ظهرت ارتدادات الثورة السوريّة على المستوى الإقليمي منذ اللحظات الأولى لاندلاعها في آذار 2011، وتلقى لبنان أولى ارتطامات أمواج الحرارة السوريّة وأقواها، فالعلاقة بين البلدين ليست كالروابط الطبيعية واﻻعتيادية بين دول متجاورة، ودور النظام السوري في لبنان، خلال وبعد الحرب الأهليّة اللبنانيّة، جعل الموقف منه جزءاً عضوياً من الحياة السياسيّة اللبنانيّة، غير اﻻعتياديّة هي الأخرى.

تَمفصل اﻻستقطاب السوري بين النظام والثورة لبنانياً على التباينات السياسيّة- الطائفيّة في لبنان سريعاً، وظهر هذا الشأن سياسياً أول الأمر، ثم تطوّر ليشمل الجوانب الأمنيّة واللوجستيّة والعسكريّة. حصل عددٌ غير قليل من اﻻعتداءات على مقيمين سوريين في لبنان على إثر أحداث أمنيّة اعتُبرت امتدادا ً لما يجري في سوريا، أو بعد اختطاف مواطنين لبنانيين في حلب. وصلت اﻻرتدادات السلبيّة إلى الجانب الإنساني في ما يخص تناول ملف النازحين من المناطق الغربيّة لسوريا إلى لبنان، حيث ظهرت تصريحات سياسية وصحافيّة أمكن وصفها بالعنصريّة بحق السوريين والفلسطينيين- السوريين القادمين حمص ودمشق وريفها، مواقفٌ، وإن حمل تيار الجنرال ميشيل عون رايتها العظمى، إﻻ أنها لم تقتصر عليه أو على فريقه وحلفائه.

لمزيدٍ من الاطلاع حول وضع اللاجئين السوريين في لبنان، حاورت مجموعة الجمهوريّة ناشطين وصحافيين لبنانيين هم الكاتبة والصحافيّة رشا الأطرش، الصحافيّة والناشطة نضال أيوب، الصحافي فداء عيتاني، الناشط في حملة «سوا لأجل سوريا» سعد الكردي، والمدوّن وسام عبيد.

العنصرية تجاه القادمين من سوريا.. ضجة مؤقتة أم ﻻزمة مستمرّة؟

يرى فداء عيتاني أن الظاهرة العنصرية لن تتوقف ﻷنها جزء من التكوين الثقافي للسلطات اللبنانيّة الطائفيّة في ظل حكم الطوائف، وﻷنها جزء من المواد التي يستسهل ممثلو العديد من القوى السياسية استخدامها في النزاعات الداخليّة اللبنانية وفي إثارة الرأي العام المحلي، وتحريك مخاوفه من تغيّرات ديموغرافيّة، ولأن الأطراف السياسيّة الطائفيّة في لبنان ﻻ ترى في أيّ حدث في لبنان أو محيطه أو العالم إﻻ مصالحها الضيّقة: كيف يمكنها أن تستفيد مما يحصل، أو كيف تتضرر مما يجري. ويكمل عيتاني:«للأسف أن النزعة العنصرية المعطوفة على رغبات ديكتاتورية صغيرة لدى كل أمير طائفة من الطوائف اللبنانية تجعله يحاول توظيف ما يحصل في سوريا، وخاصة مأساة اللاجئين السوريين والفلسطينيين في استثماراته السياسية الداخلية، من تلك الانتخابية إلى تلك التي تسمح له بتحسين مواقعه في المعارضة داخل لبنان، وسواء أتى الاستثمار سلباً على شاكلة رفض لجوء المواطن السوري والفلسطيني الى لبنان هرباً من عنف النظام في المناطق المحررة، ومن آليات البطش والقمع في المناطق الخاضعة للجيش السوري، أو حتى من تجاوزات الجيش الحر وبعض الأطراف الأخرى، أو أتى الاستثمار إيجاباً لناحية الموافقة على عمليات اللجوء ومحاولة دعم صمود اللاجئين، فإنه في النهاية ينطلق من وعي واحياناً لا وعي سياسي طائفي لبناني محض. لا قدرة له على تمييز أهمية وضخامة ما يجري في سوريا.» يعتقد فداء عيتاني كذلك أن العنصريّة، مشفوعةً بزجّ قضيّة اللجوء إلى لبنان، ستستمر، «وستستثير المزيد من أحقاد المواطنين اللبنانين تجاه اللاجئين كلما اقتربنا من مفاصل سياسية محلية، كالانتخابات النيابية أو غيرها».

ﻻ تعتبر نضال أيوب أن العنصريّة يمكن أن تكون مسألة مؤقتة، بل أنها شأنٌ موجودٌ في التركيبة السياسيّة ويستخدمها السياسيون كوسيلة للتجييش. «يعلم هؤﻻء السياسيون أن لدى جمهورهم خوفٌ من الآخر، فلسطينياً كان أم سورياً، خوفٌ آتٍ كنتيجة لتجارب سابقة، وهم يستغلون هذه النقطة ويغذّونها بالمساهمة مع الإعلام التابع لهم»، وتضيف أيوب، وقد شاركت، برفقة عدّة ناشطين، في إنتاج مقطع فيديو يرد على حجج وتبريرات الخطاب العنصري (لينك الفيديو) «لقد خاطبنا في الفيديو جمهوراً نعتقد أنه يفتقد للوعي ولديه مخاوف، وحاولنا أﻻ نستخف بتفكيره. نعتبر أن هذا «اليميني المتطرّف» إنما يفتقد للوعي ويعاني من الخوف، وعمل السياسيون على استغلال هذه النقطة بما يخدم مصالحهم. علينا أن نحاول استقطاب هؤﻻء الناس بطريقة ما».

يتفق سعد الكردي مع فكرة أن مجمل تصريحات أو أفعال الفئة السياسية في لبنان نابعة من السعي وراء تجييش التابعين لهم وإعدادهم الدائم للمعارك الانتخابيّة، سواءً كانت نيابيّة، بلديّة أو حتى نقابيّة، ويضيف: «ﻻ يتحقق هذا التجييش بالنسبة لهذه الفئة إﻻ عبر زرع الخوف من الآخر أو عبر ما يُسمّى بإيقاظ الفتنة، مذهبيّة كانت أو فئويّة».

تعتقد رشا الأطرش أن نزعة التعبئة هي الثابت الوحيد في السجال السياسي اللبناني، وترى أن هذه التعبئة تتشابه وتتماهى مع اﻻستقطاب الحاد في لبنان ومحيطه، والذي يتّخذ طابعاً طائفياً متفاقماً منذ حوالي السنوات العشر، وبالتالي:«وعلى رغم الميول العدائية في لبنان اتجاه جنسيات وقوميات مختلفة، لا سيما بالنسبة إلى السوريين والفلسطينيين، بسبب تاريخ طويل من الصراعات والتقاطعات العسكرية والسياسية على أرضه (من دون أن يكون هذا تبريراً)، فإن عمق الخطاب العنصري، السائد راهناً اتجاه اللاجئين السوريين والفلسطينيين، طائفي بامتياز، بل وغالباً لا يوارب في ذلك، تحت شعار «خوف المسيحيين» (في ما يتعلق بالتيارات السياسية المسيحية) الذين يتترّس بهم حلفاؤهم لأسباب سياسية ومذهبية مشابهة. وهي لازمة «الخوف» نفسها التي أفسحت المجال مثلاً لمناقشة قانون انتخاب يضرب ميثاق العيش المشترك والهوية الوطنية الجامعة من قبيل قانون «اللقاء الأرثوذكسي» الذي ينص على أن تنتخب كل طائفة نوابها في البرلمان، بدل أن يكون كل نائب منتخب ممثلاً للشعب اللبناني بأكمله. قد لا نفشي سراً إن قلنا إن الانتخابات اللبنانية، ومن خلفها منظومة السياسة والحكم، لطالما كانت طائفية المُرتكز، إلا أن تكريس ذلك في قانون صلف من هذا النوع يوازي عشر خطوات إلى الوراء من نقطة الخجل بالجهر العام بكامل القوقعة الطائفية، وهي نقطة كان علمانيون ومثقفون ومدنيون لبنانيون كثر يراهنون على البناء عليها واللعب على توازناتها الدقيقة لدفع منظومة بلادهم بضع خطوات إلى الأمام، وإن من دون وَهْم إلغائها بالمطلق. ربما يكون الخطاب التمييزي الشوفيني هذا رهن المرحلة الانتخابية والسياسية الحالية، لكن المؤكد أنه إن يتراجع فسيكون ذلك لإفساح المجال أمام ما هو أسوأ منه… للأسف». وحده تحقيق حلم الديمقراطيّة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد يمكن أن يقلب هذا الوضع في لبنان حسب رأي الأطرش،«فهذا لن يزهر في سورية وحدها، بل سينعكس على المنطقة برمّتها، بما فيها لبنان».

رغم أن اقتراب اﻻنتخابات النيابيّة ساهم في ارتفاع حدّة الخطاب العدائي تجاه النازحين من سوريا، لكنها ليست الصانعة لهذا الخطاب العنصري تجاه الفلسطينيين والسوريين، يؤكد وسام عبيد، «فهذا الخطاب متجذر في الحياة السياسية والثقافية اللبنانية من سعيد عقل و بشير الجميل إلى ميشال عون و صهره جبران باسيل، وبالتالي فهو ليس خطاباً عابراً أو طارئاً على اللغة السياسية اللبنانية. تحتكر القوى المسيحية في 14 و-8 اذار على حدٍ سواء هذا النوع من اللهجة المغذية للكراهية وتتعكز بذلك بالخوف على الوجود المسيحيي خاصةً في ظل تراجع دورهم المركزي في صناعة القرار السياسي في لبنان. تضمحل الفوارق السياسية بين الفرقاء المسيحيين حتى تكاد تختفي حين يتعلق الأمر بالنازحين من سوريا، اذ يتسابقون على اطلاق الخطاب الاكثر عصبية ضد السوريين. لا شك أن هذا الخطاب الذي يقوده التيار العوني اليوم وصل إلى درك من الابتذال والبذاءة لم يبلغه إلا خطاب ميليشيات الحرب الاهلية وهو يعبر عن خوف عارم من نتائج الربيع العربي، الذي قال عنها عون يوماً أنه ستعيدنا 1400 سنة إلى الوراء في إشارة عنصرية أخرى توسم الاسلام بالتخلف. يتمظهر هذا التعنيف اللغوي في إطار حملة إعلامية تتنافس في عنصريتها على التلفزيونات التي تتبع اجندات سياسية وحزبية كOTV و-MTV». يرى عبيد كذلك أن هذا الخطاب هو انعكاس للنظام الطوائفي السياسي الذي ينظر إلى الإنسان، مواطناً كان أم ﻻجئاً، على أنه كيان طائفي ينتمي حكماً إلى منبته الديني، وبذلك «ليس هذا الخطاب العنصري مادة مؤقتة تنتهي بإنتهاء الانتخابات ولكنه حديث يومي في الشارع والاعلام، بحيث نظر إلى العامل السوري على أنه منافس للمواطن اللبناني في زمن الوصاية واليوم ينظر إلى السوري كسلفي إرهابي، يشي وجوده بتقوية السنة على حساب الطوائف الأخرى».

أوضاع اللاجئين من سوريا في لبنان

ﻻ ترى رشا الأطرش إمكانيّة للحديث عن اللاجئين السوريين ككتلة واحدة متجانسة، ﻻ سيما بالمعنى الاجتماعي، حيث أن بعضهم، وهو الشطر الأصغر، ينتمي للطبقة الوسطى فما فوق، وهذا يسهّل لهم ظروف حياة ﻻ بأس بها، وإن على تفاوت. البعض الأكثر ﻻ يعاني فقط من «الحضن اللبناني» فحسب، بل أيضاً من الترهّل والبيروقراطيّة والموازنة المحدودة التي تعمل بها المنظمات الدوليّة في ظل أجندة سياسيّة دوليّة ما زالت ملتبسة إزاء الثورة السوريّة، وتكمل: «النازحون المدنيّون من مناطق صراع، مهما كانت أسباب ذلك الصراع ودينامياته، ليسوا مسؤولية البلد المضيف وحده (وإن حمل مسؤولية معتبرة تتأثر بدورها بالطبيعة الاجتماعية والسياسية والثقافية لهذا البلد)، بل هم أيضاً مسؤولية المجتمع الدولي. وهذا ما يفترض بالمهتمين بهذا الملف (مجتمع مدنياً ونخبة سياسية وثقافية) تظهيره والمطالبة على أساسه بالحقوق المشروعة لهؤلاء اللاجئين في لبنان وغيره من البلدان المجاورة لسورية. ولئن وعدت حكومات عدة بدعم مالي، إلا أن ذلك غير كاف في رأيي، لأنه ما زال في إطار «هبات» طوعية على طريقة «كثّر الله خيركم»، وينقصه الالتزام والواجب الذي تنص عليه الشرعة الدولية». وعن الحكومة اللبنانيّة تقول رشا الأطرش أنها أسيرة لونها السياسي الأحادي إلى حدّ كبير، إضافةً إلى اﻻنقسامات العموديّة في البلد، لكنها تعقّب:«لا أقول هذا في سبيل التماس عذر لها، بل على العكس، لتسليط الضوء على أحد مظاهر ونتائج أحاديتها وأجندتها المعروفة، أي أسلوبها في التعامل مع الثورة السورية ككل، وليس فقط مع ملف اللاجئين». وعن المجتمع المدني اللبناني: «ليس كتلة متجانسة. بعضه محسوب على تيارات سياسية معينة، وانتماؤه هذا يحكم أداؤه وموقفه من اللاجئين. والبعض الآخر مستقل (مجموعات وأفراد)، أظن أنه يعمل بأقصى طاقته، وإن كان هذا لا يكفي، إلا أنه مدعاة احترام وتقدير».

يؤكد سعد الكردي أن وضع اللاجئين «أكثر من سيء»، ويشير إلى وجود تفاوت بين أوضاع اللاجئين بحسب مكان وجودهم، «ففي بعض المناطق، يكون الاهتمام بهم كبير و يتم اسكانهم داخل بيوت نظيفة، فيها نظام تدفئة…و في مناطق أخرى فقيرة كمنطقة عكار حيث السكان هم نفسهم لا يملكون اي شيء ليقدموه لللاجئين، قد ترى بعض العائلات التي تسكن في خيم او مع عدد كبير من العائلات في بيت صغير»، ويرى الكردي كذلك أن تأثير الحكومة اللبنانيّة على أرض الواقع شبه معدوم، وبما يخص المجتمع المدني يقول: «المال الذي نستبشر بوصوله للمنظمات و الجمعيات العاملة في مجال الاغاثة، لا يمكن رؤية ترجمته عملاً اغاثياً بشكل كبير… لذا، يمكن القول ان اموال الاغاثة تهدر، او بمعنى أكثر واقعية: تسرق !»

يعتبر وسام عبيد أن الفئة الأكبر من اللاجئين، وهي الفئة المؤيدة للثورة حسب توقّعه، تتعرّض لإهمال متعمّد عقاباً لها على موقفها المناوئ للنظام:«تتمركز هذه الفئة اجمالا في الشمال اللبناني وفي عكار تحديداً. يتلقى الناشطون هناك دعماً محدوداً من الجمعيات الأهلية ذات الطابع الديني. أما الفئة الاوسع منهم فهم مهمشون يتعرضون لاستغلال سافر ومحاولات للتكسب على حسابهم. تأتي هذه الفئة من المحافظات الأقرب إلى لبنان كحمص وضواحي دمشق». أما الفئة الثانية،«وهي فئة ما فوق المتوسطة والغنية وهي فئة تنتشر في بيروت و الضاحية الشرقية و جبل لبنان وهي مناطق راقية نسبياً. هذه الفئة لا موقف محدد لها من الحدث السوري، وموقفها أبعد ما يكون عن الثابت أو المبدئي. ما يعنيها بالامر عودة الهدوء إلى سورية بأسرع ما يكون كي يستطيعوا بدورهم العودة». الفئة الثالثة، برأيي عبيد،«هي فئة مؤيدة للنظام أو معارضة للثورة المسلحة، وهي فئة يتفاوت وضعها الاقتصادي، لكنه يبقى في حدود المقبول. تلجأ هذه الفئة إلى المناطق ذات الغالبية الشعبية المتعاطفة مع النظام والمحسوبة على الممانعة وتتلقى هذه الفئة مساعدة من احزاب وسياسيين كمكافأة على موقفهم السياسي. يسمع الزائر لمناطق الجنوب اللبناني لكنة حلبية ودمشقية واضحة، و بعضهم فر من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وشعر أهلها بعدم الانسجام مع السوري الحر». أما الفلسطينيون «فيلجئون الى اقربائهم في المخيمات حيث تعمل الانروا على تسجيلهم و مد العون اليهم بشكل متواضع كذلك». عن الدولة اللبنانيّة يشير عبيد:«تعتنق الدولة اللبنانية مبدأ النأي بالنفس عن المشهد السوري ولكنها في موضوع اللاجئين تتواطأ ضد انصافهم أو تقدم ما يسمح لهم بالاستمرار في الحياة، وهي فوق هذا العجز واللامبالاة المتعمدة يصدر من على منبر الحكومة أصوات تطالب بإقفال الحدود بوجه السوريين.»، وعن المجتمع المدني:«يقوم ناشطوه بمبادرات جيدة فردية الطابع و بعيدة عن المأسسة المحترفة وصاحبة تأثير محدود إلا أنها الأكثر ديناميكية على الأرض و قد قام بعض الناشطين بتجميع أموال أو حاجيات و مساعدات عينية أثناء العاصفة الأخيرة التي ضربت لبنان». أما الجمعيات الدولية فإن دورها، حسب عبيد «يقتصر على تسجيل النازحين وإحصائهم وتوزيع بعض الوحدات الغذائيّة للعائلات السوريّة، وتلك الوحدات تتعرّض لعمليات سرقة وبيع من جديد».

بالنسبة لفداء عيتاني:«تمكنت الحكومة اللبناني من غض بصرها عن اللجوء حتى شهرين مضيا، وكانت بحالة انكار شبه كاملة، وتجهيل لعدد اللاجئين، وتولت جمعيات اهلية وافراد مساعدة اللاجيء السوري والفلسطيني في أكثر من بقعة، وطبعا العديد من الاحزاب والقوى السياسية استفادت او قل استغلت عمليات اللجوء للحصول على المزيد من الدعم المالي من الخارج من ناحية ولاستثمار العبء الانساني الكبير لحالات اللجوء في الضغط على الاطراف السياسية الاخرى في البلاد». وبشأن الهيئات الدوليّة يرى عيتاني، حسب جولاتٍ ميدانيّة قام بها، أنها لم تقدم الكثير: «لا زالت هذه الهيئات تعاني من تضخم كلفة التشغيل لفرقها، مقابل تدني نسب التقديمات للمحتاجين، بينما تشتد حاجات المواطن السوري في لبنان، ويضطر الى التجمع في مناطق ذات صبغة سياسية او طائفية معينة، لتحاشي تعرضه للمضايقات العنصرية، ويسعى الى ايجاد اعمال بسيطة، رغم ان السوق اللبناني أشبع بالعمالة السورية، ويتحول البعض اضطرارا الى التسول، ويخضعون لابتزاز العديد من اللبنانيين المالكين للشقق السكنية عبر ايجارات مرتفعة وغيرها من أشكال الاستغلال.» ويكمل:«وعلى العكس تماما، ويا للخجل، مما استقبل به السوريون اللبنانيين خلال حرب تموز، حيث لجأ اكثر من ربع مليون لبناني وتوزعوا في كل المناطق السورية على المدارس والمنازل واستقبلوا دون أية تكاليف تذكر فإن الامر هنا لا يتسدعي إلا الخجل. يزيد من صعوبة اللجوء في لبنان التمييز بين الفلسطيني والسوري، فللسوري الحق في البقاء ستة اشهر في لبنان على ان يغادر البلاد بعدها وإلا تم ضبطه وتغريمه بدل إقامة، ولا يشفع له اليوم انه لاجيء وغير قادر على المغادرة ولو مؤقتا، أما الفلسطيني اللاجيء من سوريا فانه يجد الاستضافة بين ابناء شعبه من الفلسطينيين الموجودين في مخيمات اللجوء في لبنان، إلا ان السلطات اللبنانية تطالبه ببدل اقامة مرتفع لكل شخص، وكل أسبوع». ويختم:«ولا زال لبنان يتنازع داخل حكومته حول تسوية اوضاع اللاجئين ويطالب الدول العربية بتمويل عمليات اغاثة المنكوبين السوريين على الاراضي اللبنانية، إلا ان لبنان لم ينظم وضع اللجوء على اراضيه، رغم تجاوز العدد الفعلي الاربعمئة ألف لاجيء، ولم يضع مقرات محددة للجوء أو مراكز لتجميع النازحين.»

تقيّم نضال أيوب وضع اللاجئين بأنه «أقل من مزري»، وتبني تقييمها على تعاملها مع اللاجئين الموجودين في المخيمات الفلسطينيّة في بيروت، حيث«تفتقر أغلب بيوت الآجار للخدمات أو مستلزمات الحياة، ويعجز الكثيرون عن الحصول على الدواء. هناك أمراض منتشرة وأناس كثيرون يعانون من أوضاع صحيّة سيئة، كما يكثر المتسولون في الطرقات». وعن سلوك الحكومة اللبنانيّة تقول أيوب أنه فعلاً «نأي بالنفس»، وتتساءل عن مصير الأموال التي تعتقد أنها تصل، نظرياً، كمعونات للاجئين. تؤكد أيوب كذلك أن أداء المنظمات الدوليّة غائب، في بيروت على الأقل، وتعليقها على أداء المجتمع المدني يصب في الإشارة إلى المساهمات والمبادرات الفرديّة أكثر من الحديث عن جمعيات.

بيانات ومبادرات

أصدر مثقفون وناشطون لبنانيون بياناً مندداً بالتصريحات العنصريّة ضد اللاجئين القادمين من سوريا، وظهرت العديد من المواد الصحافيّة والسمعيّة-البصريّة المتصدّية للمنطق المحرّك لهذه التصريحات. تعتبر نضال أيوب أن أثر هذه المبادرات معنوي بالدرجة الأولى، وفائدتها الأولى قد تكون في «ردّ الروح للسوريّ الذي يشعر بالإهانة عند سماع هكذا تصريحات»، وﻻ تدري أيوب ما هو أثر هذه المبادرات على الأوساط اللبنانيّة، لكنها تؤكد على ضرورة استمرار المحاولة في هذه المجالات.

بدورها، تؤكد رشا الأطرش على استحقاق كاتبي البيان والموقعين عليه تحيّة «من القلب والعقل»، وترى أنهم، رغم عدم تغييرهم ربما للمسار السائد، «صوت ارتفع ليقول ما معناه «الخطاب العنصري لا يمثلني»، وليدلّل على أن «الثقافة المهيمنة» ليست هي الوحيدة. وهذا الصوت يرفد مبادرات الدعم الميداني اللوجستي التي تتحدث عنها، والتي بدورها ما زالت غير كافية، لكنها في رأيي صمّام أمان ما، على المستوى الإنساني والأخلاقي أولاً، ومن بعده مستقبل العلاقات مع الشعب السوري، خلال الثورة الراهنة وبعدها. لا بد من الاعتراف بأن خطاب الكراهية أنجح في مخاطبة الغرائز المجيّشة أصلاً بسبب المناخ الحالي، لكن تلك المحاولات الشريفة تفتح كوّة في الجدار، بذرة أمل لا بدّ منه».

يذكّر وسام عبيد أن بيان المثقفين اللبنانيين المذكور أعلاه لم يكن الأول، فقد صدر قبله العديد من البيانات التي أدانت العنصريّة اللبنانيّة تجاه السوريين والفلسطينيين، وعن رأيه ببيان المثقفين يقول:«البيان محدود الفعالية على الارض وتأثيره ضئيل على صناع القرار القانوني والسياسي في البلد إضافةً إلى أن إنتشاره يبقى محصوراً في هذه الفئة التي تعنّى بالثقافة والاعلام. الواقع أعقد بكثير من مجرد بيان أو حملات تضامن فردية تهدف في الأساس إلى تسجيل موقف إنساني على طريقة المسؤلية التاريخية او رفع العتب . أن السعار العنصري الذي يعيشه بلد الأرز الصغير يتطلب تشكيل لوبي أو مجموعة ضغط عابرة للتحالفات السياسية وتتخطى الموقف من الثورة أو النظام، يكون مهمة هذا اللوبي إجبار الدولة على إصدار تشريعات قانونية تجرم العنصرية عبر تحرك حقيقي في الشارع ونشاط ميداني، أما إبقاء النشاط حبيس صفحات التواصل الاجتماعي فلن يؤدي إلا إلى دخول هذا الموضوع الاخلاقي في بازار تسجيل النقاط. دخل البيان المذكور في أزمة الاستقطاب السياسي فاغلب الموقعين عليه هم من المنتمين إلى فريق سياسي معين أو القريبين منه. فكان من السهل تعامل السلطة اللبنانية مع الأمر كجزء من التنافس السياسي اللبناني الداخلي علاوة على ذلك فقد كان هذا البيان رداً على تصريح عنصري لسياسيين، في الوقت الذي كانت العنصرية المعترض عليها قد بدأت قبل ذلك بكثير و تجسدت بأعمال عنف طاولت العمال بعيد بدء الثورة. يبقى البيان حبراً على ورق لا تعوزه أي متابعة في وجه سلطة يعتبر الفريق المسيحي داخلها أن هذه العنصرية رد طبيعي على هواجس مبررة من إستيطان أعداد كبيرة من السوريين داخل البلد الذي يدار بتوازن عددي هش بين الطوائف اللبنانية. أما الفريق المسلم ممثلاً بالممانعة فيصمت عن هذه العنصرية محاولاً بذلك إرضاء النظام عبر إهانة الهاربين من حكمه».

يتفق سعد الكردي مع وسام عبيد في نقطة قلّة فعاليّة البيانات على الأرض، ويرى أن دورها يقتصر على «تقديم خطاب بديل لمن يرفضون التمييز، ومن لديهم من الإنسانيّة ما يكفي للامتناع عن التمييز ضد شعب منكوب».

أما فداء عيتاني فيعتبر أن «التركيبة السياسية اللبنانية متشابكة طائفياً الى الحد الذي يصبح فيه صوت العقل والمنطق غير مسموع، وإن سمع فلا يؤثر، أو يكاد لا يؤثر في أصحاب القرار، إلا احيانا يدفعهم الى سحب تصريحاتهم ولكن مع الإمعان في نفس الممارسة السياسية، ويتحول الجدال الى جدل عقيم بدل ان يتحول الى محاسبة للخطاب العنصري وصاحبه»، ويكمل:«يبقى أن المرء يفخر انه وبكل هذه الاوضاع المحلية لا يزال مثقفو وناشطو البلاد يتحدثون باسلوب حضاري وإنساني، يمكن معه أن نغسل ايدينا من رجس العنصريين والفئويين، ونمد أيدينا الى اللاجيء السوري ما أمكننا، ودون ان ألزم أي أحد آخر، فأنا أعتقد أن هذا المناخ المفتوح يسمح لمن يرغب بدعم الثورة السورية من لبنان سياسياً واعلامياً وانسانياً».

المستقبل المنظور للانعكاسات اللبنانيّة للثورة السوريّة

يبدو من الصعب، في ظل الواقع المتقلبّ والمضطرب بشدّة، رسم خط واضح لما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان في ظلّ الحدث السوري، ويعبّر سعد الكردي عن هذه الصعوبة بشكل قاطع بقوله أن ﻻ أحد قادرٌ على التأكيد بأنه يفهم هذا المسار تماماً، «ومن يقول عكس ذلك إنما يكذب».

بالمقابل، يعتقد وسام عبيد بوجود إتفاق غير معلن بين الأطراف اللبنانيّة بعدم تفجير الأوضاع في لبنان، لكنه يشير إلى أن هذا الإتفاق لا ينم عن حكمة الساسة اللبنانيين بل عن القرار الإقليمي والدولي بحماية اﻻستقرار المتقلص في لبنان، وبما يخص المناوشات المتقطعة التي تحدث بين الفينة والأخرى في جبل محسن والتبانة في طرابلس فهي «تدخل في إطار رسائل سياسية سورية حيناً ورسائل من زعماء محليين شماليين أحياناً، إضافة إلى كونها تنفيس عن إحتقان مجتمعي وسياسي في صراع ممتد منذ 3 عقود». يرى عبيد كذلك أن الانعكاس الذي كان من المتوقع حدوثه هو تصدير النظام السوري للعنف إلى لبنان في محاولات للتخفيف عمّا يواجهه في الداخل السوري .«إلا أن قدرة النظام على هذا الفعل تبدو في تراجع بعد ما يقارب عامين من الثورة بسبب انشغاله في معركة تقترب يوماً بعد يوم من عرينه الدمشقي وإن كانت هذه القدرة لم تختفي حتى الآن. غير أن خيار تفجير الداخل اللبناني لم يغيب عن العقل الأمني السوري بدليل ما قام به الوزير سماحة، ولكن حتى هذا الأمر له دلالات معينة، هناك أطراف لبنانية ذات قدرات أمنية كبيرة لم تكلف بالقيام بهذه المهمة أو أنها كلفت فرفضت. مما يعني أن القوى السياسة المرتبطة عضوياً بالنظام قد افلتت أيضاً من قبضة أوامره وإن بقيت على تحالف متين معه مما يحيي الاستقرار لمدة اطول.الأهم في ذلك أن لا مصلحة لحلفاء سوريا بتفجير الأوضاع في لبنان خاصة أنهم يشكلون الأغلبية في السلطة فأي فشل أمني من أي نوع سيحسب عليهم على ابواب انتخابات قادمة». أما اﻻنعكاس الأشد خطورة على الواقع اللبناني، حسب عبيد، فهو «المسار الذي ستنتهي إليه الثورة السورية أي بعد سقوط النظام، التأثير في هذه الحالات سيكون نوعي على صعيد التحالفات والسياسة اللبنانية بمجملها».

عن توقعاته المستقبليّة لانعكاسات الثورة السوريّة على لبنان يقول فداء عيتاني: «سيعيش لبنان عوارض جانبية للثورة السورية، كما سيتم تصفية حسابات فيه بين الفرقاء اللبنانيين اولاً، على خلفية الثورة، وبين اطراف محلية واقليمية، سيكون من الصعب تجاوز تفاعلات الثورة السورية خلال الاعوام القليلة المقبلة، وسيكون للبنان دوراً كبيرا في دفع كلفة الثورة وفي دفع فواتير الانتقام للعديد من الاطراف».

..

لربما عمّقت الثورة السوريّة ذاك الاعتقاد القديم بأن تصحيح العلاقات السوريّة-اللبنانيّة هو المدخل الأكبر واللازم لاستقرار لبنان على أسس قابلة للتنمية والتطوير، وبعيداً عن نزعات اﻻرتباط العضوي مع النظام السوري من جهة أو التماهي مع كراهية «السوري» دون التمييز بين نظامٍ وشعب من جهة أخرى، وبعيداً أيضاً عن النزعات التي، بشيزوفرينيا سياسيّة مدهشة، مزجت بين العنصريّة تجاه «السوري» كإنسان والتحالف مع «السوري» كنظام استبداد، نزعات أزهرت أشواكها بالذات خلال العامين الفائتين، تبدو أطروحة الشهيد سمير قصير حول أن ديمقراطيّة سوريا هي أول الحل باتجاه ديمقراطيّة حقيقيّة في لبنان حيّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى. حتى ذلك الحين، وبالمضي في طريق الغد المليء بالتعرّجات، ثمة مسألة إنسانيّة تخص اللاجئين السوريين في لبنان تستحق اﻻهتمام والعطف والتضامن من قبل أشقائنا وأصدقائنا اللبنانيين، ورغم كلّ الصعوبات والمعوقات هناك من يفعل كلّ ما بوسعه لتوفير هذا اﻻهتمام والعطف، وعلى هذا يستحق ما هو أكثر من شكر عميق وامتنان دائم.