أدت الثورة السورية التي تمر الآن الذكرى السنوية الثانية لقيامها إلى إحداث شروخ شاقولية في بنية المجتمع السوري بشرائحه المختلفة، وبدوها أدت هذه الشروخ إلى إحداث حالة فرز حقيقي تفاوتت حدتها بين شريحة و أخرى تبعا˝ للانتماء الديني أو الطائفي أو الإثني، أو الانتماء لطبقة اجتماعية أو منطقة جغرافية بعينها. حالة الفرز الحادة هذه بين مؤيدي الثورة و مؤيدي النظام تأثر بها جميع السوريين سواء على المستوى الشخصي من حيث العلاقات العائلية والعلاقات مع الأصدقاء وزملاء العمل، وصولا˝ إلى التفاعلات الاجتماعية بين المجموعات البشرية الأوسع ذات الانتماءات المختلفة المكونة للمجتمع السوري. هذه الحالة أدت بدورها إلى خلق جو من الاستقطاب الحاد في المجتمع السوري أخذ أشكالا˝ متعددة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولكن أبشعها كان الاستقطاب الطائفي الذي غذته سياسات النظام وعنفه الذي أخذ منحى˝ طائفيا˝ منذ البداية، محاولا˝ تأليب الشعب على بعضه وممهدا˝ لتحشيد طائفي يتمترس خلفه للدفاع عن مصالحه ووجوده وبنيته كتحالف عائلي ذو طبيعة مافيوية.

الشيء الذي أثار صدمة و اشمئزاز الكثيرين هو استعداد بعض السوريين للاستمتاع بقتل وتعذيب وتشريد سوريين آخرين على نطاق واسع، لا لذنب ارتكبوه بل لمجرد تجرؤهم على المطالبة بوضع حد لنظام مستبد فاسد، يحكم منذ حوالي نصف قرن ولا يبدي أي نية لتغيير سلوكه تجاه الشعب. الأمر الآخر الذي كان مثيرا˝ للانتباه هو اندفاع أعداد كبيرة من السوريين للاستماتة في تبرير سياسات النظام والدفاع عنه رغم أن أكثرهم ليس مستفيدا˝ من النظام بشكل مباشر. ما أثار الدهشة هو استعداد هؤلاء المدافعين عن النظام لتجاوز كل الاعتبارات إنسانية والأخلاقية والمهنية، ومخالفة كل قواعد المنطق السليم في محاكمة الأمور/ مما أدى لسقوطهم سقوطا˝ مريعا˝/ حتى أن بعضهم قد أصبح موضع سخرية وتندر لإصرارهم على خطابهم المتهافت الذي يتحدث عن «مؤامرة كونية» ضد نظام المقاومة والممانعة الذي يقوده «القائد الضرورة» وريث «القائد الخالد» وأسرته وأقرباؤه ومواليهم ومماليكهم.

الغريب أن بين هؤلاء المدافعين، ومنهم قوميون ويساريون قدامى، وبعض الرموز الدينية، من كان قد تضرر في السابق من هذا النظام نفسه سواء بالتضييق أو النفي أو الاعتقال والتعذيب. فما الذي يدفع خليطا˝ بشريا˝ غير متجانس للاندفاع بغرائزية مفرطة كقطيع بلا راع للدفاع عن عصابة أصبحت جرائمها مكشوفة للعالم بأسره؟

جزء من الإجابة على هذا السؤال يكمن في أن العصابة الحاكمة قد قامت عبر عقود بإخضاع المجتمع السوري كله لعمليات غسل دماغ و برمجة إدراكية ممنهجة بعضها استهدف المجتمع بأكمله والبعض الآخر تم تصميمه لاستهداف شرائح اجتماعية بعينها. بعض مكونات عمليات غسل الدماغ الجزئية تناقضت بشدة مع مكونات عملية غسل الدماغ الشاملة، مما أدى إلى تشويه وتزوير الوعي الجمعي للمجتمع السوري، إضافة إلى خلق حالة تناحر بين مختلف مكونات المجتمع.

هدفت عملية غسل الدماغ الشاملة إلى تدجين الشعب وتحويله إلى قطيع تسهل قيادته وذلك عن طريق ترهيبه وحرمانه من فرصة تحقيق الكفاية الذاتية والازدهار وإجباره على السلوك حسب مبادئ نظرية الاستجابة الشرطية المعروفة في علم السلوك. لقد تم استغلال قضايا الشعب الاستراتيجية ومصالحه العليا لربط مصيره بوجود أسرة واحدة في الحكم تحت ذرائع مختلفة مثل المقاومة والممانعة والمخططات الخارجية والتوازن الاستراتيجي وغيرها. تم استعمال هذه الذرائع كمبررات جاهزة لإفقار وإذلال وتجويع الشعب وكبت أي مطالبات، مهما كانت متواضعة، بالإصلاح والانفتاح السياسي وتجريم أصحابها وتخوينهم.

من ناحية أخرى، هدفت عمليات غسل الدماغ الجزئية إلى خلق حالة من الانقسام المستتر بين مختلف مكونات الشعب لتسهل السيطرة عليه. حالة الانقسام هذه نجم عنها شعور متبادل بالشك وانعدام الثقة، وبذلك تقتنع جماعة ما أن الخطر الحقيقي على وجودها يأتي من جماعة أخرى تشاركها الوطن واللغة والتاريخ والتراث والمصير، وربما الدم. يقوم النظام وفق هذه العملية بالتحكم بحالة التوجس والتأهب هذه لإبقاء خيوط اللعبة معقودة في يده فيقوم إما بالحفاظ على هذه الحالة مستعرة بما يكفي لإبقاء المجتمع منقسما˝، ولكن تحت السيطرة، أو يقوم النظام إذا تعرض وجوده للخطر بتأجيج هذه الحالة لتصل إلى حد الصراع الأهلي المفتوح، وبذلك يتحول النظام من اللاعب الوحيد في الساحة إلى أحد اللاعبين الأساسيين، وهذا أفضل من وجهة نظر النظام، من الناحية البراغماتية، من خسارة كل شيء والخروج خالي الوفاض.

إن هذا النظام و سياساته يعتبر تهديدا˝ خطيرا˝ و تحديا˝ تاريخيا˝ للوحدة الترابية و الوطنية للشعب السوري و لا بد من تبني خطة عمل متكاملة لمواجهة هذا التحدي التاريخي و هذا يتطلب جهدا˝ جماعيا˝ لإعادة تشكيل الشخصية الوطنية السورية على أسس جديدة و سليمة تمهيدا˝ لعقد اجتماعي جديد يضمن لجميع السوريين و أجيالهم القادمة ما يستحقونه من حياة حرة كريمة في ظل دستور مدني ديمقراطي تعددي يساوي بين جميع السوريين في الحقوق و الواجبات على أساس المواطنة الكاملة. هذه العملية تتطلب من السوريين جميعاً إدراك خطورة المرحلة والارتقاء بالأداء السياسي للمعارضة إلى مستوى يلبي ويليق بتطلعات وآمال الشعب السوري وثورته النبيلة.