ظهر هذا النص مؤخراً في العدد المزدوج الأخير من مجلة إسبري (عدد آذار ونيسان) 2013

جان بيير فيليو مؤرخ وأستاذ في المدرسة العليا للعلوم السياسية (سيانس بو) وخبير بالعالم العربي. كاختصاصي بفلسطين، عمل في سنوات 2000 على الجهادية المعاصرة وظاهرة القاعدة في اشتقاقاتها الإقليمية، ومن ثمّ على تجذّر الايديولوجيات الإسلامية المعاصرة في الأدبيات القيامية الإسلامية. منذ بداية الحراك قبل سنتين، اهتم عن قرب لما اعتبره «الثورة العربية»، وهو يستعيد هذه الثيمة في «الشرق الأوسط الجديد» متابعاً التحولات في سوريا كمؤشر. كمؤرخ للزمن الراهن، فهو يعمل على الجوهر الأساسي الذي يبزغ في هذا الراهن. عمله عمل مؤرخٍ أكثر مما هو عمل سياسي. جان بيير فيليو هو أيضاً متمرس في شؤون العالم العربي، رجل ميدان: عُيّن في الأردن وفي سوريا وفي تونس كدبلوماسي. شارك كذلك في رسم السياسة الخارجية الفرنسية، في مكتب بيير جوكس في الوقت الذي كان هذا الأخير وزيراً للدفاع، ومن ثم كمتابع لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط في مكتب ليونيل جوسبان في ماتينيون. أعطته هذه التجارب نظرة خاصة، كمتمرس في التحليلات والقرارات السياسية، والاعتبارات السياسية العسكرية، وتقاطعها مع عالم البحث والدبلوماسية.

وأخيراً فجان بيير فيليو هو رجل ذو قناعة، حين يتعلق الأمر بالعالم العربي وبتحولاته الحالية، تتمركز قناعته حول محورين رئيسيين. من جهة، هو يعتبر أن «الثورة العربية» هي ظاهرة عابرة للأقطار وأثرها ليس إقليمياً وحسب، حتى لو أنها أخذت طابع الدول المحلية في مختلف الدول- الأمم الخارجة في أغلبها من تاريخ كولونيالي. من جهة أخرى، هو يصر على إظهار أن في كل بلد من بلدان الثورة وخاصة في سوريا، تأتي الثورة من قلب المجتمع، ولا يمكن أن تخضع للحتميات الجيوسياسية. ومع ذلك، فإن الفاعلين الدوليين الذين لا يركزون سوى على الأوجه الدبلوماسية لم يعيروا الديناميات الداخلية اهتماماً كافياً. ونحن نعرف كيف استخدم النظام السوري الميكانيكية الإقليمية والعالمية ليسيطر على المجتمع.

— إسبري

» كيف تُحدَّد وتتجدد الحركة الثورية في سوريا؟ وما هو وقعها على العالم العربي وما هو أبعد منه؟

لقد أسّس ميشيل سورا، وهو مختص بسوريا وعلى علاقة وثيقة بمجلة إسبري، أسّس تحليله للدولة السورية على مفهوم العصبية الخلدونية. ومع أنني أنضوي ضمن تفكير سورا، ولكني أحاول أن أُظهر أيضاً لأي درجة أصبحت شبكة تأويلاته متقادمة لفهم الثورة الحالية، وبالتحديد لأنها ثورة. ستنتصر الثورة لأنها تحديداً لا تستند على عصبية. يذهب كل جهد النظام هباءً باتجاه إعادة استقطاب 1979-1982، والذي كان استقطاباً طائفياً.

عدا ذلك، فأنا لا أخفي الدوافع الشخصية لعملي: أولاً فأنا أكنّ تعاطفاً عميقاً مع الشعوب العربية هذه في العموم، ومع الشعب السوري على وجه الخصوص؛ ومن ثمّ، فإن عملي الدبلوماسي خلال العشرين سنة الماضية يقودني إلى بحث النتائج العملية للتحليلات الفكرية؛ وفي النهاية، فأنا أرثي لما يتواتر من اختزال لصورة العالم العربي إلى القاعدة، وعودة مقلقة، منذ سنوات لخطاب الحرب ضد الإرهاب، في فرنسا نفسها. هذا الخطاب مقلق ليس لأنه اختزالي فحسب، بل لأننا بسبب هذا الخطاب لم نكن متنبهين كفاية لطفرات العالم العربي التي قادت إلى الثورة.

كتابي الأول عن الثورة كان مخصصاً للإجابة عن تساؤلات طُرحت علي في جامعة كولومبيا، إثر سقوط بن علي. كنت أستشعر أننا نشهد ظاهرةً واسعة، ينبغي وضعها في سياق زمني طويل. هذه «الدروس العشر» تشكل العدد نفسه من الأفكار النمطية التي ينبغي محاربتها. ومدفوعا بهاجس الاتساق فقد استعدتها نفسها في إحدى فصول كتابي الأخير. وأنا أعتبر أنها مازالت محتفظة بصلاحيتها على العموم، ماعدا واحدة: لقد حولت الدرس المعنون بـ«لم يعد أحد يهتم بالجهاديين سوى الديكتاتوريين» إلى «الجهاديون يهددون الديمقراطيات اليانعة». في الحقيقة، لم أكنّ أقدر كفايةً، من قبل، تصميم الجهاديين في تونس ومصر واليوم في سوريا على إسقاط المشروع الثوري.

يشكل هذان الكتابان محاولة تأويل تاريخي في نفس صنع اللحظة التاريخية، بينما أصبح الجو الثقافي اليوم وبوضوح ناقد للثورة، وهو الذي لم يكن يوماً شديد الحماس لها. حين يتعلق الأمر بسوريا، لم يعد مسموحاً الحديث عن ثورة، بحجة أن هناك «حرب أهلية»، وأن هناك مجازر تُرتكب من الجانبين، الخ.

للتفكير بالثورات، أنشأت نموذجاً يضع الثورات في منظور الحركات الثورية على المدى الطويل، معتبراً أنها انقلابات تاريخية كبرى في عصرنا، وينبغي أن تُدرس من منظور الكثير من العلوم، كالاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم الأناسة وعلم السكان، الخ. فتأويلي بالتالي ليس إلا جزئياً.

النهضة العربية

نموذجي هو التالي: الثورة هي المنتهى المعاصر للنهضة العربية. سابقاً في القرن التاسع عشر، ظاهرة النهضة الكبيرة تلك والتي لمست كل الضفة الجنوبية للمتوسط كانت قد مرت بتيارين: من جهة تيار قومي كان يجد في أوربا نموذجاً للانتفاض ضد العثمانيين، المعتبرين غرباء رغم التضامن الإسلامي؛ ومن جهة أخرى، تيار آخر كان يمكن أن نسميه في أيامنا المعاصرة التيار الإسلامي، والذي كان يرى وجوب العودة إلى مصادر الإسلام لإيجاد القوة اللازمة لمواجهة تحديات الحداثة، وكان يوصي باستبدال الخليفة التركي بخليفة عربي. وبذلك فقد ارتبطت النهضة جدلياً بالاعتداء الاستعماري. لقد تطورت في فضاء يتناحر عليه العثمانيون والأوربيون. ومن المهم أن نلاحظ أن هذه الحركة النهضوية لم تمس الجزيرة العربية المركزية، الفضاء الوحيد الذي لم يُستعمر أبداً والذي سيصبح فيما بعد موطن الوهابية. إلّا أنّ الموجة الحالية تحمل الثورة حتى إلى هذا الفضاء «الخارج عن النهضة».

في تونس ومصر، الطليعيتان منذئذ، حملت السلالات المحدٍّثة المشروع النهضوي – الباي في تونس و الخديوي في مصر- إلا أن زخم هذا المشروع انقطع عند التدخل الاستعماري الفرنسي عام 1881 والانكليزي في عام 1882. كان لدى مصر كل الأسهم التي تجعل منها دولة ناشئة، ولكن ديونها كسرتها وضيّعت بذلك كل حق في تقرير المصير.

منذئذ تحدد مصير النهضة عند شعوب المشرق. هذا المشرق الذي حدده الأميرال الأميركي ألفريد ماهان بمفهوم «الشرق الأوسط» في مقال نُشر في دورية المحافظين البريطانيين National Review. يمكن أن تلخص عقيدة الأميرال ماهان كالتالي: من يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على العالم، بما أنه يسيطر على المحورين الأساسين للتجارة العالمية – طريق السويس وطريق الهند. وبذلك بُني الشرق الأوسط من الخارج بإسقاط قوة هي مفاهيمية قبل أن تكون عسكرية.

إلا أننا ومع الثورة السورية نشهد نهاية الشرق الأوسط المبني من الخارج. بشار الأسد، ومهما كان معادياً للامبريالية، هو ليس إلا الصنيعة الصافية لتوسيط المعطيات الجيوسياسية ضد شعبه. كما كان يقول ميشيل سورا، كثافة التحرك السياسي لسورية ضمن المشهد العالمي تتناسب عكسياً مع كثافة الحياة السياسية في سوريا نفسها. بعبارة أخرى كلمّا نشُطت الدبلوماسية السورية – في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أو الملف الكردي على سبيل المثال- كلمّا اقتربت الحياة السياسية السورية من الدرجة صفر.

المشكلة أننا كلنا لدينا تلك النظرة الإسقاطية والاستعلائية للأميرال ماهان عن الشرق الأوسط. هذا طبيعي، ولكنه كارثي، وخاصةً في الحالة السورية التي يؤكد مراسلو الحروب استثنائيتها. يعترفون أنهم لم يشاهدوا قط مكاناً يُهدد فيه أمن الصحفي لهذا الحد، مكاناً تكون فيه المعلومة رهاناً مركزياً، مكاناً تعمل فيه أكاذيب النظام بتلك النجاعة. ما يُفسر ذلك هو أن بناء الكذبة يتم وفق التوقعات العالمية. منذ سنتين وحتى الآن، في الوقت الذي يتجاوز فيه عدد الضحايا الستين ألفاً، مازال النظام يؤكد أن لا ثورة، ولكن فقط إرهابيون مدفوعون من الخارج لتهديد استقرار المنطقة. وإن أصخنا السمع للسجال العام الحالي حول سوريا في فرنسا خاصةً، لا نسمع إلّا الحديث عن الجهاديين والأقليات والسلاح الكيماوي، هي تماماً المواضيع التي أسّست عليها الدولة البربرية – كما أطلق عليها ميشيل سورا- السجال.

هذا الكتاب هو محاولة لإعادة تأطير السجال بما يتضمنه حقيقةً: كفاح الشعب السوري للتحرر، حراك تقرير مصير ثوري، لأنه يُحارب بكل أوجه الدولة البربرية. كما يُظهر جوناثان ليتل في كتابه «دفتر يوميات حمص»، فقد قطع المجتمع الثائر كل الصلات التي كان نظام الأسد يربطه بها. إن بنى الدولة البربرية – البعث خاصةً – أصبحت معلّقة: لم يعد هناك سوى الطائرات، إطلاق النار والشبيحة (ميليشيات النظام). من الآن فصاعداً، لم تعد الدولة موجودة إلا في واجهتها الدولية، إلا عبر تلاقي مصالح دولية إيجابية، ولكن أيضاً سلبية: جبن، عمى بصيرة، عدم القدرة عل تصور اليوم التالي. وكل ما يجري في تونس ومصر، وطبعاً في مالي، لا يخدم الحفاظ على الديكتاتوريات القائمة وحسب، ولكنه أيضاً يعزّز النظرة الاستعلائية التي تنكر حقيقة الأرض.

في الصراع العالمي الأول، تلتقي النهضة مع «الثورة» والتي نصرّ على ترجمتها بـ«انتفاضة» الشعوب العربية، بينما يتعلق الأمر حقيقة بنضالات تحررية. منذ عام 1916، حمل العرب الثورة، انطلاقاً من جدة الكوزموبوليتية، دون أن تشارك فيها الجزيرة العربية في الداخل، جزيرة ابن سعود الوهابّية، المتشددة، غير المنفتحة. هذا الحراك جمع تياري النهضة: التيار القومي، لأنها ثورة عربية، والتيار الإسلامي، بفضل وجه الشريف حسن الذي يمثل الخليفة المثالي: حاكم مكة، وهاشمي أي من ذرية النبي، عربي وفي حرب مع الأتراك.

وكانت الشعوب العربية ستثق بالغربيين الذين وعدوهم بمملكة عربية، دون أن يحددوا حدودها، وتحدثوا عن حق تقرير المصير. في المغرب، حُلّت مسألة تقرير المصير، إن كان يحق لي قول هذا، بالاحتلال. في المشرق، كان هناك الحالة المصرية من جهة، مع ثورة عام 1919 ضد الحماية الإنكليزية، ولها نفس سمات ثورة التحرير 2011 ( كفاح لا عنفي ومرسخ، نخب مدينية تنقل الاندفاع الثوري إلى محيطهم القروي، حراك عابر للطوائف، إلخ). سُحقت الثورة، ولكن تم منح الاستقلال، ولو أنه بقي صورياً وأصبح فعلياً مع قلب النظام الملكي البرلماني والذي رافق القضاء على المكتسبات السياسية المتنوعة.

من جهة أخرى، هناك الحالة السورية، القلب التاريخي للسياسة الإقليمية، وستدفع غالياً ثمن الإسقاط الاستعماري للشرق الأوسط. لقد أثار رسم حدود لبنان الأكبر في عام 1920المشاعر مثلما فعل اقتطاع لواء إسكندرون لصالح تركيا في 1939. كل ما وعد به الحلفاء سوريا تُرجم بنقيضه: فجعلوا من حق تقرير المصير اقتطاعات للأراضي؛ ومن الأنوار وبناء الدولة الوطنية صنع دولة علوية.

العلويون الذين كان يُشار إليهم باسم النصيريين نسبة لمؤسس هذا التيار الديني [محمد بن نُصير] تم العمل على إفرادهم عن غيرهم في ذلك العصر من قبل مستشرقين مثل هنري لامانس، بالرغم من الجهل الكبير بمعتقداتهم الحقيقية: كانت فرنسا تبحث عن معادل لموارنة لبنان، أقلية تستطيع الاستناد عليها. أعطيت للعلويين حينها دويلة واللاذقية عاصمتها، وهي مدينة في الصف الثالث في حينها. وفُتحت الأكاديميات العسكرية لعلويي الجبال، المستعبدين منذ ألفية من المجازر والقمع، ويعيشون تقاليد بعيدة عن الإسلام، ولا يتوقون سوى إلى كسر تسلط سنيي المدن! ولنتذكر في النهاية أنه في عام 1945، بالكاد عامان بعد أن أصبحت سوريا مستقلة، قصف الجنرال دوغول البرلمان… بالمختصر فإن ذلك الاستقلال كان محبطاً بشدة، والدليل أنه في عام 1949 سورية هي التي اخترعت الانقلاب العسكري في العالم العربي؛ وأثناء الانقلاب الثاني هي التي اخترعت إعدام الديكتاتور الساقط.

الدولة البربرية

بما أنها لا تستطيع أن تقوم لوحدها، وفي نفس الوقت ضعيفة بما يكفي بحيث يتعذر عليها الذوبان في فضاء آخر، ظلّت سوريا تتراوح بين إرادتها في القيادة وحبكات الحرب الباردة، وبين تنافسها مع القوى الأخرى في الشرق الأوسط– القاهرة وبغداد. في عام 1958، حين تشكلت الجمهورية العربية المتحدة في ظرف كانت تسري فيه الإشاعات عن المؤامرات التي تستهدف سوريا، كانت سوريا هي التي ترتمي في أحضان مصر: فناصر الذي كان يُحكِم سيطرته على البلد بأكمله، لم يكن بحاجة لهذا الاتحاد الصوري. كان هذا الاتحاد كارثة على حق تقرير المصير. وفي هذا الشأن أود الإشارة إلى أن علم الثورة السورية اليوم هو علم الثورة الانفصالية عام 1961، أي استعادة الاستقلال السوري بعد فاصل الجمهورية العربية المتحدة. إنها سورية التي تعيد بناء نفسها في مواجهة صفّارات الإنذار القومجية.

إنّ القوة غير العادية للبعث ولحافظ الأسد تتمثل في أنهم أعادوا سوريا إلى المركز. هكذا ومع حرب عام 1967، عاد السوريون ليضعوا يدهم على مصير المصريين حين جرّوهم بمزايداتهم إلى الدخول في صراع مسلّح لم تكن مصر تريده. كان صادما إعلان حافظ الأسد، وقد كان حينها وزيراً للدفاع، عن سقوط القنيطرة، في حين أنها لم تكن قد سقطت بعد: بين الجولان وبين بقاء النظام، لم يتردد الأسد ثانيةً واحدة، تخلى عن الجولان. لأن النظام أهم بكثير من الدولة، كما بيّن ميشيل سورا. وعلى نفس المنوال، عندما انخرط الفلسطينيون في أيلول الأسود، تحرك السوريون ولكن مدرّعاتهم دخلت مكشوفة إلى الأردن لأن حافظ الأسد أعطى الأوامر لطيرانه بعدم الإقلاع! لقد ترك المدرعات السورية تدخل ليسحقها الطيران الأردني، وهكذا فالأسد يستمد قوته من أنقاض جيشه نفسه.

يفرض البعث على البلد منطق الحزب والأسد يفرض سلطوية نظامه، سلطوية دولته البربرية. لنفهم آل الأسد، علينا أن نرى جيداً أنهم لا يمتلكون أي رؤية إستراتيجية. فالبقاء على قيد الحياة هو ضرورتهم الوحيدة. الموتى لا يهمون. لا شيء يعلو على عقل النظام، ومن هنا يأتي الشعار: “الأسد إلى الأبد”، وتأليه الأسد. لذلك، لا يمكن أن يكون ولن يكون هناك أي تنازل من قبل النظام؛ وكل طيف لاحتجاج سيُواجه بأسوأ أنواع العنف، لأن هذا هو شرط بقاء النظام على قيد الحياة.

كما في الأردن والمغرب تزامن تعاقب الحكم ي سوريا مع انفتاح النظام بشكل كبير. ولكن الفرق الحقيقي بين الأب والابن، هو أن حافظ الأسد كان يعرف من أين أتى – من الجبل الفقير- وهكذا فقد عمل بعض الأشياء لصالح البيئة المزارعة، على سبيل المثال؛ بشار، وُلد في العائلة الحاكمة. حتى لو كان مقدرَ له أن يبقى في الظل لأنه ليس الابن الوريث، إلّا أنه كان يملك كل شيء ليصبح ما أصبح عليه، أي ديكتاتور شرس في منطق الدولة البربرية، ليس لديه الخيار: إمّا أن يقتل أو يُقتل. هناك بعدَ تراجيدي: هو مستلبَ تماماً لهذا المنطق.

ما يجري اليوم هو أسوأ السيناريوهات للشعب السوري، لأن المجتمع الدولي لا يزال يضفي مصداقية على الدولة السورية المتخَيلة. مازلنا بعيدين جداً عن الحركة الثورية التي قام بها ساركوزي ضد القذافي، أي نقل الشرعية من الطاغية إلى الثورة. حتى فرنسا التي كانت من أولى الدول التي اعترفت بالائتلاف، لم تستخلص بعد كل النتائج المترتبة على ذلك الاعتراف: إن كانت سوريا هي الائتلاف، فينبغي تقديم الأسلحة له ومساعدته على صعيد المعلومات والبنى التحتية؛ وينبغي القبول كذلك بأنه هو، أي الائتلاف الذي يقرر جوهرياً، نحن أمام معركة تقرير مصير، منتصروها هم المدافعون الأكثر تماسكاً والأكثر فعالية عن المصالح الوطنية. هذا ما يفسر الغموض حول الجهاديين. مؤسّسو «جبهة النصرة» هم المقاتلون السوريون السابقون في حرب العراق، والذين كانوا قريبين من أجهزة المخابرات السورية.

المسافة بين الخارج والداخل

» اليوم، على الأرض، كيف تتمفصل العوامل التاريخية التي وصّفتها –إرث النهضة، الاقتطاع من الهوية السورية، الخ؟

حتى اللحظة، التحاليل الرائجة عن سوريا تعطي أهمية للحتميات الجيوسياسية. لم نكن ندرك هذه الحركة العميقة التي تخطّ هنا سوابقها التاريخية وتجددها إلا من زاوية الاحتجاج نفسه، من زاوية السخط والحنق والذي لا يمكنه أن يتجاوز حداً معيناً من الطاقة. معظم التحليلات كانت تعتمد على فكرة إنهاك الثورة أو فكرة الحرب الأهلية الطائفية وفق النموذج اللبناني أو العراقي. ولكننا اليوم، لا نجد إنهاكاً ولكن تجدداً مستمراً لمنطق الاحتجاج أو الانتفاضة المدنية أو العسكرية؛ ولم نر كذلك انهياراً تاماً ضمن منطق الحرب الأهلية…

حاولت في كتابي أن أسلّط الضوء على مواسم، أو مراحل، لألاحظ أنّ في كل مرّة كان النظام هو الذي يأخذ مبادرة التصعيد، وأنّ في كل مرّة كان العالم يقبل هذا التصعيد إما ضمنياً أو بشكل متواطئ. على هذا المستوى أنا أنتقد بشدة كوفي عنان، والذي تزامنت مهمته مع الهبوط نحو الجحيم (الموجات الكبيرة الأولى للمجازر والتطهير العرقي ضد المناطق السنّية، وعسكرة الأزمة بمجملها). النظام العالمي يضفي مصداقيته على الدولة السورية المتخيلة: هناك اعتقاد بأن سوريا هي بشّار الأسد. هذه هي القوة الكبيرة لآل الأسد: لقد نجحوا في جذب الانتباه العالمي. فتتجدد الثورة إذاً، لا خيار آخر لها.

الثورة اليوم مستنزفة، الناس منهكون، يائسون. المُدهش أنهم لا يقتتلون بين بعضهم! كلما استدامت الثورة كلّما قلّ محمولها البرنامجي، لأن كل طاقتها تتركّز على الإطاحة بالديكتاتور. لا ينبغي بعد الآن الحديث بالسياسة مع الثوّار: ينبغي إعطاؤهم الإمكانيات لينتهوا من الأمر. عدا عن أن بشار الأسد استطاع فرض خطابه، فالانتصاران الآخران اللذان يُحتسبان له هما أنه استطاع جر الاحتجاج الذي كان اجتماعياً وسياسياً في البداية إلى الميدان العسكري، وأنه استطاع أن يلعب على هذا الأمر ليبقى في السلطة.

نشهد حالياً تولية لوظائف تمثيلية وإدارية (مدارس، مستشفيات، طرق، الخ)، كانت تتولاها المجالس العسكرية، انتقلت إلى بُنى مدنية لا نعرفها على الإطلاق. الثورة تسير بخطى أسرع من خطانا! على العموم، ومع الثورات في العالم العربي، بدأت الدول الأجنبية بإقامة صلات كان عليها أن تقيمها منذ وقت طويل – معالإخوان المسلمون على سبيل المثال. اليوم هذه الصلات بدأت تتقادم: ينبغي إقامة صلات مع السلفيين والنقابيين واليساريين والفيدراليين والعشائر، الخ. في سوريا، صلاتنا مع الداخل لم تعد هي الثورة. الخطوات التي اتخذتها باريس مع المعارضة مشروعة على ما أعتقد، ولكني أخشى أن تستمر تلك المسافة بين الداخل والخارج بالاتساع. طالما أننا لا نزوّد بالتسليح الذي يسمح للثوّار بالتصدي للمروّحيات والطائرات وبضرب المدافع الثقيلة وبالتالي حماية المناطق المحررة بفعالية، أي تحريرها حقاً، لن يكون هناك سلطة بديلة تستقر في الداخل. ولكن طالما أن هذه السلطة لا تستقر في الداخل، فهي غير شرعية، لأن هذه المعركة هي معركة لحق تقرير المصير.

إن التباعد بين الداخل والخارج هو تباعد بنيوي. على الرغم من كل صفاتهم، فأناس الخارج ليسوا إلّا في الخارج. في الداخل الناس يعانون ألف ميتة وميتة. أولئك الذين سيحكمون سوريا في المستقبل هم الناس الذين ماتوا ألف ميتة ونجوا. سيستطيعون أن يصدّوا بشرعيتهم، كناجين، تكتيك بقاء النظام مقابل بقاء البلد، وهو تكتيك بشار الأسد.

» وماذا عن المسألة الدينية والطائفية؟ ألم يكن مسيحيو الشرق إحدى الأسباب الأساسية للوضع القائم في المسألة السورية؟ مثلهم مثل التهديد الذي يُلوّح به عن إضفاء الجهادية على الثورة، وهو عنصر حاضر في السجال الفرنسي العام؟

هناك سابقتان تثقلان على الثورة السورية: ليبيا والعراق. يُقدّم المصير العراقي – غزو، حرب أهلية وإقامة سلطة طائفية- وكأنه المصير المحتّم لسوريا. ولكن القياس لا يسري هنا: في حالة لدينا غزو أجنبي أدّى إلى دمار الدولة، في الحالة الأخرى لدينا ثورة انطلقت من أعماق المجتمع، وجعلت الدولة تتآكل في بعدها البربري، وهي تعيد بناءها شيئاً شيئاً، ليس هناك إذاً أي قدرية حتمية تسمح باستشراف سيناريو عراقي في سوريا. غير أنّ أحد الأسباب الأساسية لانتظارية الولايات المتحدة هو أن جزءاً ممن يقاتلون في سوريا اليوم ذهبوا لقتال قوات الاحتلال الأميركية في العراق. فليس لدى الأميركيين أي رغبة في مساندتهم. السابقة الليبية تُثقل كذلك على الحالة السورية. هنا أيضاً يُعتقد بإعادة إنتاج متطابقة مع الأصل.

فيما يتعلق بمسيحيي الشرق، تُستذكر السابقة العراقية دون أن نرى أن هذه الحالة تندرج في إطار عسكرة طائفية صنعها المحتل، الذي قسّم السلطة بين مجموعات مسلحة على أساس إثني و/ أو طائفي.

السجال العام الفرنسي حول سوريا يُخبرنا عن فرنسا أكثر مما يخبرنا عن سوريا. مارين لوبن لا تتحدث إلّا عن «خريف إسلامي» وتأثير قًطًري، تلوّح به كتهديد يثقل على ضواحينا. يرى البعض أن لفرنسا مسؤولية وحيدة هي حماية مسيحي الشرق. هؤلاء لا يأخذون بعين الاعتبار الصراع الداخلي للطبقات الكنسية، بعض أعضاء الكنيسة، الأكثر قرباً من الشعب يشاركون في الثورة، بينما الرتب العليا المعيّنة من البعث والمراقبة من أجهزة المخابرات تساند النظام. من المؤكد، أن أعمال عنف تُرتكب في بعض المناطق بحق سكانٍ ينتمون إلى الطائفة الفلانية أو الأخرى، ولكن ذلك يحدث لأن السكان حاربوا قوى المعارضة. ولكن وسائل الإعلام تصور الأمر وكأنه عنف طائفي… بالمنطق نفسه يحاول النظام تسليح المسيحيين في باب توما ومناطق أخرى.

أما فيما يتعلق بالجهادية والخطر الإرهابي، علينا أن نرى جيداً أن القاعدة غير موجودة في سوريا. قال عبد الرزاق طلاس لجوناثان ليتل في حمص: «إن لم يساعدنا العالم، سنصبح كلنا القاعدة». إن كان الثوّار يستثيرون موضوع القاعدة فذلك كي يحثوا الغرب على الفعل. فهم لا يفهمون لماذا لا يُقدم أحد على شيء.

القاعدة في العراق هي الميليشية السنية التي تحارب نظام المالكي، وستبقى تحارب طالما أن السنة محرومون من الوصول إلى السلطة. إن كان لهذه المليشية منافذ دخول إلى سوريا فذلك بسبب بشار الأسد، الذي سمح لسوريين بالانضمام إلى صفوفها ضد الأمريكان. اليوم نجد جزءاً من هؤلاء السوريين في المجموعات الجهادية، خاصةً «جبهة النصرة». هو جهاد بصبغة وطنية: هؤلاء الرجال جهاديون في خطابهم وممارستهم، ولكن أفقهم وطني، على الأقل طالما هم يحاربون النظام. هكذا، فقد دعا أبو بصير الطرطوسي، المرجع السوري في الجهادية، دعا الجهاديين للانضمام إلى الجيش السوري الحر بدل الانضمام إلى النصرة. إن انتصر الجهاديون يصبح الوضع أشبه بوضع حزب الله الذي لا يزال يسلك سلوك ميليشيا. ومهما يكن من أمر فهم الآن قد بلغوا أوجهم بسبب الانسداد العسكري: هم يؤمّنون للمقاتلين رواتب وغذاء وكادر.

وإدانتهم لا تحل في شيء المشكلة. عندما أُدرجت «جبهة النصرة» على القائمة السوداء للأميركان، لا بد أن بشّار الأسد طار فرحاً! من غير المحتمل أنهم يريدون فرض شروط على الثوّار من الخارج: هذه بلدهم، والقرار لهم! وهنا تدخل مسألة التسليح. ينبغي أن تُطرح كنتيجة لتشخيص بسيط جداً حول اللاشرعية المطلقة للدولة البربرية. والسلاح ليس إلّا سمة من سمات السيادة التي يريد الشعب السوري استعادتها، ونحن ينبغي أن نكون إلى جانبه. من حق هذا الشعب الدفاع المشروع في وجه عدوان بربري يقع عليه.

صراع محلي

» بينما يمكننا أن نخشى من نتائج الأزمة السورية على لبنان، إلا أنّ الحدود ما تزال محافظة على نفسها. كيف يُعقل أن النظام لم ينجح في تصدير العنف إلى البلدان المجاورة؟

حسب ما أرى فالثورات تحصّن الدود الوطنية. برقة هي المؤشر الأكثر دلالة على هذا المستوى: فبالرغم من هجوم بنغازي المستمر ضد طرابلس، إلا أن التصويت لصالح الانفصاليين لم يشكل شيئاً ذا أهمية في تلك المنطقة. وعلى نفس المنوال في العراق: لو أن الانفصاليين ربحوا قضية ما لما كان هناك حرب أهلية! في سوريا، كل الحركة الوطنية بُنيت في منطق النفي للحركات الانفصالية العلوية والدرزية. بالنسبة للأكراد هناك عنصر مغاير: حزب ال«ب ك ك»، حليف بشّار الأسد. ولكن هناك عدة كتائب كردية انضمت إلى الجيش السوري الحر وتحارب تحت علم الثورة وليس تحت العلم الكردي: هي ظاهرة لا سابق لها. الأسد هو الذي يتلاعب بالحدود –الحدود التركية والقصف، الحدود اللبنانية مع اغتيال وسام الحسن. إلّا أن ذلك لم يعد ينفع. كما كان يقول المأسوف عليه سمير قصير، الديمقراطية في سوريا هي استقلال لبنان وبالعكس. أعتقد أن الثورة ستحصّن سوريا ولبنان أيضاً: بعد انتصار الثورة لن يستطيع حزب الله إلا أن يكون أكثر لبنانيةً. أما الأثر الأكبرالعابر للحدود فسيكون على العراق. في محافظة الأنبار، تستعيد المظاهرات شعارات الثورة السورية. يمكن أن نتوقع أن السوريين العالميين الذين يحاربون الآن سيتجهون إلى الأنبار لمحاربة المالكي. وفي النهاية فالثورة السورية ستستثير غرماء في الجزيرة العربية وفي الجزائر. لأن سوريا 2013 تبرز نقاطاً مشتركة مع الجزائر قبل عشرين عاماً، فالنظام الجزائري حاول، كما يحاول النظام السوري اليوم، أن يضفي الجهادية على الثورة لقمعها بشكل أفضل.

» ما هو دور المدن السورية في الثورة؟

تأتي الثورة من «ريف المدينة» ومن المدن المتوسطة، مثل درعا، المشابهة لقصرين أو سيدي بوزيد في تونس: مدن فيها كثافة عالية من أعضاء الحزب. ليست مدناً الدولة فيها ضعيفة إذاً، بل على العكسهي فيها قوية جداً، في تلك المدن سقطت الدولة أولاً، لأنها تجثم وتضغط على الجسد الاجتماعي بشكل غير محتمل، في درعا على سبيل المثال، الجنرال عاطف نجيب، ذلك الذي أطلق النار على المتظاهرين منذ اليوم الأول، هو الذي يسيطر على الرخص العقارية في الأراضي الزراعية في محيط المدينة. بما أن البلد كانت قد خرجت لتوّها من حالة جفاف أدّت إلى انتقال كبير للسكّان من مناطق الفرات باتجاه مناطق مثل درعا ومن درعا إلى أحياء عشوائية ريف المدن– في دمشق وحمص، لقد فجّرت درعا حمص ودير الزور.

في يوليو، تموز 2012، كان لمعارك دمشق وحلب نتائج كارثية. لقد جعلت مجموعات سكانية كاملة عدوّة، مثل حلب وإدلب. لأننا لم نعد في ترسيمة انتفاضة 1979-1982 والتي حللها سورا: في حينها، كانت العصبية المحلية هي التي تفعل فعلها في حلب؛ اليوم تصل الكتائب من الخارج لتجند «شباب» الحي.

كما يقول محقاً فرانسوا بورغا، لا يجب أن نعتبر هذه الثورة مثالية: هي تعود إلى نموذج قبل حداثي، نموذج محلي. وهذا يعني بالضبط العودة إلى طرائق إدارة فلاحيّة، بطريركية، حيث تختفي النساء من الفضاء العام. هي ليست الأنوار التي تتقدم نحو الأمام. من جهة أخرى، فقد استخدم النظام الجنس كسلاح حرب، باغتصاباته الواسعة وبأشكال مختلفة عما جرى في ليبيا. حينها لا ينبغي أن نندهش من عودة ثوابت أخلاقية، والتي ترجع في الحقيقة إلى منطق الحفاظ على الجماعة. ومن الواضح أن المقاومة المسلحة ليست في منأىً عن محاكاة بربرية الأسد. الترياق الأفضل في مواجهة عدوى الدولة البربرية هذه هو النصر، وبأسرع وقت ممكن.

في النهاية، ما يثير الدهشة هو أن المجتمع السوري مازال صامداً، لأنه يحتفظ بمعنى للوقت الطويل، لأنه مازال قادراً أن يستشرف مستقبلاً ينتمي له. اليوم نسمع في سوريا: «رحل العثمانيون، رحل الفرنسيون، سيرحلون». يرى السوريون هذا النظام كجسم غريب يتخلصون منه. الأكيد هو أن لا مشكلة هوية لديهم، ليس أكثر من التونسيين أو المصريين! لو أن لخطاب بشار الذي يجعل من الثورة حركة إرهابية بسيطة أي أساس من الصحة، لكان الثوّار قد انتهوا منذ زمن طويل. أن يصمد الحراك ويستمر حتى الآن هو دليل على أنه حراك تحرري، وأن الثوّار سيذهبون به حتى النهاية.