تشهد الثورة السوريّة اتّساعِ رقعةِ العملياتِ العسكرية التي يقودها الجيش الحر مؤخّراً، حيث شملت معظم مساحة الأراضي السورية، خاصة بعد تحوله من دوره الدفاعي الذي اتخذه بعد الإعلان عن تشكيله، الى دور المبادر والمهاجم لمراكز قوّة جيش النظام، من ثكنات عسكرية، أو مواقع مدنية عمل النظام على فرض توطين جنوده في معظمها، إمّا لأسباب عسكريةٍ، تتعلّق غالباً بتأمين الطرق لايصال الامداداتِ لقواته التي تعمل على تدمير بنية المجتمع السوري وإطفاء شعلة احتجاجاته، أو لأسباب سياسيةٍ، تتمثل في المحافظة على قاعدةٍ جغرافيةٍ واسعة، تكون سنداً في أي حل سياسي قد يجد فيه مهرباً يحافظ  به على أعمدته الرئيسة.

أمامَ هذا التحولِ و المد العسكري المتسارع، وجد التيار المدني من الثورة السوريّة نفسه في موقع الوصاية الأخلاقية على سلاح الجيش الحر. فلقد أدرك هذا التيار ما قد يرتبط بمشاركة السلاح أو أيّة وسيلةٍ عنفيةٍ أخرى، من محاولاتٍ لفرض النفوذ والسيطرة، ومن انقياد النفس البشرية غير المدربة خلف هذه المغريات، التي تقود غالباً الى ممارسات أقرب ما تكون الى ممارسات شبيحة النظام، و أبناء مدرسته. هذا ما قد أدخل بعض عناصر الجيش الحر في صراعاتٍ مع المدنين، من سكانِ المناطق التي خرجت من تحت لواء أجهزة الأمن السورية، وأصبحت تحت سيطرة كتائب الجيش الحر.

على الرغم من أن بنية الجيش السوري الحر تعتمدُ حالياً بشكل راجحٍ على المدنين من أبناء المناطق الثائرة ممن عملوا على مقارعة النظام بالطرق السلمية بدايةً، ثم تحولوا لاحقاً، تحت سوط مدافع النظام ودباباته، للعملِ المسلّح في ظل كتائب تعمل في مناطقهم، أو في مناطق ثوريةٍ مجاورة، فلقد تم توثيق العديد من الممارسات التي قام بها بعض العناصر، بهدف فرض نمط معيشي معين يناسب أهوائهم الشخصية، والفكرية، ولا يتناسب مع البيئة الاجتماعية الأصلية العامة لسكان هؤلاء المناطق. لقد استند هؤلاء الى جبروت سلاحهم، وسلطتهم المطلقة، مستغلين غياب الرقابة الجادة من قادة الكتائب، وضعف التنسيق بينها وبين المجالس المحلية، فما كان من سكان تلك المناطق الّا العمل على التصدي لهذه الممارسات، والمضايقات المعتمدة على غطرسة صوت السلاح، لوضع حدٍّ لمن يحاول فرض نموذج حياتهم عليهم مرة أخرى، ولكن بصيغة جديدة. ويذكر أن معظم هذه الحالات قد تناقصت بشكل ملحوظ في المناطق التي لم تجد لها فيها تربة رطبة، وجوبهت بمقاومة فعّالة.

إضافةً الى ذلك، فقد أتخمت مؤخراً صفحات التواصل الاجتماعي على فيسبوك ويوتيوب، بمقاطع مصوّرة عديدة تظهر ممارسات لا أخلاقيّة شديدة السوء، بحق أفراد في المناطق المحررة من سلطة النظام. أخذت هذه الممارسات صورة عنفية انتقامية، تتلذذ على صراخ ضحاياها، وتنتشي باذلالهم، متجاوزة بذلك كامل الخطوط الحمر للكرامة الانسانية، وهذا ما جعلها من أكثر الصور بعداً عن أحلام السوريين، و تطلعات ثورتهم عن سوريا المستقبل. معظم ضحايا هذا التعنيف كانت توجه لهم التهم -غالباً دون تقديم أي دليل حقيقي- بأنهم مخبرون، يعملون لصالح النظام و أجهزته الأمنية. فهذا «الرجل الأصفر»، أحد رموز مدينة حلب وأبرز معالمها في العقدين الماضيين، يقع فريسة لبعض العناصر المسلحة، التي تظهر أصواتهم في مقطع الفيديو، أنهم يعملون تحت مظلة أحد كتائب الجيش الحر، في أحد شوارع مدينة حلب. اعتاد أهل حلب ظاهرة هذا الرجل، و نسجت العديد من القصص، و التهكنات حول عادته الغريبة بارتداء الثياب الصفراء، من أخمص قدميه و حتى قمة رأسه بشعره الأشقر. هنالك من يعتقد بأن وراء هذا الرجل، سرًّ خاصاً لا يبوح به لأحد، و بعضهم الاخر يرى، بأنه يعمل مخبراً لصالح أجهزة الأمن، بحجة أنه اعتاد السير اليوميّ في معظم شوارع حلب الرئيسيّة، راصداً تحرّكات الناس فيها. وإنّه لمن المؤسف حقاً اعتمادُ بعضُ المروّجين والمدافعين عن الأعمال السلبية لكتائب الجيش الحر على هذا التكهّن، في الدفاع عن «أحقّية» تلك الكتائب في اهانة الرجل، وإذلاله، وإجباره على النباح، ضاربين بنموذج العدالة التي ينشدها السورييون، عرض الحائط، بعد أن حرموا منها خلال العقود الأربعة الماضية. أما الشق الاخر من المدافعين عن هذه الأفعال الدنيئة، فلقد عمدوا الى سوق مقطع فيديو آخر كجملة للمقارنة، بين قيام أحد شبيحة النظام، بنتف ذقن أحد الشيوخ محتفلاً بذلك، وأحد عناصر الجيش الحر، الذي يقوم بنتف شارب الرجل الأصفر منتشياً بذلك. حقيقةً، أجد نفسي عاجزاً عن فهم الكيفية التي يعمد إليها معارضٌ للنظام، الى الاستشهاد بأحد ممارسات شبيحته، ويتخذها ذريعة لتبرير وتحليل ممارساته ،أو ممارسات غيره! هل يجب تذكير هؤلاء، بأن الثورة قامت لتقوض كافة أركان النظام، وبناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتعيد خلقها بحلة جديدة، مدخلة اليها أعمدة الأخلاق، بعد أن غيّبها رجالات النظام ومنتفعوه عن كافة أشكال الحياة السورية؟ هل يجب تذكير هؤلاء، بأن الثورة ملزمةٌ أمام جمهورها، بأن تقدم صورة بديلة عن نظام امتهن تذليل السوريين وظلمهم وإهانتهم بكافة تشعبات حياتهم، وأنهم اليوم في انتظار نتيجة مخاضها العسير، مراهينين بكل ما يملكونه على نتائجها؟ ربما!

تجدر الإشارة هنا، الى أنّ أبرز الأسلحة التي وجدها الجيش السوري الحر في معظم الأحياء السورية الثائرة، والتي تعتبر من أبرز النقاط التي تحتسب لصالحه، وتعلل قدرته على الصمود في مواجهة ترسانة جيش النظام، بدباباته و طائراته، هي الحاضنة الاجتماعية الأهلية، التي وجدها أبنائه في صفوف المناطق الثائرة. لم تغب هذه المناطق عن بطش النظام  بمنظوماته الاقتصادية، و الأمنية، قبل الثورة كما يروج بعض المطبلين لاستقرار وأمان «سوريا الأسد»، فبنظرة بسيطة الى جغرافية توزع المناطق الثائرة، نلاحظ بأن معظم الأحياء و المناطق التي شكلت كابوساً للنظام، كانت خارج خارطته الاقتصادية و العمرانية في «التطوير و التحديث»، بحيث يندرج سكانها بغالبيتهم تحت خط الفقر، وتعاني من إجحاف في تأمين أبسط خدمات ومقومات عيشها. أدرك النظام خطورة وأهمية هذا السلاح المجانيّ الذي تقدمه هذه المناطق للجيش الحر، فعمل على متابعة عنجهيته المألوفة تجاهها، فكان ذلك بتوجيه ضربات عسكريّة عشوائية، تهدف بمعظمها الى ضرب هذا المكون المدنيّ الحاضن للمكون العسكريّ، ترسيخاً لفاشيته في تطبيق سلاسل العقابات الجماعيّة، التي عمقّت جراح السوريين وبنية مجتمعهم خلال عقود حكم اّل الأسد.

إن هذه المواجهات التي أقحم الجيش الحر نفسه فيها مع سكان المناطق المحررة، تبدي في أفق مستقبلها احتمالين :

أولهما: أن تحافظ هذه الجدالات على دورها، في أن تشكل ضميراً حياً دائم العمل، لعلاقته الوثيقة بالحياة اليوميّة لسكان تلك المناطق، يشرف على أخلاقيّات عناصر الجيش الحر، ويعمل على تقويم مسارها، اعتماداً على صرامة بطابع مدني ذاقت ويلات الاستبداد و ظلمه، و لن تسوام على القبول باستبداد بلون اخر.

ثانيهما: أن تتطور هذه المواجهات من صورتها الجدليّة الى صورة قمعية وفرضية،تكون شبيهةً بتلك التي قامت بها بعض التيارات ذات الطابع الاسلامي التشددي، من محاولات لفرض ايديولجيتها المستوردة على المناطق التي سيطرت عليها، تحت قوة السلاح و تهديده، اضافةً الى اعتقالها لبعض الناشطين المدنيّن، الذين نظَموا حملات احتجاجية و مظاهرات عديدة ضد هذه المحاولات، بعد رفضهم الانصياع لمحاولاتها في طمس الهوية المدنية، و مسخها في هوية دينية وحيدة تسعى نفس هذه التيارات لتكون مرجعيتها الوحيدة.

ان هذا الاحتمال الثاني، قد يشكّل في حال اتساع قاعدة تنفيذه، الخطر الأكبر على الشق العسكري من الثورة السورية، بحيث سيكون مسؤولاً عن خسارة الجيش الحر لأهم أسلحته و أركان قوته في الحاضنة الشعبية المؤيدة له في المناطق المحررة، و ما يترتب على ذلك من نفور بين التوازي العملي لتياريّ الثورة المتآزرين، العسكري والمدني، وما يترتب عليه من تبعات ، ستؤثر لاحقاً على مقومات و شروط نجاح العمل المدني بكامل أشكاله، الاحتجاجي، الاغاثي، والتوثيقي.

تقترب الذكرى السنوية الثانية لانتفاضة الشعب السوري على ظلامية أربعين عاماً من البطش السلطوي المنفلت على كافة جوانب حياتهم، دون أن يكلّ الشارع الثائر عن تعرية كامل الانتهاكات المنظّمة، التي عانى منها السوريون قبل الثورة و خلالها على يد الطغمة الحاكمة، وها هم اليوم من خلال عمليات التّوثيق و الادانة المستمرة، لكافة الانتهاكات التي يمارسها حملة السلاح في صفوف الكتائب المقاتلة، يرسلون رسالةً واضحةً، لكل من يحلم باخضاع السوريين لاستبداد مستقبلي بنكهة أخرى، بأن صوت الشّارع و صداه، سوف يبقى عالياً دوماً لا يقبل المساومة على حقوق السوريين و تطلعاتهم في مجتمع ملوّن، لا يكون الأصفر لونه الوحيد.