نعتقد أنه لا يوجد تناقض جذري بين الصراع الأهلي والثورة. الثورة تحمل بداخلها، بالضرورة، عوامل صراع أهلي. في كل ثورة, يوجد وجه لصراع أهلي لا يجب التغاضي عنه.
في الحالة السورية, هناك حقيقة مأساوية لا يمكن نكرانها: هناك سوريون يقاتلون ويقتلون سوريين على أرضٍ سورية. السؤال كما نرى، هو ليس إن كانت توجد بوادر أو عوامل صراع أهلي في سوريا؟ هذا أمر حاصل، وقد نُسيء للثورة بإنكاره وتجاهله. المطلوب، بالأحرى، هو أن نطرح الأسئلة التالية: ما هي طبيعة الصراع الأهلي في سوريا؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الثورة والصراع الأهلي؟ وهل يبتلع هذا الصراع الثورة ويغطيها؟
في طبيعة الصراع الأهلي في سوريا
بدايةً،الصراع الأهلي الدائر في سوريا، ليس صراعاً طائفياً بحتاً. يبالغ المجتمع الدولي والإعلام (الغربي منه تحديداً) في تصوير الصراع على أنه صراع طائفي. نعتقد أن هذه القراءة تأتي ضمن منظومة استشراقية مُتعالية، ترفض أن ترى أن للسوريين، أو للعرب بشكل عام, هويات فوق- طائفية. تبعاً للقراءة الاستشراقية، تكون الحرب الطائفية قدراً للسوريين لا يمكن تغييره. الهويات الطائفية، في القراءة الغربية، وبعض القراءات المحلية، هويات ثابتة ماهوية، خارج التاريخ، وخارج أي سياق اجتماعي – اقتصادي. نرفض هذه القراءة، لأنها أولاً وقبل كل شيء، غير مطابقة للواقع السوري.
هنا يجب أن نسجّل أنه ليس كل صراع أهلي هو صراع طائفي أو ديني بالضرورة. الحرب الأهلية الإسبانية، كانت صراعاً بين أنصار الجمهورية وأتباع فرانكو الفاشيين. الحرب الأهلية الروسية، التي أتت ضمن سياق ثورة ضد القيصر، كانت حرباً أهلية ضمن سياق ثورة. بدرجة ما، ينطبق ما سبق على الثورتين الليبية واليمنية.
نرى أنّ ما يجري في سوريا أقرب إلى الأمثلة السابقة, منه إلى حرب أهلية طائفية مفتوحة. ليس في الشرق الأوسط خصوصية ما تجعله عرضة لصراعات طائفية بحتة كل ما أتيح لأبناء الطوائف التعبير عن أنفسهم، كما يرى الاستشراقيون. على العكس من ذلك, نرى أن الصراع الطائفي يندرج ضمن سياق اقتصادي- اجتماعي يحيل إلى احتكارات وتمايزات في القوة والنفوذ ورأس المال. أحد أهم أسباب الصراع الأهلي هو ثورة السوريين على طبقة إقطاع جديدة استعبدتهم بشكل كامل. عموم السنة الثائرون مثلاً، يحرّكهم نزوع نحو العدالة الاجتماعية، والانتقام من هؤلاء الإقطاعيين، أكثر مما يحركهم شعور طائفي صافي بسنيتهم. أما ما يخص الطبقة الإقطاعية الحاكمة، فهي تضم طوائف مختلفة، تحظى فيها العائلة الحاكمة وحواشيها التي تنتمي إلى الطائفة العلوية بالنسبة الأكبر من العائدات والنفوذ. هذا التداخل بين ما هو اقتصادي-اجتماعي، وما هو طائفي، بحاجة لدراسة معمّقة.
في سوريا، نجد سوريون يتقاتلون من أجل مشاريع سياسية مختلفة، وليس مجرّد مشاريع طائفية مغلّفة بمشاريع سياسية. بالطبع، يحمل البعض مشاريع سياسية ذات توجه ديني، ولبعضهم مشاريع طائفية. كما أن هناك كلام طائفي صريح على جانبي الصراع. ولكن، لا يمكن اختزال الصراع الأهلي بالصراع الطائفي، لأسباب متعددة. للصراعات الأهلية أبعاد متعددة, منها أبعاد داخلية، طائفية ودينية وإثنية وطبقية ومناطقية… إلخ، وبالطبع عوامل خارجية، إقليمية ودولية. كل هذه العوامل حاضرة في الصراع السوري. التوتر الطائفي يشكل أحد هذه الأبعاد فقط. محرّك الصراع الأهلي ليس طائفياً بحتاً. ما هو بالضبط علاقة الصراع الطائفي بالسياق الاقتصادي- الاجتماعي؟ هو السؤال الذي يجب أن نحاول الإجابة عنه. أما تصوير الصراعات الطائفية في المنطقة على أنها صراعات معزولة عن أي سياقات أخرى, فهو قراءة عنصرية، لا تحاول حتى فهم ما يجري على الأرض.
بالمقابل، يجب الاعتراف بوجود توتر طائفي في سوريا، و بالتحديد توتر علوي – سني. كما يوجد بوادر صراع أهلي طويل الأمد. رد الفعل على مبالغات الإعلام الغربي، وادعاءات بعض الإسلاميين المتشددين، وبروباغندا النظام وحلفاؤه الإقليميين، يجب ألا تكون بتجاهل الاحتقانات الطائفية.
بالنتيجة، نرى أن إغفال عوامل الصراع الأهلي، الطائفي وغير الطائفي، الطبقي والمناطقي وما إلى ذلك، يؤدي إلى عدم فهم طبيعة الأحداث الجارية في سوريا. كل ذلك يحتاج إلى دراسة تفصيلية ومعمّقة للواقع السوري. تصوير الصراع على أنه صراع طائفي بحت، خطأ، وهو مقصود في معظم الأحيان.
بين الثورة والحرب الأهلية «العبثية»؟
في الإعلام الغربي تم اعتماد مصطلح الحرب الأهلية لوصف ما يجري في سوريا. نجد هذا المصطلح مُكرراً أيضاً في توصيف الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمات دولية, كما في تصريحات المبعوث الأممي الأخضر الابراهيمي التي تهدف لوقف العنف, بالإضافة لبعض العرب والسوريين أيضاً.
من متابعة الدارج في مقولات من يصف ما يجري في سوريا بالحرب الأهلية، نعتقد أن هؤلاء يرون الأحداث على النحو التالي: إنها معركة متكافئة بين طرفين، يسعى كل منهما للوصول إلى السلطة عن طريق العنف. بالإضافة إلى ذلك، كل طرف مسلّح مدعوم من قوى إقليمية ودولية لها مصالح مختلفة. هذه حرب بالوكالة على أرض سورية، يتم فيها استخدام السوريين كبيادق في حرب باردة بين تلك القوى. ومن يدفع الثمن هم السوريون الأبرياء، اللذين لا ناقة لهم ولا جمل. من جهة أخرى، الأطراف السورية التي يتم استغلالها تخوض حرباً طائفية، السنة المتشددون في مواجهة الطوائف الأخرى. مع الاعتراف، غالباً، ببشاعة وهمجية النظام، الذي يمثّل العلويين وبقية الطوائف، وحتى الأقليات العرقية في بعض الروايات. إلا أن هذه الهمجية تتساوى مع همجية المعارضين، اللذين يمثّلون التشدد السني والمجموعات الجهادية وصولاً إلى القاعدة. ما يخيف المجتمع الدولي (بأقطابه الداعمة للنظام أم المعارضة) هو أن يقوم هؤلاء السنة المتشددون, في حال نجحوا بالإطاحة بنظام الأسد, بقمع الطوائف الأخرى، إن لم يكن بإبادتها.
هذه هي إذن الحرب الأهلية، بكل بشاعتها. وإن لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتصارعة، سوف يتم تدمير الدولة السورية بالكامل. لا منتصر في حرب أهلية، إلا الخراب. الحل الوحيد في سوريا هو المفاوضات. سوف ندعو هذا الوصف/ الرواية: الحرب الأهلية العبثية.
لكن خلافاً لهذه الرواية، نعتقد أن ما يجري في سوريا ثورة شعبية ضد نظام طغيان. نعترض على الوصف الوارد أعلاه للأسباب التالية:
أولاً، يتم مساواة الجلاد بالضحية ويختفي أي معنى أخلاقي للصراع. كما يتم تجاهل تاريخي للأحداث وتسلسلها، من أطفال درعا، إلى المظاهرات السلمية التي انتشرت تدريجياً لتصبح مظاهرات بمئات الآلاف في حماه ودير الزور، مروراً باعتصامات دوما والجامع العمري في درعا وساحة الساعة في حمص، وعشرات حالات القتل تحت التعذيب أثناء الاعتقال التعسفي، ومئات الأحداث التي أثبت فيها النظام عدم رغبته، أو قدرته، على تغيير سلوكه. بالإضافة لتجاهل تاريخ سوريا الحديث بالمجمل، منذ انقلاب الثامن من آذار، إلى «الحركة التصحيحية»، وتوريث بشار الأسد الحكم، ورفض حزب البعث، ثم العائلة الحاكمة، أي مشاركة سياسية مع أي طرف في البلد. بالإضافة إلى ذلك، نرى انه لا يمكن قراءة الثورة السورية بمعزل عن الثورات العربية الأخرى. الثورة السورية جزء من حركة شعبية عمت المنطقة تسعى للتحرر من أنظمة استبدادية وفاسدة. عندما يتم وصف ما يجري في سوريا بالحرب الأهلية فقط، يتم تجاهل كل ما سبق، والتركيز على المعارك الجارية بين الجيش النظامي والجيش الحر.
ثانياً، فيما يخص هذه المعارك و طبيعتها. لا يوجد حرب بالمعنى التقليدي في سوريا، حتى اللحظة أقله. يوجد مجموعات مسلّحة تواجه جيشاً نظامياً يمتلك طائرات ودبابات ومدّرعات، وصواريخ بالستية وأسلحة كيماوية، وقد استخدم معظم صنوف هذه الأسلحة ضد المدنيين العزّل والثوار المسلّحين دون أي تمييز يذكر. لا يوجد معركة تستند إلى ترسانتين متساويتين ولو تقريباً في سوريا. قلنا مراراً أن إطلاق اسم «الجيش الحر» على الثوار المسلّحين غير دقيق، فمصطلح المقاومة الشعبية المسلّحة أكثر دقة للتعبير عن الحالة السورية.
ثالثاً: وبالرغم من الطابع العسكري الذي طغى على الثورة السورية مؤخراً، إلا أن حصر وصف الأوضاع في سوريا بالحرب الأهلية يعني أيضاً إغفال مظاهر الحراك المدني والسلمي، التي مازالت تشكل مكوناً أساسياً في الحراك الشعبي ضد النظام. فإضافة إلى المظاهرات التي ما زالت تخرج كل ما كان ذلك مُتاحاً. هناك أشكال متعددة من العمل المدني، في مجال الإغاثة والإعلام والتنظيم السياسي، تتم بأشكال سرية في المناطق التي مازالت تحت قبضة النظام، وبشكل علني وأكثر تنظيماً في المناطق التي يديرها الثوار. هناك مئات الشبكات والتجمعات الشبابية التي تنشط في مجال التوثيق والعمل الإغاثي، ومنها ما ينشط في المجال الحقوقي والسياسي أيضاً، بالإضافة إلى عشرات الجرائد والمنشورات التي تُحرر وتُوزع في الداخل السوري. لا يرى معظم هؤلاء أنهم منخرطين في حرب عبثية, بل هم أصحاب مشروع سياسي ديمقراطي.
ما يحصل في سوريا كان ومازال ثورة شعبية ضد نظام شمولي قمعي. نرى أن محاولة تصوير الأمور على أنها حرب أهلية عبثية هو أمر، وقبل الحكم على صوابه الأخلاقي، يخالف الواقع ويؤثر على الحلول المطروحة. إن كانت ثورة، فالحل هو التخلص من الاستبداد. إن كان محض حرب أهلية، فالحل هو مفاوضات بين طرفين متساوين، وربما الجنوح إلى المُحاصصة!
الثورة السورية في أطوارها المختلفة، طريق طويل وشاق
يوجد أوجه مختلفة للصراع الأهلي في سوريا, داخل الثورة. لا يعني الاعتراف بعوامل الصراع الأهلي في سوريا, أنه لا يوجد ثورة، و أن ما يجري هو مجرد حرب أهلية عبثية. بعض الأمثلة المطروحة أعلاه، أي الصراعات الأهلية متعددة الأوجه في الثورات الروسية والفرنسية والليبية واليمنية، تجعلنا نعتقد أنه لا يمكن الفصل الكامل بين الثورة بوصفها سعي قطاعات واسعة من الجماهير لتغيير واقعها الرديء من جهة، وبين احتواء هذا السعي – في أطواره المختلفة – على أشكال من الحرب الأهلية من جهة أخرى. بمعنى أعم: معظم الثورات تحتوي على أوجه مختلفة لحروب أهلية. في معظم الثورات، نجد أن بعض أبناء البلد، لأسباب متعددة، يقفون إلى جانب القمع، أو على الحياد. لا يوجد ثورات صافية، بمعنى أن تجتمع كلمة الشعب بأكمله، فجأة ودون صراع، على التخلّص من نظام الحكم. هناك ثورات أسهل من غيرها، لأسباب مختلفة ومتعددة. ولكن لا يوجد ثورات بدون أشكال من صراع أهلي، بدون خاسرين، بدون رماديين وانتهازيين، وبدون شهداء.
لا يجوز للثوار، وبأي ذريعة، إنكار ملامح الصراع الأهلي، وبوادر الاصطفافات الطائفية الحادة، هذه تعمية لا تؤدي إلا إلى زيادة في تفاقم الأمور. لا أحد يجب أن يشعر بالحاجة إلى التجمل، فما يحدث في سوريا ليس حرب أهلية «عبثية»، ما يحدث هو ثورة بمخاض طويل وأطوار متعددة، إنها أطول الدروب وأكثرها وعورة لاستعادة الحرية.