في طقس احتفالي، وبعد رحيل نظام القذافي، تم إسقاط تمثال جمال عبد الناصر في إحدى ساحات مدينة بنغازي. أحد الشيوخ الذين كانوا حاضرين، قال بعد أن اعتلى التمثال: «هذا طاغوت آخر سقط»! ومؤخراً، في مدينة الرقة تم إسقاط تمثال الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي استبد في سورية لمدة 30 عاماً، مع طقس شبيه إلى حد ما بذلك الذي حصل قبل عشر سنوات حين حصل ذات الأمر مع تمثال صدام حسين في بغداد على إثر دخول القوات الأمريكية إلى بغداد، حيث كان ذلك إيذاناً بأن عهد صدام حسين بات من الماضي.

في الواقع، ثمة ما يجدر الإشارة إليه بخصوص ما ذكرناه أعلاه. فمن ناحية، لا يبدو عادلاً أن يتم الجمع بين كل من عبد الناصر من جهة، وصدام حسين وحافظ الأسد من جهة أخرى. فعبد الناصر رغم كل ما قد يوجه إليه من نقد على تفرده واستبداده، إلا أنه كان ابن زمانه، حيث المشروع العروبي في صعود، ويحتمل مثل هذه الصيغة لوجود زعيم أو بطل يأخذ بزمام العروبة ليصل بها إلى برّ تحقيق دولتها وأهدافها. لقد كان الرجل، في نظر أهل زمانه، علامة على نهضة قومية لن تلبث أن تذوي بعد الهزيمة في 1967، التي ستكون بداية لصعود عروبة منحطة مجسدة في أنظمة طغيانية. من ناحية ثانية، أن تمثال صدام حسين أسقط على يد الأميركان، لتدخل بغداد على إثر ذلك في حالة فوضى عارمة كان أحد وجوهها السلب والنهب الذي تعرضت له مؤسسات الدولة على يد عراقيين. كان المشهد آنذاك صادماً للمراقب الخارجي، فهو يحيل إلى ذلك التلازم المطلق بين الحاكم الطاغية وبين الدولة، وهو تلازم عمل هذا الطاغية على تحويله إلى أمر واقع وبديهي، إلا أنه سيبدو مع حال بغداد الجديدة، أنه نجح في تكريسه في أذهان كثيرين، بحيث تغدو حالة النهب والتخريب هذه، انتقام من دولة غريبة لم تكن في يوم دولتهم. في الحالة السورية، الأمر سيغدو مختلفاً. على الرغم من أن تمثال الأسد بالرقة ليس هو التمثال الأول الذي يسقطه الثوار في سورية، وربما كانت الرستن هي البادئة في هذه السُّنة المستجدة والواجبة، إلا أن لتمثال الرقة خصوصية تتمثل في إن إزالته كان بمثابة إعلان خروج الرقة بالكامل تقريباً، مدينة وريفاً عن سيطرة النظام، وبذلك تكون المحافظة السورية الأولى التي يتحقق فيها هذا الأمر. المشهد الاحتفالي سيعقد أيضاً أثناء عملية الإطاحة بالتمثال، وسيتم هذا الأمر على يد أبناء المدينة غالباً، إلا أن الرقة لن تقع فريسة فوضى مماثلة لتلك التي حصلت في بغداد قبل عشر سنوات، فالأخبار الواردة من هناك تتكلم عن انتظام أبناء المدينة لحماية المؤسسات والمتحف والمرافق العامة والخاصة، وما وصلنا عن الاعتداء الذي تعرض له المصرف الزراعي وبعض الأماكن الأخرى، حصل والنظام لا زال قائماً في الرقة، أو أثناء الفوضى الأولية التي رافقت عملية تحرير المدينة من وجوده. لا يحال هذا الأمر إلى طبائع خاصة تميز السوريين عن العراقيين بالتأكيد، بل يحيل بالدرجة الأولى، إلى اختلاف الزمن والمعايير والقيم التي بدأت تترسخ مع قيام «الربيع العربي» وتحتل مساحات في وعي وخطاب الناس، والعراقيين كما نسمع مؤخراً، ليسوا بعيدين عن ذلك.

تنتشر تماثيل الطغاة إلى كل مكان يصل إليه طغيانهم، وهذا عدا عن رغبة في الخلود وتعظيم للذات قد تجتاح هؤلاء الطغاة، فإن لهذه التماثيل وظيفة تتمثل في أنها جزء من آلية التحكم والسيطرة على المجتمع. فهي تحتل الساحات العامة والكثير من دوائر الدولة، تذكر المرء أينما حل بأن هناك من يراقبه دوماً، وبأن الديكتاتور حاضر في كل مكان، تتغير أحوال البشر، يكبرون وتولد أجيال جديدة، والتمثال صامد عصي على أي تغيير، يذكر الناس دائماً بعجزهم أمامه. إنه الحاضر الأبدي الذي لا يجرؤ التاريخ على المرور به، فهو خلود، والخلود فوق التاريخ. إنه احتلال للمجال العام والذاكرة واعتداء على الطبيعة البشرية. لقد عرى «الربيع العربي» هذا الحضور الخالد الذي توهم الديكتاتور أنه نجح في تكريسه قانوناً يرسم حركة محكوميه ويحدد خياراتهم وأحلامهم ومصائرهم، حيث بدت الرغبة في الانعتاق نازع أصيل كامن في الطبيعة البشرية، قد تخبو في زمن ما نتيجة ظروف قاهرة، ولكنها لا تلبث أن تشتعل من جديد حين يتاح لها. إن الإطاحة بتمثال الديكتاتور، هو في أحد أشكاله، خطوة نحو العودة إلى التاريخ الذي أخرجهم منه صاحب التمثال وغدا الصانع الوحيد له، أي إلى السياسة والتنافس والفاعلية، والتحرر من الطقوس التي فرضها النظام على إيقاع الحياة الإنسانية، حيث أفراد تكتسحهم العزلة، وأيام تتالى دون معنى، وتأمين ما يبقي على قيد العيش، هو أغلى الأمنيات. عيون السوريين الآن ترنو نحو الرقة، محفوفين بأمل أن تكون النموذج لما ستكون عليه سورية القادمة الحرة، وهذه مهمة جليلة وليست من السهولة بمكان، خصوصاً أمام ما قد تتعرض له المدينة من استهداف حاقد من قبل النظام.