يشير عنوان الدراسة إلى نقطة تعد مثار جدل واسع بين الإسلاميين والمهتمّين بالشأن الإسلامي، بدأ هذا الجدل قبل ثورات الربيع العربي بزمن طويل، ولكن زمن الثورات ساعد على نضج الجدلية من خلال حوارات تحوّلت في كثير من الأحيان إلى شقاق بين من يؤمن بأن الإسلام هو فقط دين لاعنف وبين من يراه دين سيفٍ وفتوحات بشكل أساسي.
هذه الجدلية تحمل بحد ذاتها لغطاً كبيراً وكمّاً هائلاً من التناقض في طريقة طرحها ومعالجتها، فيمكن لأي قارئ عنده ميل لاعنفي مع معرفة سطحية حول فكر أو تاريخ الإسلام أن ينقض ببساطة فكرة أن الإسلام هو دين عنف، كما أن قارئاً عنده ميل عنفي مع نفس سطحيّة المعرفة يستطيع ببساطة أكبر أن ينقض فكرة أن الإسلام دينٌ لاعنفي!
وفي الواقع إن قولبة الإسلام ضمن هذه الأصناف الجاهزة هو خطأ منهجي، فالقولبة هي انحياز لرؤية مسبقة عن الإسلام. إن مسيرة التطبيق النبوي للنص الديني واضحةٌ لا لبس فيها، فهي تدرّجت من الكفاح الذي لا يشوبه عنف خلال المرحلة المكيّة، إلى مرحلة مدنيّة تراوحت بين استخدام القوّة تارةً واستخدام السياسة البعيدة عن العنف تارة أخرى، بما يحقق مقصد النص. إن النص القرآني نصٌّ فوق القولبة، بل هو الذي أخذت قراءاتٌ مختلفة قوالبها عنه فاعتبرته عنفياً أو لا عنفياً، حين قرأته قراءة مجتزئة!…
عن لاعنف مكّة:
في الحقيقة كانت الفترة المكيّة ملخّصاً تطبيقياً لكل المضمون اللاعنفي للرسالات السابقة، والتي أصّلها القرآن بإيجاز بليغ في سور عديدة، ربما يأتي في مركزها عدّة حوارات، أختار منها حوار هود مع قومه حيث لم يكتفِ النبي هنا بعدم الرد بل كان في صيغته الحوارية ما يستثير ردّ المقابل بشكل مباشر: إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (هود، 54-55)
مسار الكفاح كان واضحاً بما لا يترك أي مجال للبس في هذه الفترة، فلا طريق سوى دفع السيئة بالحسنة لتحويل العدو اللدود إلى وليّ حميم:
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 فصلت. وجاء من الصحابة يوماً من يطلب الدعاء على الكافرين، فكان جواب النبي (ص) حينها حاسماً شديد الوضوح، فلقد روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَال: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)!». لقد ذهب النبي (ص) في هذه الرواية أبعد مدى يمكن للذهن أن يتصوّره في هذا المجال فمجرّد طلب الدعاء أو الاستنصار كان له ردّة فعل بهذا المستوى، بهذا فإنه صلى الله عليه وسلم يسدّ المنافذ بشكل استباقي على طلبات أو ردود أفعال تفوق طلب الدعاء، كطلب الدفاع عن النفس أو الرد أو ما إلى ذلك.
إذن كانت مرحلة مكّة مرحلة لاعنفية بامتياز، وهذا باعتقادي توصيفٌ لهذه المرحلة لا يختلف عليه اثنان، ولكن يبدأ الخلاف حول النصوص بمجرّد تطوّرها مع تطوّر الحدث التاريخي، أي مع خروج المسلمين من مجتمع مكّة وبدأ مرحلة تمايز المجتمعين (الدولتين).
الإذن بالقتال وهلاك الأمم!
يأتي الإذن بالقتال إيذاناً ببدأ مرحلة دقيقة جداً تؤثّر على سير الأحداث بعدها، ويستمرّ تأثيرها من خلال الجدل الفكري والتاريخي الذي ستحدثه فيما بعد ذلك حتى يومنا هذا.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * (الحج 39-40).
والجدير بالذكر «على سبيل الاستئناس»أن الآية نزلت في وقت كان يتوقّع الصدّيق أن تكون لحظة هلاك قريش، على غرار القرى التي كذّبت أنبياءها فلقد روى الإمام أحمد، والتّرمذي، النّسائي، وابن حبان والحاكم والطّبري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال: لما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم… إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن القوم! فنزلت «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا».
قال أبو بكر: فعلمت أنه سيكون قتال. قال ابن عباس: «وهي أول آية نزلت في القتال».
فالمفارقة حسب هذه الرواية أن الإذن بالقتال لم يكن فقط نهاية لمرحلة كفّ الأيدي، بل كان انتهاءً لعهد إهلاك القرى بالطريقة التي كانت تنزل بالأمم السابقة. الإذن بالقتال بحسب سبب نزوله أتى ليس فقط لحماية المجتمع المسلم الوليد من الهلاك أو الاستئصال، بل جاء أيضاً كبديل عن إهلاك القرى الظالمة!. ففلسفة القتال في الإسلام ليست فلسفة استئصال من حيث المنطلق، ولو كانت كذلك لكان الأولى أن يتم استئصال قريش بقرار إلهي في تلك اللحظة، بل قبلها بكثير؛ الإذن بالقتال نزل في موضع رحمة حتى بهؤلاء الذين لم تعرف قلوبهم الرحمة. هنا ينبغى أن نعيد النظر كثيراً في نظرة الإسلام للقتال نفسه إذن!
الإذن بالقتال وظرفه التاريخي والاجتماعي:
في الحقيقة إن الإذن بالقتال ينفي صفة اللاعنف المطلق عن المنهج الإسلامي، فالنص هنا يأذن بدفع الأذى إن كان ذلك سيؤدي إلى حماية المجتمع، ثم يأتي بعد الإذن الأمر بالقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (216، البقرة)، ليؤكّد شرعيّة اللجوء إلى القوّة، ثم تأتي الممارسة العملية بعد ذلك للنبي (ص) فلا يدع مجالاً للشكّ في هذه المسألة، وتتضافر الآيات مواكبةً تطور الصراع المسلّح بين المسلمين وأعدائهم، إذن لاشكّ بأن الإسلام تعامل مع احتمالات الصراع وإمكانياته بطريقة فوق التصنيف الإيديولوجي السائد حالياً.
إذن نحن أمام مرحلتين؛ الأولى لا نختلف على توصيفها بأنها كانت لاعنفية بالمطلق، أما الثانية فسنختلف على تسميّتها لأننا نختلف على تحليل أحداثها ابتداءاً. أدّعي هنا أن الإذن بالقتال لا يمكن ربطه (فقط) بمسألة الظلم (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أو بمسألة الإخراج من الديار (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) أو بمسألة التوحيد (إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فهذه المسببات كانت موجودة مجتمعةً أثناء إقامة المسلمين في مكّة، ولكن الإذن أتى أثناء خروج (أو بعد خروج) النبي (ص) والمسلمين من مكّة، بعد أن جاء الأمر بالهجرة. وبديهي أن نقول أيضاً: بعد أن تشكّلت نواة المجتمع المسلم المتمايز عن نظيره أو عدوّه المشرك في مكّة، وبشكل أوضح بعد أن أصبح للمسلمين دولة. ولا ننسى هنا أن الهجرة نفسها جاءت بقرار من قيادة جموع المسلمين في مكّة، أي كان المسلمون قد اجتمعوا على قيادة وأجمعوا على اتباعها بشكل مضبوط وصارم، تلك القيادة هي التي توكل إليها القرارت المصيرية للمجتمع، سواء بالكف عن الرد أو بالهجرة أو بالقتال حين يتطلب الأمر. وجود القيادة هو المؤشّر عملياً على وجود أو عدم وجود مجتمع، أو وجود أو عدم وجود إمكانية لوجود هذا المجتمع في مرحلة لاحقة.
الآيات والأحكام هنا لا تنسخ بعضها البعض، فالإذن بالقتال لا ينسخ الأمر بكفّ الأيدي، والأمر بالقتال لا ينسخ ما سبق، تصطف الآيات القرآنية بجانب بعضها بحيث تؤدي جميعها مقصد النص والغاية منه.
بعد تشكّل المجتمع الموحّد تحت راية جامعة أصبحت القوة خياراً متاحاً للقائد بما يحفظ هذا المجتمع، ولم يصبح الأمر كما لو أنه طلاق بائن مع نهج المرحلة السابقة، كما يظهر في بعض الكتابات التي تقرأ مرحلة ما بعد الهجرة قراءة (غزواتيّة) عنفية بالمطلق، الكتابات التي تتجاوز الشروط الموضوعية والتاريخية لاستخدام القوة .
حتى أن الحضّ على القتال في الآيات (التي لا نستطيع تتبّعها جميعها في بحث مصغّر) جاء منسجماً مع ظروف مرحلية كان الصراع المسلّح قد أصبح فيها تحصيل حاصل، وكان أعداء الدولة قد بدأوا عملياً عملية الاستئصال أو الحصار بغرض الاستئصال. طبعاً لا ينبغي أن نغفل أن الحض هنا أتى بعد الشروط التي ذكرناها قبل قليل، نشوء الدولة وتمايزها تحت راية واحدة، والتي أعيد التأكيد على أنها كانت اللحظة الفاصلة التي تحوّل عندها الأمر بكفّ الأيدي إلى إذن بالقتال.
إن قراءة الإسلام قراءة عنفية أو لاعنفية لن تكون قراءة موضوعية إن هي تجاوزت مسألة الهجرة والقيادة الشرعية للدولة. لا شكّ بأن ظروف الحرب لا تترك خياراً للطرف المعتدى عليه، والاعتداء على الدولة قد لا يسهل معاملته بنفس التحمّل والاستيعاب الذي يعامل به الاعتداء الشخصي، فقد يكون الرد التكتيكي أو التحصّن عاملاً للحفاظ على أرواح الكثيرين. ولكن بالمقابل، فإن العنف والصدام ليسا قدراً محتوماً على المجتمعات البشرية، فحين يكون الخيار متاحاً لحلول دبلوماسية سيكون هناك مصلحة لن تجد مقصد النصّ إلا إلى جوارها. ولا يمكن قراءة النص الديني قراءة الأحكام التي ينسخ بعضها بعضاً، لا آيات القتال تنسخ آية السلم، ولا آية اللاإكراه وكفّ الأيدي تتعارض أو تنفي الحاجة إلى تنظيم جيش يكون مستعداً لحماية أرواح الناس ورفع الإكراه عن عقولهم عند اللزوم.
مأزق القراءات المجتزئة للنص وللتاريخ:
تقع القراءة النسخية في مأزق فكري مدمّر لكامل منظومتها حين تجعل من فرض القتال ناسخاً للحلول الأخرى، وناسخاً لمنهج أخلاقي لاعنفي تمّ اعتماده بشكل كلّي في مرحلة مكة، ولم يتم اعتزاله كمنهج أخلاقي في التعاملات بين المسلمين وغيرهم إلا في أيام القتال المرتبط بظروفه وشروطه. حتى أن النبي (ص) لم يُلزم نفسه بما يريد أصحاب هذه القراءة أن يلزموا النص الديني والتاريخ الإسلامي من خلال قراءتهم الغزواتية لتلك المرحلة؛ ففي خضمّ انتصاراته في صراعه مع أعدائه، وفي مرحلة كان فيها العدو أقرب إلى الضعف وانكسار الشوكة جهّز النبي (ص) (جيشاً) من المعتمرين!، أمر المئات من أصحابه أن يلبسوا لباس الإحرام للتوجّه إلى مكّة في مشهد رمزي بليغ، ففى «الصحيحين» عن أنس، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر أربَعَ عُمَر، كُلُّهُنَّ فى ذى القَعْدَةِ، فذكر منها عُمرة الحديبية. والواضح أن الروايات المذكورة في كتب السيرة تظهر أن أمر الحديبيّة لم يكن لمجرّد أداء مناسك العمرة، بل هو أيضاً مبادرة لاعنفية بامتياز من قبل طرف يملك أسباب القوة وحقق انتصارات متتالية تجاه طرف لم يظهر رغبة حقيقية بالسلام والتعايش، (فلما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى قريش وقال له: أخبرهم أنّا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام، وأَمَرَه أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، وأن الله عز وجل مُظهر دينه بمكة. فانطلق عثمان، فأتى قريشاً، فقالوا: إلى أين؟ فقال: بعثني رسول الله أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ويخبركم: أنه لم يأت لقتال، وإنما جئنا عماراً. قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ إلى حاجتك). لو كان الأمر بالقتال ناسخاً لما قبله فالنبي عليه الصلاة والسلام بمسيره نحو مكّة يخالف أمراً إلهياً حسب هذه القراءة المغلوطة، فهو يعرّض نفسه وأصحابه للتهلكة ويعود بالدعوة إلى مرحلة كفّ الأيدي ودعوة الناس إلى الإسلام بطريقة سلمية، هذه القراءة كما أسلفت تضع النصوص والتاريخ في مأزق، رغبة في تمرير تأويل للتاريخ بطريقة محددة. بينما النص الذي هو خارج القولبة يظهر منسجماً مع سياقه، ويبدو السياق التاريخي منسجماً مع نزول النص بما يحقق مقاصديته.
القراءة اللاعنفية المطلقة تقع في مأزق أيضاً، فالقاعدة لم تخرج عن سلمية الدعوة ضمن النهج الذي سار عليه الأنبياء جميعهم، والمرحلة المكيّة الطويلة هي خير ترجمة وتثبيت لهذا النهج، وهي مرحلة لا مجال لنسخها ولا مجال لنسخ كل ما جاء بعدها خارج إطار أيام الاقتتال، الأيام التي تُعدّ أياماً معدودات قياساً بكامل الفترة التاريخية في المدينة. ولا حلّ لقراءة التجربة التاريخية إلا في فهم الظروف الاجتماعية والتاريخية التي نزل معها الإذن بالقتال، لأن نهج اللاعنف في التجربة الإسلامية لا يمكن نكرانه عدا عن نسخه!، كما أن لجوء النبي (ص) إلى القوة الاضطرارية (قوّة الدولة وليس قوّة الأفراد أو الجماعات) لا يمكن تجاهله؛ أقول قوة اضطرارية هنا، وأعي تماماً أهميّة الحض على القتال في اللحظة الاضطرارية هذه، ولا أرى انعدام الانسجام بين الحض هذا وبين كونها لحظة اضطرارية بكل معنى الكلمة، وأدرك بأن هذا الحض ليس على سبيل الإطلاق في استخدام القوة وتحويلها إلى نهج مطلق، فهذا ما ستخالفه نصوص كثيرة وأحداث تاريخية متنوّعة، منها مسيرة الحديبية التي ذكرتها قبل قليل!
أنهي دراستي هذه بخلاصتين:
الأولى: أن القراءة اللاعنفية المطلقة هي قراءة منقوصة للنص وللتاريخ حين تقف عند مرحلة مكّة دون مناقشة تغيّر الظرف التاريخي بعدها وعلاقته بالإذن بالقتال، وهي قراءة عكست خوف أصحابها من تفشّي العنف بين الأفراد إن هم سلّموا بمشروعيّة القوة المضبوطة والمحتكرة من قبل الدولة!
والثانية: إن القراءة العنفية هي قراءة نسخيّة للنص أولاً، وهو الذي يعجّ بمفردات تنسف القراءة نفسها، والتاريخ ثانياً، وهو المليء أيضاً بحوادث تنقضها من أساسها، وأهم من ذلك كلّه هي قراءة قفزية، تتجاوز الظرف الموضوعي لتطور المجتمع المسلم، فالإذن بالقتال لم يقفز فوق مرحلة الإعداد الكافية ووجود القيادة الجامعة وفوق تمايز المجتمع أو الدولة بصيغة أخرى، الأمر الذي كان سيبدو كما لو أنه اقتتال مجتمعين داخل دولة واحدة، فيما لو لم يتمّ التمايز المقصود!