ثلاثة وتسعون عاماً، هي على الأرجح المرحلة الأخيرة. لم تعد النهاية بعيدة. و من حظي أن أستفيد من ذلك للتذكير بما كان الركيزة الحقيقية لالتزامي السياسي: سنوات المقاومة والبرنامج الذي أنشأه المجلس الوطني للمقاومة قبل ستة وستين عاماً، وندين في هذا المجلس لـ جان مولان في اجتماع كل مكونات فرنسا المحتلة، كل حركاتها و أحزابها ونقاباتها، لتعلن انتماءها لفرنسا المقاتلة وإلى قائدها الأوحد المعترف به: الجنرال دو غول. من لندن، حيث التحقت بالجنرال دو غول في آذار من عام 1941، علمت أن المجلس استكمل برنامجاً، وتبناه في 15 آذار من عام 1944، واقترح لفرنسا المحررة مجموعة من المبادئ والقيم تستند إليها الديمقراطية الحديثة لبلدنا ممثلو حركات المقاومة الثمانية الكبرى، والنقابتان الكبريان ما قبل الحر (CGT وCFTC)، بالإضافة للأحزاب السياسية الستة الكبرى للجمهورية الثالثة (منهم PC وSFIO الاشتراكيان) أسسوا سرّاً المجلس الوطني للمقاومة في 27 مايو/ آيار 1943، في باريس، وقد عقد المجلس اجتماعه الأول في 27 أيار\مايو برئاسة جان مولان، مبعوث الجنرال دو غول الذي أراد إنشاء هذا المجلس لتسهيل النضال ضد النازيين، وليعزز من شرعيته أمام الحلفاء. وقد أوكل دو غول إلى هذا المجلس مهمة إنشاء برنامج حكومة بانتظار تحرير فرنسا. هذا البرنامج كان مادة للكثير من الأخذ والرد بين المجلس الوطني للمقاومة وحكومة فرنسا الحرة، بين لندن و الجزائر، قبل أن يعتمده المجلس الوطني في 15 آذار 1944 في اجتماع هيئة عامة. قدم المجلس الوطني للمقاومة هذا البرنامج بشكل رسمي إلى الجنرال دو غول في 25 آب 1944 في بلدية باريس. وتجدر الإشارة إلى أن التشريع حول الصحافة سُنّ منذ 26 آب، وأن أحد المهندسين الأساسيين للبرنامج كان روجيه جانسبرغر، ابن رابان من منطقة الألزاس الفرنسية، وكان حينها يحمل اسماً مستعاراً (بيير فييون)، وهو الأمين العام للجبهة الوطنية لاستقلال فرنسا، وهي حركة مقاومة أسسها الحزب الشيوعي الفرنسي في 1941، وكان يمثل هذه الحركة في المجلس الوطني للمقاومة وفي مكتبه الدائم..

اليوم، وأكثر من أي يوم، نحن بأمسّ الحاجة إلى تلك المبادئ وتلك القيم. يقع على عاتقنا جميعاً أن نحرص على بقاء مجتمعنا مجتمعاً نفتخر به؛ وليس مجتمع المحرومين من أوراق الإقامة، مجتمع المطرودين من الأراضي الفرنسية، مجتمع الاشتباه والتشكيك بالمهاجرين؛ وليس مجتمعاً نعيد فيه التساؤل حول قضايا التقاعد ومكتسبات الضمان الاجتماعي؛ وليس مجتمعاً تكون فيه وسائل الإعلام في أيدي الأغنياء، وكل تلك الأشياء التي كنا سنرفض دعمها لو كنا الورثة الحقيقيين «لمجلس المقاومة الوطني».

منذ عام 1945، وبعد مأساة مروّعة، تداعت كل القوى الحاضرة في «مجلس المقاومة» إلى عملية نهوض وبعث طموحة، ولنتذكر أنه في حينها أُنشأ الضمان الاجتماعي كما تمنته المقاومة وكما تصوره برنامجها «خطة كاملة للضمان الاجتماعي تهدف إلى توفير كل سبل العيش للمواطنين في حال عجزوا عن تأمينها بعملهم»؛ «وتقاعد يضمن للعمال السابقين أن ينهوا حياتهم بكرامة». تم تأميم مصادر الطاقة والكهرباء والغاز والفحم والمصارف الكبرى. كما كان يوصي برنامج المقاومة بـ«عودة وسائل الإنتاج الكبيرة المحتكرة إلى الأمة، وهي ثمرة العمل المشترك، ومصادر الطاقة والثروات الباطنية وشركات التأمين والمصارف الكبيرة»؛ و«إرساء ديمقراطية اقتصادية واجتماعية حقيقية، مما يعني فصل الإقطاعيات الاقتصادية والمالية الكبرى عن مسار الاقتصاد». كان على المصلحة العامة أن تتقدم على المصلحة الخاصة، وعلى التوزيع العادل للثروات التي يخلقها العمل أن يتقدم على نفوذ المال. قدمت المقاومة «تنظيماً عقلانياً للاقتصاد تتبع فيه المصالح الخاصة للمصلحة العامة، تنظيماً متحرراً من الديكتاتورية المهنية التي تؤسس على صورة الدول الفاشية»، والحكومة المؤقتة للجمهورية تحمل هذا اللواء وتحرص عليه.

تحتاج الديموقراطية الحقة إلى صحافة مستقلة؛ هذا ما عرفته المقاومة وتطلبته حين دافعت عن «حرية الصحافة و شرفها واستقلالها عن الدولة»، وعن «سلطات المال والتأثيرات الخارجية». وهذا ما تحمل لواءه تشريعات الصحافة منذ عام 1944. إلا أن هذا ما يتعرض اليوم للخطر.

كانت المقاومة تدعو إلى «تمكين كل الأطفال الفرنسيين من الاستفادة من التعليم الأكثر تطوراً» دون تمييز؛ إلا أن الإصلاحات المقترحة في عام 2008 تذهب في اتجاه مناقض لهذا المشروع. بعض المدرّسين الشباب، وأنا هنا أؤيد فعلهم، ذهبوا إلى حد رفض تطبيق تلك الإصلاحات، ورأوا رواتبهم على إثر ذلك تُقتطع كعقابٍ على ما فعلوه. لقد غضبوا، «تمردوا»، لقد رأوا أن تلك الإصلاحات بعيدة كل البعد عن مثال المدرسة الجمهورية، وأنها تغالي في خدمة مجتمع المال ولم تعد تطوّر الحس الإبداعي والنقدي بشكل كافي.

إنها ركيزة المكتسبات الاجتماعية للمقاومة برمّتها التي يُعاد التساؤل حولها بحسب تقديرات نقابية انخفض التقاعد من نسبة 75% أو 80% من الدخل إلى حوالي 50%. كان ذلك هائلاً. في عام 2010، كتب جان بول دومان، وهو أستاذ مساعد بالاقتصاد في جامعة ريمس شامباني أردين، مذكّرةً للمعهد الأوربي للأجور حول «تأمين المرض المكمّل»، يوضح فيها كم أصبح تحصيل تكميل ذي جودة ممتازة يتبع وضع العامل في عمله، وكيف الأكثر هشاشة يمتنعون عن هذا الجانب من الرعاية الصحية بسبب نقص تأمينهم المكمل وبسبب غلاء ما يبقى ويتحملون عبء دفعه، وكيف أن أساس المشكلة هو أن الراتب لم يعد الحامل الأساسي للحقوق الاجتماعية – وهي نقطة مركزية في تشريعات 4 و 15 تشرين الأول\أكتوبر 1945. لقد سنّت تلك التشريعات التأمين الاجتماعي وأخضعت إدارته إلى سلطة ثنائية: سلطة ممثلي العمال والدولة في آن. منذ إصلاحات جوبيه 1995، والتي أعلنت بشكل تشريعات، ومن ثم قانون دوست بلازي (الطبيب) عام 2004، تدير الدولة لوحدها التأمين الاجتماعي. على سبيل المثال، أصبح رئيس الجمهورية هو الذي يعين بالمرسوم المدير العام للصندوق الوطني لتأمين المرض (CNAM). لم يعد الأمر كما كان عليه صبيحة التحرير، حيث كان النقابييون هم من يرأس صناديق تأمين المقاطعات؛ إنها الدولة الآن التي تترأس ذلك عبر مدراء أقسام المقاطعات «préfets» ولا يضطلع ممثلو العمال إلا بدور المستشارين..

دافع المقاومة… هو الغضب

ويجرؤون على القول إن الدولة لم تعد قادرة على تأمين كلفة هذه التدابير المواطنية. لكن كيف يمكن أن تفتقر الدولة للمال الكافي للحفاظ على هذه المكتسبات وضمان استمرارها في حين أن الإنتاج تضاعف بشكل ملحوظ منذ التحرير، حين كانت أوربا مفلسة؟ ما ذلك إلاّ لأن سلطة المال، التي لطالما حاربتها المقاومة، لم تكن يوماً بهذه القوة والوقاحة والأنانيّة، ولأن من يخدمها أناس من أعلى مستويات الدولة. فالمصارف التي خُصخصت تخشى قبل كل شيء على أسهم وحصص مدرائها، العالية جداً، لا على المصلحة العامة. لم تكن الهوّة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء يوماً بهذا الحجم، ولا التهافت أو التنافس على الثروة كان مُشّجَعاً إلى هذا الحد.

كان الدافع الأساسي للمقاومة هو الغضب. ونحن، قدامى محاربي حركات التحرر والمقاومة في فرنسا الحرة، ندعو الأجيال الشابة أن تحيي وتنشر من جديد إرث المقاومة ومُثلها. نقول لهم: احملوا اللواء وتابعوا المسير، استنكروا! ينبغي على المسؤولين السياسيين والاقتصاديين والفكريين للمجتمع برمته ألاّ يستقيلوا، وألاّ يرهبوا دكتاتورية الأسواق الماليّة العالمية الراهنة التي تهدّد السلام و الديمقراطية.

أتمنى لجميعكم، لكل واحد منكم، أن يملك سبباً للغضب. إنه لأمر ثمين. عندما نغضب لسبب معيّن، كما جعلتني النازية أغضب، نصبح مقاومين أقوياء وملتزمين. نلتحق بمسار التاريخ، والذي بدوره يستمر بفضل كل واحد منا. هو مسار يتجه نحو عدالة أكبر، ومزيد من الحريّة، ولكنها ليست حرية اعتباطية تلقي بالثعلب في قنّ الدجاج. تلك الحقوق التي شرعها الإعلان العالمي في العام 1948 حقوق عالمية. إن صادفتم أحداً حُرم منها، ارثوا لحاله، وساعدوه على انتزاعها.

رؤيتان للتاريخ

عندما أحاول أن أفهم ما الذي سبّب الفاشية، وما الذي جعلها تجتاحنا هي وحكومة فيشي، أقول لنفسي إن الأغنياء، بأنانيتهم، شعروا بالخوف الرهيب من الثورة البلشفية. لقد جعلوا مخاوفهم تقودهم. لكن، لو قررت أقلية فاعلة اليوم، كما حينذاك، أن تقف وتنتفض، لكان ذلك كافياً؛ ستكون لدينا الخميرة الضرورية لإنجاح العجينة. من المؤكد أن خبرة رجل مسنّ مثلي، مولود عام 1917، تختلف عن خبرة شباب اليوم. غالبا ما أطلب من أساتذة الثانوية أن يتيحوا لي فرصة التحدث مع طلابهم، وأقول لهم: أنتم لا تملكون الأسباب البديهية نفسها كي تشعروا بالالتزام. فبالنسبة لنا، المقاومة كانت رفض الاحتلال الألماني، أي أن نرفض الهزيمة. وهذا أمر بسيط نسبياً. بسيط ٌ بساطةَ ما تبعه، أي التحرر من الاحتلال. ثم أتت الحرب مع الجزائر. كان ينبغي أن تستقل الجزائر. كان ذلك بديهياً. أما بالنسبة لستالين، فقد صفقنا جميعاً لانتصار الجيش الأحمر على النازية عام 1943. لكن عندما علمنا بالمحاكمات الستالينية الكبرى في العام 1935، حتى لو كان يتعيّن علينا أن نُصيخ السمع للشيوعية كي توازن الرأسماليّة الأميركية، كانت مواجهة هذا النظام الشمولي غير المحتمل ضرورة فرضت نفسها بديهياً. لقد قدمت لي حياتي الطويلة سلسلة من الأسباب لأغضب.

وُلدت هذه الأسباب من إرادة حية بالالتزام أكثر مما كانت بدافع العاطفة. حين كنت طالباً شاباً في المدرسة العليا لإعداد المدرسين، تأثرت تأثراً كبيراً بسارتر، وقد كان يكبرني كزميل في المدرسة. لقد كانت أعماله، من «الغثيان» إلى «الحائط» إلى «الكائن والعدم»، مهمة جداً في تكويني الفكري. لقد علّمنا سارتر أن نخاطب أنفسنا قائلين: «أنتم مسؤولون كأفراد». كانت رسالة تحرّرية. مسؤولية الإنسان الذي لا يستطيع أن يسلّم أمره لا لإله ولا لأي سلطة. على العكس، عليه أن يلتزم باسم مسؤولتيه ككائن إنساني. عندما التحقت بالمدرسة الوطنية العليا في شارع أولم، عام 1939، دخلتها كحواريّ متحمس للفيلسوف هيغل، وكنت أتابع الحلقة الدراسية لـ موريس ميرلوبونتي. كان تعليمه يحاول استكشاف التجربة الحسية، تجربة الجسد والعلاقات الحسية التي يقيمها، تجربة «المفرد» الكبير (الفرد) بمواجهة «جمع» الحواس. غير أن تفاؤلي الطبيعي، الذي كان يمنّي نفسه لو كانت كل الأماني قابلة للتحقيق، قادني إلى هيغل. تؤوّل الهيغلية التاريخ الطويل الذي عاشته البشرية تأويلاً ذا مغزى: إنه حرية الإنسان التي تتطور خطوة بخطوة. قام التاريخ على صدمات متتالية، وعلى مواجهة التحديات. يبقى تاريخ المجتمعات في تطور مستمر حتى يصل الإنسان إلى حريته الكاملة، وتقوم الدولة الديموقراطية بصورتها المثلى.

لا شك في أن هناك مفهوماً آخر للتاريخ. التقدم الذي تحرزه الحرية والمنافسة والتسابق باتجاه «المزيد دوماً»، لكنه قد يصبح إعصاراً مدمراً. هذا المفهوم لروح التاريخ يوضّحه أكبر أصدقاء أبي، الرجل الذي اشترك معه في مهمة ترجمة عمل مارسيل بروست «البحث عن الفردوس المفقود» إلى الألمانية، وهو الفيلسوف الألماني والتر بنيامين. كان والتر بنيامين قد استخلص رسالة متشائمة من لوحة للفنان السويسري بول كلي تجسّد صورة ملاك يفتح ذراعيه كما لو أنه يريد احتواء أو إبعاد العاصفة، التي شبّهها بالتقدم. بالنسبة لبنجامين، الذي انتحر في العام 1940 بدافع الخلاص من النازية، معنى التاريخ هو ذلك الانقياد الذي لا يقاوم من كارثة إلى أخرى.

اللامبالاة : أسوأ الطباع

صحيح، أسباب الغضب قد تبدو اليوم أقل وضوحاً، أو إن العالم يزداد تعقيداً. من يدري؟ من يقرّر؟ ليس من اليسير أن نميّز دائماً بين التيارات التي تحكمنا. لا نتعامل هنا مع نخبة صغيرة نستطيع أن نفهم أفعالها بوضوح. إنه عالم شاسع نشعر جيداً بمدى تعلق وشائجه ببعضها. إننا نعيش في عالم متشابك لم نشهد له مثيلاً بعد. لكن هناك أمور في هذا العالم لا تُحتمل. لكي نرى ذلك علينا أن ننظر جيداً، وأن نبحث. أقول للشباب: ابحثوا قليلاً، وستجدون. أسوأ الطباع هي اللامبالاة، هي أن نقول «ليس باليد حيلة، سأتدبر أمري». حين تتصرفون على هذا النحو، ستفقدون أحد المكونات الأساسية التي تصنع الإنسان، أحد المكونات الضرورية: القدرة على الغضب، وعلى الالتزام الذي ينتج عن هذا الغضب.

يمكننا بذلك أن نميز تحدّيين جديدين كبيرين:

1) الهوة الواسعة التي تفصل الفقراء جداً عن الأغنياء جداً، والتي لا تفتأ تتسع. انه ابتكار القرنين العشرين والحادي والعشرين. شديدو الفقر في عالم اليوم يجنون بالكاد دولارين في اليوم. لا يمكننا السماح باتساع هذا الفرق أكثر. هذا السبب وحده كفيل بأن يدفع المرء إلى الالتزام.

2) حقوق الإنسان ووضع الكرة الأرضية. حالفني الحظ بعد التحرير في أن أكون من بين من صاغوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة يوم 10 كانون الأول\ديسمبر عام 1948 في باريس، في قصر شاييو. لقد شاركت مع آخرين في صياغة هذا الإعلان بصفتي مدير مكتب هنري لوغييه، أمين عام مساعد الأمم المتحدة، وبصفتي أمين سرّ لجنة حقوق الإنسان. لن أنسى ما حييت دور رينه كاسان في تلك الصياغة، وهو المفوّض الوطني للعدالة والتربية في حكومة فرنسا الحرة (في لندن، 1941)، والذي حاز على جائزة نوبل عام 1968، ولا دور بيير مانديس فرانس في المجلس الاقتصادي والاجتماعي. كانا يراجعان النصوص التي نصوغها قبل أن تفحصها لجنة ثالثة في الهيئة العامة مسؤولة عن القضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية. كانت تلك اللجنة تشمل الدول الأعضاء الخمس والأربعين في ذلك الوقت، وكنت أنا أمين سرها… يعود الفضل لـ رينه كاسان في اعتماد مصطلح الإعلان «العالمي»، لا الإعلان «الدولي» لحقوق الإنسان كما كان يقترحه أصدقاؤنا الأنغلوساكسون؛ لأنه هنا كان يكمن الرهان الأكبر ونحن نخرج لتونا من حرب عالمية ثانية: أن نتحرر من التهديدات التي أثقلت الشملية بها العالم. كي نتحرر منها، كان علينا أن نضمن تعهّد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة باحترام هذه الحقوق العالميّة. كانت طريقة لتفنيد حجج السيادة المطلقة التي قد تبرزها الدول في حين أنها ترتكب جرائم ضدّ الإنسانية على أرضها، كما كان حال هتلر، الذي كان يعتبر نفسه سيّداً في بلده وله الحق في ارتكاب إبادة. هذا الإعلان العالمي يَدين بالكثير للانقلاب العالمي ضدّ النازية والفاشية والشمولية، ويَدين أيضاً، عبر وجودنا، إلى فكر مقاومتنا (في فرنسا). كنت أشعر حينها بأنّ علينا أن نسرع، وألا ننخدع بالنفاق الذي كان يحمله إقرار المنتصرين العلني بهذه الحقوق في حين لم يكونوا يعتزمون جميعهم نشرها بصدق، بيد أنا كنّا نريد أن نفرضها عليهم أقرت 48 دولة من أصل 58 عضو في المجلس العمومي للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في 10 كانون الأول\ديسمبر 1948 في باريس. وامتنعت ثماني دول: جنوب افريقيا (بسبب الأبارتهيد، والذي يُدينه الإعلان)؛ المملكة العربية السعودية (بسبب مساواة الرجل بالمرأة)؛ الاتحاد السوفياتي، أي روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، والذين اعتبروا أن الإعلان لا يذهب بعيداً في اعتبار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبسبب مسألة حق الأقليات. علينا أن نذكر أن روسيا على الأخص مانعت الاقتراح الأسترالي بإنشاء محكمة عالمية لحقوق الإنسان مهمّتها البتّ في العرائض والاحتجاجات الموجهة للأمم المتحدة. كما علينا هنا أن نذكّر بأن المادة 8 من الإعلان تدخل مبدأ لجوء الفرد إلى الاحتجاج على دولة في حالة الخرق للحقوق الأساسية. سيجد هذا المبدأ تطبيقه عام 1998، حين أُنشئت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، والتي تضمن هذا الحق لأكثر من 800 مليون أوروبي..

لا أقاوم رغبة اقتباس المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لكل إنسان حق التمتع بجنسية»، والمادة 22: «لكل إنسان، بصفته عضواً في المجتمع، الحق في الضمان الاجتماعي، والضمان الاجتماعي يقوم على أساس تمتع كل إنسان بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا بد منها للحفاظ على كرامته وللتطور الحر لشخصيته، وذلك بفضل المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها». وعلى الرغم من الطابع الإشهاري الإعلاني للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يغلب طابعه القانوني، إلا أنّه تمكن من لعب دور حاسم منذ عام 1948، فقد رأينا شـعوباً محتلة تستند إليه في نضالها للاستقلال. فهو قد بذر بِذاره في أذهان الناس في معركتهم من أجل الحرية.

أُسرّ عندما ألحظ تكاثر المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية، مثل حركة Attac (جمعية فرض الضرائب عل المعاملات المالية) أو منظمة FIDH (الفيدرالية العالمية لحقوق الإنسان) ومنظمة Amnesty. وهي منظمات فاعلة وذات أداء عالي. لقد بات واضحاً اليوم أننا، لنكون فعالين، علينا التحرك ضمن شبكات، والاستفادة من كافة وسائل التواصل الحديثة.

وأقول للشباب: انظروا من حولكم، ولا بدّ ستجدون الأسباب التي تبرّر غضبكم: التعامل مع المهاجرين ومع المحرومين من أوراق الإقامة ومع الغجر. سوف تجدون حالات ملموسة تدفعكم للقيام بحراك مواطني قوي. احثوا وسوف تجدون!

فلسطين وغضبي

جلّ غضبي اليوم يتعلق بما يحصل في فلسطين، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. هذا الصراع بحدّ ذاته هو مصدر غضب. ينبغي حتماً قراءة تقرير القاضي ريتشارد غولدستون حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2009، والذي اتهم فيه القاضي اليهودي (من جنوب إفريقيا، والذي يعتبر نفسه صهيونياً) الجيش الإسرائيلي بـ«ارتكاب أعمال قد تعتبر جرائم حرب، وربما أيضاً في بعض الحالات جرائم ضد الإنسانية»، وذلك خلال العملية العسكرية المعروفة باسم «الرصاص المسكوب» والتي استمرت ثلاثة أسابيع. عام 2009، ذهبت بنفسي إلى قطاع غزة، حيث استطعت الدخول برفقة زوجتي بفضل جوازَي سفرنا الدبلوماسيَين. أردت أن أعاين بأم عيني ما ورد في التقرير. لم يسمح للأشخاص الذين كانوا يرافقوننا بالعبور إلى قطاع غزة، وكذلك كان الأمر في الضفة الغربية أيضاً. زرنا كذلك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي أقامتها منظمة الأونروا منذ 1948، حيث يعيش أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني، طردتهم إسرائيل من أرضهم وينتظرون العودة إلى ديارهم، عودة تزداد إشكالية يوماً بعد يوم. أما غزة فهي أشبه بسجن ذي فسحة سماوية يعيش فيه أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني؛ سجن يتدبرون فيه أمرهم للبقاء على قيد الحياة. ما يسكن ذاكرتنا اليوم، أكثر من الدمار الذي لحق بالمباني (وأهمها مستشفى الصليب الأحمر الذي قصفته في عملية «الرصاص المسكوب»)، هو سلوك الغزاويين، وطنيتهم، حبّهم للبحر وللشواطئ، سهَرهم المستمر على راحة أطفالهم، الكثيرين والضحوكين. بُهرنا بطرقهم الخلاقة لتخطي كل ما فُرض عليهم من أسباب الحرمان. رأيناهم يعدّون لَبِنات يدوية، لقلة الإسمنت، كي يتمكنوا من بناء آلاف المنازل التي دمرتها الدبابات. وتأكد لنا موت ألف وأربعمئة شخص بين نساء وشيوخ وأطفال من الجانب الفلسطيني، على إثر عملية «الرصاص المسكوب»، مقابل خمسين جريحاً فقط في الصفوف الإسرائيلية. أتفق مع القاضي غولدستون في خلاصاته.

إنه لأمر لا يُحتمل أن يقدم اليهود بأعينهم على ارتكاب جرائم حرب. وا أسفاه، فالتاريخ لا يقدم الكثير من الأمثلة عن شعوب تستخلص العبر من تاريخها الخاص.

أعرف حق المعرفة أن حركة حماس التي فازت في الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تكن تستطيع تفادي إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية كردّ على الحصار والعزلة الذي يعيشها الغزاويون. وأعلم طبعاً أن الإرهاب مرفوض، لكن لا بد لنا أن نقرّ بأنه حين نرزح تحت احتلال مزوّد بمعدّات عسكرية تتخطى قدراتنا بأشواط، فإن ردّ الفعل الشعبي لا يمكنه أن يكون سلمياً حصراً.

هل تستفيد حماس من إطلاق الصواريخ على مدينة سديروت؟ الجواب هو لا. هذا لا يخدم قضيتها، لكن يمكننا تفسير ذلك من باب أن الغزاويين أُسقط في يدهم. وفي باب اليأس هذا، علينا أن نفهم أنّ العنف نتيجة مؤسفة لأوضاعٍ غير محتملة للذين يرزحون تحتها. وبالتالي، يمكننا القول بان الإرهاب هو شكل من أشكال اليأس. وأن اليأس هو مفردة سلبية. علينا ألا نيئس بل أن نأمل. اليأس بهذا الشكل هو إنكار للأمل. بهذا المعنى هو مفهوم، وأكاد أقول إنه طبيعي، ومع ذلك فهو غير مقبول. لأنه لا يوصل إلى النتائج التي قد يحققها الأمل.

اللاعنف، درب علينا أن نتعلم كيف نسلكه

إنني مقتنع بأن المستقبل هو مستقبل اللاعنف، مستقبل المصالحة بين الثقافات المختلفة. بهذه الطريق على الإنسانية أن تخطو إلى المرحلة القادمة. وهنا ألتقي مع سارتر، إذ لا يمكننا أن نعذر الإرهابيين الذين يلقون القنابل، ولكن يمكننا أن نفهمهم. كتب سارتر في عام 1947: «أعترف أن العنف بأي شكل يتجسّد فيه هو فشل. لكنه فشل لا يمكننا تجنبه لأننا نعيش في عالم من العنف. وإن صحّ أن اللجوء إلى العنف في مواجهة العنف سيساهم في توليد المزيد منه، فصحيح أيضاً أنه السبيل الوحيد إلى إيقافه» Sartre, J.P., «situations de l’écrivain en 1947», in Situations II, Paris, Gallimard, 1948.. ولكني أضيف أن اللاعنف هو سبيل مضمون أكثر لإيقافه. لا يمكننا أن ندعم الإرهابيين، كما فعل سارتر، باسم هذا المبدأ إبان حرب الجزائر أو عند الهجوم الذي حصل في الألعاب الأولمبية في عام 1972 على لاعبين إسرائيليين. ليس ذلك مجدياً، وسارتر نفسه تساءل في نهاية حياته عن معنى الإرهاب وشكّك في علة وجوده. أن نقول «العنف ليس مجدياً» أهم بكثير من أن نعرف إن كان علينا أن ندين أو لا الذين يلجؤون إليه. في مفهوم الفعالية، علينا أن نعتمد على الأمل اللاعنفي. إن كان هناك من أمل يعتمد على العنف، فذلك في قصائد غييوم أبولينير فقط: «كم أن الأمل عنيف»، لا في السياسة. أعلن سارتر، في آذار/مارس من عام 1980، أي قبل ثلاثة أسابيع من موته: «ينبغي علينا أن نشرح لماذا عالم اليوم، هذا العالم المروّع، ليس سوى فترة زمنية في التطور التاريخي الطويل، وأنّ الأمل لطالما كان القوة المسيطرة على كل الثورات وحركات التمرّد، وكيف أنّني ما زلت أعتبر اليوم الأمل كرؤية وتصور للمستقبل» Sartre, J.P., «Maintenant l’espoir…(III)» in Le nouvel observateur, 24 mars 1980.. علينا أن نفهم أن العنف يدير ظهره للأمل. علينا أن نفضل  الأمل على هذا العنف، أن نفضل أمل اللاعنف. إنه الدرب الذي علينا أن نتعلم كيف نسلكه. من جانب المستبدين كما من جانب المقموعين، علينا التوصل إلى تفاوضٍ ما نزيل به الظلم. هذا وحده ما يضمن ألا نواجه بعد ذلك العنف الإرهابي. ولهذا ينبغي ألا نسمح بتراكم المزيد من الكره.

رسالة مثل رسالة نيلسون مانديلا أو مارتن لوثر كينغ تجد سدادتها في عالمٍ يتخطّى صراع الإيديولوجيات والتوتاليتارية الاستعمارية. إنها رسائل أمل في قدرة المجتمعات الحديثة على تخطي الصراعات عبر تفهم متبادل وصبر متيقظ. وكي نصل إلى ذلك، علينا أن نرتكز على الحقوق التي على أيّ انتهاك لها، مهما كان مصدره، أن يثير غضبنا. لا يمكن المساومة على هذه الحقوق.

من أجل انتفاضة سلمية

لست وحدي من لاحظ ردة فعل الحكومة الإسرائيلية عندما واجهت حراك مواطني بلدة بلعين الفلسطينية الذين كانوا يتوجهون إلى الحائط دون حجارة ودون استخدام للقوة ليحتجوا، وقد وصفت السلطات الإسرائيلية هذه المسيرة بـ«الإرهاب اللاعنفي». جميل! عليك أن تكون إسرائيلياً لتصف اللاعنفية بالإرهاب! عليك قبل كل شيء أن تشعر بالإحراج من فعالية اللاعنف الذي يصمد حتى يستحث الدعم، والتفهم، ومساندة كل أولئك المناهضين للقمع في العالم.

إن الفكر الإنتاجوي، الذي يحمله الغرب، أقحم العالم في أزمة ينبغي الخروج منها بقطيعة جذرية مع حالة الهروب إلى الأمام لحالة «دائماً أكثر»، في العالم المالي ولكن أيضاً في مجال العلوم والتقانة، لقد حان الوقت فعلاً لأن يسود الهم الأخلاقي وأن تسود العدالة والتوازن المستدام، لأن أشد الأخطار تحدق بنا. هذه الأخطار قد تضع حداً للمغامرة الإنسانية على سطح كوكب قد يصبح غير قابل للسكن.

لكن مع ذلك يبقى صحيحاً أنه منذ عام 1984 كانت هناك تطورات مهمة قد أُنجزت: زوال الاستعمار، نهاية الأبارتهيد، تداعي الإمبراطورية السوفييتية، سقوط جدار برلين. بالمقابل، كانت السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين فترة نكوص. وأنا أفسر جزئياً هذا التراجع بسبب رئاسة جورج بوش لأمريكا، هجمات 11 سبتمر وما تبعها من آثار مدمرة على الولايات المتحدة، كالتدخل العسكري في العراق على سبيل المثال. شهدنا الأزمة الاقتصادية ولكننا مع ذلك لم نشرع في سياسة تطور جديدة. قس على ذلك قمة كوبنهاغن لمجابهة الاحتباس الحراري والتي لم تؤدّ إلى التزام سياسة حقيقية لحماية كوكبنا. نحن على عتبة بين أهوال العقد الأول وإمكانيات العقود التالية. ولكن علينا بالأمل، علينا دوماً بالأمل. كان العقد ما قبل الأخير، عقد التسعينيات من القرن الماضي، مصدراً لتطور كبير. فقد استطاعت الأمم المتحدة أن تدعو لمؤتمرات كمؤتمر ريو حول البيئة في عام 1992؛ ومؤتمر بكين عن المرأة في عام 1995؛ وفي عام 2000، وبمبادرة من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، تبنّت الدول الأعضاء الـ191 الإعلان حول «الأهداف الثمانية للألفية الجديدة من أجل التطور»، يلتزمون من خلالها وبشكل خاص بتقليص معدل الفقر في العالم إلى النصف حتى عام 2015. وأنا آسف شديد الأسف أن لم يبيّن بعد لا أوباما ولا الاتحاد الأوربي كيف سيساهمون في هذه المرحلة التأسيسية وبالاستناد إلى القيم الأساسية.

كيف نختم هذه الدعوة إلى الغضب؟ بالتذكير أيضاً وأيضاً أنه وبمناسبة الذكرى الستين لبرنامج المجلس الوطني للمقاومة، نحن المحاربين القدماء لحركات المقاومة وللقوى المناضلة في فرنسا الحرة (1940 – 1945)، كنا نقول أنه من المؤكد أن «النازية هُزمت، بفضل إخوتنا وأخواتنا من المقاومة وبفضل الأمم المتحدة ضد البربرية الفاشية. ولكن من المؤكد أن الخطر لم يزل كلياً، وأن غضبنا ضد الظلم سيبقى دائماً كما هو دون أن يمسه شيء» موقعو نداء 8 آذار لعام 2004 هم : لوسي أوبراك، رايمون أوبراك، هنري برتولي، دانيال كورديه، فيليب دوشارتر، جورج غينغوان، ستيفان هسل، موريس كريغيل-فيرنان، موريس فوتي، وقد كان لهذا النداء صدى كبير لدى الأجيال الشابة، كما كانت الكلمة التي ارتجلها ستيفان هسل، في 17 أيار\مايو عام 2009، من على منصة غلييير، عند الاعتصام السنوي «كلام المقاومة» والتي بادرت بالدعوة إليه جمعية «مواطنين مقاومين البارحة واليوم» للتذكير بأن دافع المقاومة كان «الغضب» أطلق هسل عبارته: «جِدوا دوافعكم الخاصة للغضب، التحقوا بمسار التاريخ الكبير هذا!»، هذه المداخلة والتي ضمها المخرج جيل بيره لفيلمه والتر، عودة إلى المقاومة، كانت نقطة الانطلاق لهذا النص المنشور هنا، يمكنكم أن تستفيدوا من موقع الجمعية: www.citoyens-resistants.fr.

لا، هذا التهديد لم يزل تماماً، ولننطلق أيضاً ودائماً إلى انتفاضة حقيقية سلمية ضد وسائل الاتصال الجماهيرية والتي لا تطرح لشبابنا إلا أفق الاستهلاك الواسعة، واحتقا الضعفاء والثقافة، والخدر المعمم والمنافسة المتهافتة حيث الكل ضد الكل».

إلى أولئك الذين سيصنعون القرن الواحد والعشرين نقول مع كل حبنا: «الإبداع مقاومة، والمقاومة إبداع».

تعقيب الناشر

وُلد ستيفان هسل في برلين عام 1917 من أب يهودي، مترجم (هو فرانتز هسل) ومن أم رسّامة مولعة بالموسيقى (هيلين غروند)، وهي أيضاً كاتبة. استقر أهله في باريس عام 1924، مع ولديهما، أولرش، البكر، وستيفان. وبفضل محيطهما العائلي، استطاع الولدان أن يحتكا بالنخبة الباريسية الطليعية، ومنهم الدادائي مارسيل دوشان والنحّات الأميركي ألكسندر كالدر. التحق ستيفان بالمدرسة العليا للمعلمين في شارع أولم عام 1939، لكنّ الحرب قطعت دراسته. وبما أنه كان قد جُنّس بالجنسية الفرنسية منذ عام 1937 فقد التحق بالجيش ضمن التعبئة العامة وعرف أهوال الحرب، ورأى كيف أن الماريشال بيتان قضى على السيادة الفرنسية، في آذار/مارس من عام 1941 انضم إلى فرنسا الحرة مع الجنرال دو غول، في لندن. عمل في مكتب مكافحة الجاسوسية والمخابرات والعمليات (BCRA). في ليلة من ليالي أواخر آذار/مارس من عام 1944، انتقل سراً إلى فرنسا بالاسم الحركي «غريكو» وذلك لإنجاز مهمة الاتصال بالشبكات الباريسية المختلفة، ولإيجاد أمكنة لبث الراديو وذلك لنقل المعلومات المجموعة إلى لندن، تحضيراً لإنزال الحلفاء. في 10 تموز/يوليو، أوقفه الغوستابو على إثر وشاية: يقول في كتاب مذكرات بعنوان «الرقص مع العصر»، نُشر عام 1997: «لا يمكن محاكمة أحد تكلم تحت التعذيب». بعد استجوابات تمت تحت التعذيب (خاصة تجربة المغطس، وكان خلالها يزعزع جلاديه بتكلمه اللغة الألمانية) نُقل إلى معسكر بوشنوالد في ألمانيا، وكان ذلك في 8 آب/أغسطس عام 1944، قبل عدة أيام من تحرير باريس. عشية يوم شنقه المفترض، استطاع، على آخر رمق، أن يبدل هويته بهوية فرنسي توفي بحمى التيفوس في المعسكر. وكان هذا الأخير، ويدعى ميشيل بواتيل، يعمل مشغّلاً على فرازة حديد، ثم نُقل إلى معسكر روتلبيرود بالقرب من معمل قطارات كان قاعدة هبوط للقاصفات الألمانية جونكر 52، ولكن لحسن حظه –حظه الأبدي– فُرز للعمل كمحاسب. فرّ. وحين أمسكه الألمان، مرة أخرى، نُقل إلى معسكر دورا حيث تُصنع صواريخ ف1 وصواريخ ف2، تلك التي كان النازيون ما زالوا يأملون بفضلها في الانتصار بالحرب، ثم نُقل إلى فرقة الانضباط، حيث هرب مرة أخرى وبنجاح هذه المرة، كانت قوات الحلفاء تقترب من معسكر دورا. وأخيراً رجع إلى باريس ليلتقي ثانية بزوجته فيتيا – أم أطفاله الثلاثة: صبيان وبنت.

كتب المناضل السابق في فرنسا الحرة في مذكراته: «كان ينبغي أن أجعل من تلك الحياة المركبة التزاماً». في عام 1946، وبعد اجتيازه مسابقة الدخول إلى وزارة الخارجية بنجاح، أصبح ستيفان هسل دبلوماسياً. كان منصبه الأول في الأمم المتحدة حيث طلب منه هنري لوغييه، والذي كان حينئذ أميناً عاماً مساعداً في الأمم المتحدة وأميناً للجنة حقوق الإنسان، أن يعمل في مكتبه.

بهذه الصفة انضم ستيفان هسل إلى اللجنة المكلفة بصوغ ما تعارفنا على تسميته بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويُعتبر أن من بين أعضائه الإثني عشر هناك ستة أعضاء لعبوا دوراً جوهرياً: إليانور روزفلت، أرملة الرئيس روزفلت الذي تُوفي في عام 1945، وهي المدافعة الملتزمة عن حقوق المرأة وقد ترأست اللجنة؛ الدكتور تشانغ (من صين تشانغ كاي شيك، وليس من صين ماو)، وقد كان نائب رئيس اللجنة، وأكد أن الإعلان لا ينبغي أن يكون انعكاسا حصرياً للأفكار الغربية؛ شارل حبيب مالك (من لبنان) وهو المتحدث باسم اللجنة، وكان غالباً يُقدم مع ألينوار روزفلت على أنهما «القوة المحركة»؛ رينيه كاسان (فرنسا)، القانوني والدبلوماسي وكان رئيس اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في وزارة الخارجية، وقد كان له الفضل في صوغ عدة مواد، وندين له كذلك بقدرته على استيعاب مخاوف بعض الدول، ومنها فرنسا، من أن ترى سيادتها الاستعمارية مهددة وفق هذا الإعلان، وكان لديه تصور لحقوق الإنسان عالي التطلب وتدخلي؛ جون بيترز همفري (من كندا)، محامٍ ودبلوماسي، مساعد مقرّب من لوغييه، كتب الصياغة الأولى، وهي وثيقة تتألف من 400 صفحة؛ وأخيراً ستيفان هسل (من فرنسا)، الدبلوماسي ورئيس مكتب لوغييه، وهو الأصغر سناً. كم كانت روح فرنسا الحرة طاغية على تلك اللجنة.

وقد اعتمدت الأمم المتحدة الإعلان في 10 كانون الأول/ديسمبر عام 1948 في قصر شاييو في باريس. ومع تدفق الموظفين الجدد الباحثين عن الرواتب المرتفعة والذين عزلوا المهمشين الباحثين عن المثالية، ترك هسل الأمم المتحدة. عُيّن في وزارة الخارجية لتمثيل فرنسا في المنظمات الدولية، وكانت الفرصة ليرجع إلى نيويورك و الأمم المتحدة. أثناء حرب الجزائر كان يناضل من أجل استقلال الجزائر. في عام 1977، عرض الرئيس فاليري جيسكار ديستان عليه، بعد التنسيق مع كلود بروسوليت، ابن بيير الذي كان يوماً ما قائد BCRA، منصب سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة في جنيف. ولم يخف أن من بين كل رجالات الدولة الفرنسية، كان يشعر نفسه أقرب إلى بيير منديس فرانس الذي عرفه في لندن في زمن فرنسا الحرة، وعاد إلى الأمم المتحدة في نيويورك عام 1946، حيث كان يمثل فرنسا من داخل المجلس الاجتماعي والاقتصادي. وسيعرف تكريسه كدبلوماسي مع وصول ميتران إلى الإليزيه عام 1981، وهو ما يصفه «التعديل في الحكومة الفرنسية». «حكومة ميتران جعلت من ذلك الدبلوماسي المتخصص في التعاون المتعدد الأطراف، والذي كان سيصل إلى تقاعده بعد سنتين، جعلت منه سفيراً لفرنسا». ثم ينتسب إلى الحزب الاشتراكي. «أتساءل، لماذا؟ الجواب الأول: صدمة عام 1995. لم أكن أتوقع أن يكون الفرنسيون على هذا القدر من قلة الحذر ليدفعوا بشيراك إلى الرئاسة». وبما أنه أصبح يحمل جوازاً دبلوماسياً، زار مع زوجته الجديدة قطاع غزة في عام 2008 و2009، وعند عودته، قدّم شهادة عن حياة الغزاويين المؤلمة. «لقد كنت دوماً إلى جانب المنشقين المتمردين».

إنه ذلك الرجل ذو الثلاثة وتسعين عاماً الذي يتكلم هنا.