تُجمع الكثير من الأدبيات السياسية والاجتماعية على أن حريات الشعوب تقاس بتحرر المرأة، ولطالما كان حضور المرأة في الشأن العام يرمز لتحرر المجتمع واحترامه لقيم المدنية والديموقراطية والإنسانية. وليس من باب التمييز القول أن في الأنوثة الحقة تتكثف مفاهيم السعة والتسامح.. الرحمة والحب.. التمرد وعدم الخضوع لمبادئ وقوانين كلية، عسكرية كانت أو مدنية حزبية، أو دينية، ذلك أن طبيعة المرأة بالذات وبنيتها النفسية، كما تفترض أدبيات التحليل النفسي، غير قادرة على إنتاج التعصب.

وقد يرى كثيرون أنه لم يئن الأوان بعد لرفاهية التفكير بحضور المرأة في التكوينات والتجمعات السياسية المعارضة فيما نرزح جميعاً تحت وطأة آلة حربية وحشية لا ترحم، وفي هذا عبر لي صديق ناشط في داريا المحاصرة قائلاً: «من الصعب مقاربة الموضوع من وجهة نظر (مرأة / رجل).. فأداء المعارضة ذكوراً وإناثاً لم يتصف بالاستقلالية للأسف.. بل كان يعاني من الارتهان والعجز. ومشكلة المرأة هي أحد أعراض هذا العجز الجمعي عند النخب.. فإذا تخلصنا من هذه (العنّة) يصبح التعامل مع المشاكل الأخرى ممكناً.. وقبل ذلك كلنا (جواري) عند سلطان الخوف من القوي!».

لكن لنقل بداية أن مقاربة ذكورة / أنوثة، لا تتطابق مع مقاربة رجل / مرأة، فالأنوثة جملة من الصفات قد تكون لدى كل من المرأة والرجل، والذكورة كذلك. بمعنى أن كل موجود إنساني يتسم بأنه أنثى وذكر على السواء ويتأثر توجهه العام بالمحددات التربوية والأخلاقية والموضوعية في واقع ما . وغني عن القول أن ما فرضه النظام على الساحة السورية خلال سني حكمه وعلى الأخص خلال سنتي عمر الثورة هو الميل الذكوري الذي يتسم بالعدائية وتعظيم القوة والغلبة في الحرب.. وطغيان التعصب. ورغم وجود النزعة الأنثوية عند كثير من الرجال، إلا أنه من المفترض أن يكنّ النساء هن الحامل الأساسي لخطاب السلم.. ذلك أننا لا نستطيع أن نتخيل حالات ذبح وقتل واغتصاب ومجازر جماعية ترتكبها نساء ..! ليس هذا خطاب تفضيل أو مقياس دونية وتفوق بين الذكورة والأنوثة، فهما لا يجب أن يقارنا كما يقول (بيير داكو).. «إن مثلنا في ذلك مثل من يتساءل: أيهما المتفوق؟ الماء أم النار؟، الجبل أم الوادي؟»..

إن سلطان الذكورة الخشبي هو من أوصل ثورتنا لهذا النفق المظلم.. ومفهوم «العنة» الذي تحدث عنه صديقي أعلاه ينتمي لعالم الذكورة المحارب؟! الم تكن “السلمية” مقاومة أنثوية في وجه نظام “خصّاء” بالفعل والمجاز، واستطاع جر الثورة إلى حرب ذكورية ليمارس أقسى أنواع السادية.. في ساحته.. ساحة الذكورة / الحرب… والتي تتركز دلالتها الرمزية في مشهد بات تفصيلياً ليوميات الموت.. حيث تبتر أعضاء الرجال أمام أعيننا جميعا..!

والحرب بما هي تراجع للسياسة، فهي أيضاً تراجع لقيم المدنية والديموقراطية وتراجع لأحلام التحرر.. حين تتصدر المشهد قيم العنف والسيطرة.. التبعية والطاعة.. التعصب والحقد، حضور القوة والخشونة.. الرجال الأشداء مقابل المعتدلين.. ومقابل تراجع حضور النساء وباقي مكونات المجتمع (أطفال، عجزة، مسنين…)، تكثيف متصاعد لمشهد الذكورة المحاربة.. وتغييب تدريجي للأنوثة خلف الحجب السوداء.

وعلى ذلك فليس من الغرابة بمكان أن يتراجع دور النساء الذي برز في الحراك الثوري المبكر، فنتيجة لتغير الظروف العامة للثورة وعسكرتها سدت الكثير من الآفاق والممكنات التي كانت حاضرة بقوة في البدايات.

إذا كانت الإنسانية ذاهبة في تطورها صوب أنوثة أكثر، فإن ثورتنا التي كنا ولا زلنا نريدها تقدمية تبدو الآن مسرعة الخطى نحو ذكورة أكثر.. ونحو أنوثة حبيسة، نحو حضور أكثر سطوة للبنية البطركية القمعية… ونحو قيود اجتماعية ونفسية كنا قد حسبناها ولت.

لا يتيح هذا التوصيف المتشائم تراجعا عن مطالب وأهداف الثورة الأساسية في إسقاط النظام الأكثر همجية في التاريخ، كما ولا يراد له أن يبعث على الإحباط.. فتشاؤم العقل هو في الوقت ذاته تفاؤل الإرادة.. ولا يبدو من خيار أمامنا إلا الاستمرار والعمل لانتزاع حرياتنا متعددة الطبقات بأيدينا وجهدنا وتضحياتنا.. وأولا وأخيراً بالفكر الحر ونبذ «الخطوط الحمر» أي كان من يرسمها.