاتٍ شرعيةٍ تمارس مهمّة القضاء وملاحقة المخالفات والمخالفين وتنظيم الحياة مستندةً إلى تطبيق الشريعة الإسلاميّة وفق منظورها العقائديّ، ومؤخّراً تحالفت مع مجموعات تنظيمات سلفية من كتائب الجيش الحرّ مشابهة لها في المرجعية والفكر الدينيّ الجهاديّ، وباتت تستقطب أعداداً لا بأس بها من الثوّار والمقاتلين. ولا نبالغ إذ نقول أنّ قرار أصدقاء الشعب السوريّ بتجفيف منابع السلاح عن كتائب الجيش الحرّ أولاً، وتشتّت هذه الكتائب وعدم تنظيمها ضمن إدارة مركزية وشذوذ تصرفات بعضها عن خط الثورة ثانياً، إضافة إلى القمع الوحشي والعنف اللا محدود للآلة العسكرية للنظام وممارسات عناصره ذات الصبغة الطائفية، والذي أنشأ ردود فعلٍ غاضبةٍ اتّكأت على المخزون الثقافي للمجتمع السوري والذي يشكل الدّين مرتكزه الإيديولوجي، ممّا جذّر عدميّة انتقاميّة لدى شرائح شعبية واسعة في المجتمع ثالثاً، كما لا نغفل تأثير الجانب الإعلامي الذي يحيّد الكثير من الكتائب والتشكيلات المقاتلة ولا يأتي على ذكر عملياتها ضدّ النظام رابعاً، هي من الأسباب التي ساهمت في تصاعد هذا الدور لـ«جبهة النصرة» وسهّلت استقطاب المقاتلين إلى صفوفها.
بالنظر إلى أدبيّات “جبهة النصرة” ومثيلاتها من الجماعات الجهاديّة المتشدّدة، فإنّ هذه التنظيمات العقائديّة لها فكرها الخاص، هو الفكر الدينيّ والعقائديّ المحكوم بسلطة الأصل والنص، ولها أهدافها الخاصّة المتمثلة بإنشاء دولة الخلافة الإسلاميّة القائمة على الحاكمية الإلهية وتطبيق الشريعة على ما أعلنت تشكيلاتها وتحالفاتها مرّات عدّة، وبالنظر إلى شكلها التنظيميّ المترابط فإنّنا لا نجده تنظيماً مؤسساتياً هرمياً، وإنّما تنبع قوّتها التنظيميّة وقوّة أدائها وارتباط عناصرها من خلال تجسيدها لمفهوم «البيعة» الذي يفرض على المنتسبين «المبايعين» تحت لوائها الالتزام والولاء والطاعة التامّة والمطلقة للأمير وتنفيذ أوامره بحذافيرها. تلك التنظيمات الجهاديّة السابقة التكوّن على الثورة السورية، لا تشكل الثورة بالنسبة لها أكثر من وسطٍ ملائمٍ لممارسة نشاطها باعتبارها لأرض سوريا أرض جهادٍ ورباط، وإن كانت تشترك مع الثورة بهدفٍ مرحليّ هو «إسقاط النظام» الذي تصفه بأدبيّاتها «نظاماً علويّاً كافراً»، إلّا أنّها لا تتماهى مطلقاً مع أهداف الثورة في الحرّيّة والديمقراطيّة والعدالة والمساواة وقيام الدولة المدنيّة التعدّديّة، بل تصفها بالأفكار المستوردة في خطاباتها المناهضة للحداثة. بذلك فإنّ «جبهة النصرة» ومثيلاتها في الفكر الدينيّ العقائديّ – عدا أنّها تقاتل النظام – هي تمارس وصاية عقائديّة حيال الثورة والمجتمع والحياة بالعموم بصفتها الحارسة على الدّين والحقيقة، ومن هذا المنطلق فإنّ الهيئات الشرعية وعناصر “«الجبهة» يمارسون نقداً للأوساط الاجتماعية ولأسلوب حياتهم من خلال عقائديّة إجتهاديّة معيارها القياس على الأصل والإحالة إليه، وبالتالي بيان مدى الابتعاد عن هذا الأصل ومدى تحريف العقيدة و مقدار مخالفة النموذج. هذا الفكر الذي يحاكي عقيدة النظام البعثيّة الاستبداديّة، عقيدة الإلغاء والاستبعاد للآخر، لا يتناسب ونمط الحياة العامّة ولا طبيعة التديّن المعتدل للسوريين، وأدّى لتصادمات عديدة في المناطق المحرّرة بسبب تعاملهم القاسي مع السكان، كما حدث في مدينة البوكمال «طرد الأهالي لحاجز الجبهة بعد أن ضاقوا ذرعاً بممارسات عناصر الجبهة”، وفي مدينة الطبقة «سجلت حوادث جلد بتهم مختلفة منها الخلوة غير الشرعية وحيازة الخمور”، وبلدات الريف الحلبي والإدلبي «سجلت مواجهات مسلّحة وحوادث جلد وقطع يد»، وتصادمات بسبب فظاظتهم مع الناشطين، كما حدث في بلدة سراقب «تمزيق علم الثورة، ومنع ترديد شعارات مدنية»، وفي مدينة ديرالزور «منع الناشطين من الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية، وتحطيم تمثال الشاعر محمد الفراتي»، واحتجاز ناشطين في حي «بستان القصر» في مدينة حلب.
الثورة السورية معنية اليوم بالتعامل مع «جبهة النصرة» ومثيلاتها، ومع قضايا أخرى تشكّل ملفات حرجة تحتاج لإيجاد حلولٍ لها، ولعل توضيح دور «الجبهة» – وليس طابعها الديني – ضمن الثورة وبُعدها الوطنيّ، وضبط ممارساتها وتعاملها مع المجتمع بالعموم وقوى الثورة بالخصوص، وتحديد أهدافها السياسية ضمن إطار أهداف الثورة والسعي لتحقيق سياساتها الدعوية بشكل سلميّ خصوصاً بعد إسقاط نظام الأسد، هو من أهم تلك القضايا وأكثرها أولوية أمام القيادات الثورية والسياسية للثورة – ممثلة بالائتلاف – وهو محكّ حقيقي لنوايا وأهداف «الجبهة»، كما أنّه على تلك القيادات الثورية والسياسية العمل على تنظيم كتائب الجيش الحرّ ضمن قيادات مركزية من داخل المناطق المحرّرة وربطها بمجالس مدنية في تلك المناطق «داريا» أنموذجاً، تتولّى هذه المجالس التواصل مع التمثيل السياسي للثورة والمنظمات الإغاثيّة والإنسانيّة والإشراف وتنظيم النشاطات والتظاهرات وتأمين مستلزمات استمرار الحياة في تلك المناطق والتنسيق مع القادة العسكريين وإلزام كتائب الجيش الحرّ بالضوابط العسكريّة في الحرب، وذلك للحدّ من انتشار الفوضى وحتى لا تفقد الثورة بوصلتها، ولتبديد الارتباك وإزالة التشويش عن صورة الثورة أمام المجتمع السوري قبل المجتمع الدولي.
أمّا التغاضي عن تلك التحديدات والتوضيحات أو رفضها من قبل أمراء الجبهة وعناصرها، فإنّ ذلك يفتح احتمالات اتّساع التصادم بما يُشكّل تهديداً وخطراً على الثورة ومسارها ومستقبلها، وعلى النسيج المجتمعي السوري المتشظّي بنسبة كبيرة بفعل حرب النظام وعنفه، وإن كان البعض يدع كلّ ما سبق لسلطة المجتمع الرمزية وخطوطها الحمراء التي لا تسمح للجبهة أو مثيلاتها بتجاوزها، أو وصف تلك الممارسات بالطبيعيّة نظراً لظروف الحرب وأنّ استرخاء الجميع خارج الضغط النفسي بعدما تضع الحرب أوزارها سيقلّل من هذه الاحتمالات مستقبلاً، وإن صحّ ذلك نسبيّاً، إلّا أنّه لا يعفي الثورة من واجبها الأخلاقي والوطني، ولا يبعث على الطمأنينة بعدم حدوث مثل هذه التصادمات بين «الجبهة» وبين مكونات الثورة والمجتمع. لذا فإنّ الإمساك بزمام الثورة وأهدافها وضمان مستقبل المجتمع والدولة السورية المنشودة من أيّ اهتزاز أو انتكاسة قد تعترضهما أمرٌ مهمٌّ جدّاً يجب الإسراع بتنفيذه قدر الإمكان قبل وقوع الفؤوس في الرؤوس، والتي إن وقعت فإنّ الندب لا ينفع بعد «خراب البصرة».