«أعظم مثال حديث يطالعنا عن الصدمات كعامل إثارة: الصدمة التي تلقاها العرب في حرب فلسطين عام 1948، إذ أصبحت نقطة تحول في تاريخ العالم العربي الحديث، إذ لم تنقض أربع سنوات على هزيمة الحكومات العربية في فلسطين حتى اندلعت الثورة المصرية في 23 يوليو سنة 1952، فقضت على الإقطاع وحققت الاستقلال الصحيح في جميع الميادين، وتلاها استقلال السودان وإنشاء الجمهورية العربية المتحدة وثورة العراق، وتأثرت إفريقيا بهذه الموجة العارمة في شمالها. ومازالت انتصارات القومية العربية تتوالى».

يعود عمْر هذه الحاشية إلى عام 1960، وكاتبها هو فؤاد محمد شبل الوزير المفوض بوزارة الخارجية في الجمهورية العربية المتحدة وكتبها تعليقاً على إحدى أفكار المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي وردت في مختصر كتابه الضخم دراسة في التاريخ، المختصر الذي ترجمه الوزير شبل نفسه وصدر عن جامعة الدول العربية، حيث أن السيد توينبي كان يشرح كيف أن الصدمات والتحديات والصعوبات (وليس البيئة السهلة الجميلة، وليس العرق المتفوق) هي النقطة الأساس في نهوض الحضارات والأمم. يظن السيد توينبي أن البسيطة تضع أمام البشر تحديات بيئية واجتماعية، يستجيب للتحديات بعض البشر يصارعونها وينهضون، ويتوانى آخرون أو يهربون فينقرضون أو يتحجرون.

إذن السيد شبل يحاول أن يقرأ صعود القومية العربية في هذا السياق، وتبدو حاشيته للقارئ الحديث وبعد خمسين عاماً وكأنها آتية من عهد سحيق وغريب. حينها كان الحماس والتفاؤل العربي في أوجه، والتنظير للعروبة، الذي راج في النصف الأول من القرن العشرين، بدا وكأنه يتحقق بالفعل مع إنجازات عبد الناصر. ومن المشوق معرفة ماذا كتب السيد شبل بعد سنة حينما سقطت الوحدة أو بعد سبع سنين حين تلقت العروبة أكبر صدمة في نرجسيتها وفي عهد عبد الناصر بالذات عام 1967.

ففي هذا العام أدت الهزيمة إلى بدء مسار تنويمي للعروبة، نما فيه تدريجيا خطاب شعبي قوامه جلد الذات وكراهيتها، وخطاب رسمي للدكتاتورية العربية وريثة عبد الناصر قوامه مفارقة الواقع والخطاب في الأحلام وتمجيد الذات. دخلت العروبة إذن في سبات وتحول قادتها من نموذج البطل الموحد عبد الناصر أبو العرب (على مثال أبي الترك) إلى مجموعة من الطغاة الصغار الحارسين لهذا السبات، حكام مشلولي الإرادة الخارجية ومطلقي الإرادة الداخلية في القمع، يجتمع هؤلاء في قمم يضحكون فيها على أنفسهم، وتضحك شعوبهم عليهم، ويضحك العالم المتفرج.

وكأي سبات لمريض مزمن، لابد أن ينتهي ذلك بوفاة المريض، ويبدو الربيع (العربي)، هذا الطوفان الهائل، إنذاراً ليس فقط بنهاية الدكتاتورية العربية بل بإطلاق رصاصة الرحمة على المركب الأيديولوجي العربي الاشتراكي الذي استهله عبد الناصر، فلا الثائرون السلميون يرفعون شعارات عروبية، ولا المسلحون كذلك، ولا حتى الحكام العرب يناهضون الثورات أو (المؤامرات) باسم العروبة.

تبدو العروبة الأيديولوجية إذن مصطلحاً مفلسا للجميع. في مصر والمغرب العربي لا يبدو ذلك شديد الخطورة، فمصر تملك وحدة حضارية متجانسة، تستعصي على التفكك، والمغرب العربي لم ينخرط بقضه وقضيضه في الحماسة العربية بل بقي على مسافة متحفظة منها، ويشمل ذلك ليبيا القذافي التي تنقل «عكيد»ـها من العروبة إلى الأفرقة بسهولة ويُسر دون أي شعور بقلق الهوية.

أما في منطقة الهلال الخصيب (وهي مهد التنظير العروبي) فيبدو الأمر مغايراً، فالعروبة، التي خرجت كفكرة تحررية وكحلّ وحدوي لمشكلة الفسيفساء الطائفية والقومية الهائلة في المنطقة، يترك غيابها فراغاً شديد الخطورة ومدمراً على صعيد الهوية.

لم تختبر شعوب هذه المنطقة تماسكاً حضارياً طويل الأمد، وذلك على عكس ما تفترضه القومية السورية (المناوئة للقومية العربية) في افتراضاتها التاريخية. بالعكس، تاريخ المنطقة مليء بالانقسامات والحروب والهجرات والممالك الصغيرة، وكانت هذه الممالك دائماً على تماسّ الحدود بين المحاور العالمية، تغير ولاءها لهذا المحور أو ذاك، ولم تشهد استقراراً أو توحداً إلا عندما كانت كلها ضمن إطار إقليمي إمبراطوري موحد، وهذا في تقديري سبب عدم رواج القومية السورية مقارنة بشقيقتها العربية، التي تربط فضاء الهلال الخصيب بالفضاء العربي الأوسع أو بحلم إمبراطوري عربي.

الآن، وبعد أفول العروبة، وعجز السَورَنة عن سد الفراغ بسبب محدوديتها وضعف أساسها التاريخي، من هم شعوب المنطقة؟ هل من أمل في توحيدهم، وكيف ذلك؟ هل من أفق للتعايش بين مكوناتها، وعلى أي أساس؟

يبدو أن الخيارات المطروحة ضئيلة، فمن الممكن نظرياً، وبالمقارنة مع سويسرا كنموذج، العمل على قبول الانقسام القومي الطائفي بين مكونات المنطقة والحفاظ على الحدود المحلية كما رسمها الانتداب، أي يتم الهرب دستورياً من سؤال الهوية القومية الدينية وتُبنى دولة أقرب ما يمكن للعلمانية، تساوي بين مواطنيها دون أي تمييز. لنجاح دولة كهذه، يحتاج مؤسسوها إلى إمكانية تحييد أراضي بلدانهم عن الصراعات الإقليمية الدولية قدر الإمكان، وإلى تشجيع المكون الأهلي على أخذ مسافة من الاصطفاف القومي والطائفي الأوسع. يتطلب نجاح هذا الحل مللاً ويأساً ليس فقط من العروبة، بل من الحماس الديني والطائفي والعشائري والقومي، وهو ما يبدو غير متاح في المدى المنظور بسهولة.

أو سيملأ الفراغ صراع المكونات الأيديولوجية البديلة، وهي طائفية قومية على ما يبدو، وتتركز في المكونات الثلاث (السنة والشيعة والأكراد). في لبنان سبق لمرجعية الفقيه الشيعية أن ورثت كل الخطاب العروبي القومي المقاوم، أضف إلى ذلك الجهد المستمر لربط العراق وسوريا في دائرة النفوذ الإيرانية الكبرى. وسبق أن ورث الأكراد العراق فراغ السلطة المركزية في العراق، وفي تقديري يعمل البعض في الخليج وتركيا لوراثة الباقي، وذلك عبر الترويج عبر الإعلام والدبلوماسية النشطة لربط سنة المنطقة بنوع من الرابطة السنية الأممية، وتصوري أن هناك عملاً على مصالحة تاريخية سنية كردية في العراق وتركيا، تجعل من الأنبار وكركوك معبراً بين الخليج وتركيا، واختراقاً عمودياً في الهلال الخصيب الذي وُسم فترة من الزمن بالشيعي، مترافقاً مع مصالحة تركية إسرائيلية لتحييد الصراع مع إسرائيل مؤقتاً، وقد يكون هذا الجهد مدعوما بمباركة أمريكية وتسويق لنوع من الحل للصراع الفلسطيني (الذي لم يعد عربياً منذ مدة)–الإسرائيلي. وهكذا يصنع مصدّ في وجه الامتداد الإيراني، ومن ورائه الامتدادين الروسي الصيني، وربما يصبح لسنّة العالم من جديد مرجعية دولية تنزع الشرعية عن مفتي الجهاد في العالم، حيث يصبح مناطاً بولي الأمر.

إلى أي درجة ينتمي هذا الكلام عن السنة الأممية (دولة الخلافة أو ربما الجامعة الإسلامية) إلى الخيال أو إلى الواقع؟ لا أعلم بالتأكيد. هل يمكن الجمع بين إسلاميي تركيا ذوي التراث الصوفي مع إسلاميي الخليج ذوي التراث الوهابي، في مرجعية سياسية واحدة؟ أيضا لا أدري. ولكني أعلم بالتأكيد أن الاستقطاب الطائفي في المنطقة على أشده، وأن هذا التصالب بين مكوّنَي الإسلام العريقين هو في توتّره الأقصى، وأن هناك ميلاً معقولاً لدى فئات معتبرة من مكونات المجتمع السني لدعم هكذا سياق وحدوي. وأعلم أن الصراع الشيعي السني هو صراع قديم قِدَمَ الإسلام، وأن ربط شعوب المنطقة وتقسيمها وتوحيدها بناءً على غواية هذا الصراع سيربطها به وسيديمه ويشعله في المنطقة، طالما كان هو عنوان هويتها ولم تجرؤ شعوبها على الانفكاك عنه.

لماذا فشلت العروبة ونجحت التركية والصهيونية والكردية في المنطقة؟ لماذا نجح أتاتورك (أبو الترك) وفشل عبد الناصر (أبو العرب)؟ هل يعود ذلك لفرض العلمانية عسكرياً في تركيا، أم بسبب التحدي الإسرائيلي، أم بسبب الاسترخاء للنفط العربي؟ هل لأن أبا الترك تجاوز نفسه وصنع مؤسسات لتركيا، أما أبو العرب فكان خصماً شهيراً للمؤسسات، يلغيها ليبقى هو؟ هل لأن الشعوب العربية تمسكت يائسةً بنموذج البطل المنقذ، منتصراً أو مهزوماً؟ ربما كل ذلك يلعب دوراً، ومع ذلك يخبرنا توينبي أن لا جواب نهائياً على هكذا مسائل. لم ينجح كل البشر في تحديات التاريخ. ليست المسألة حتمية ميكانيكية وشأناً نعرف سببه فنتنبّأ بنتيجته. للأقوام عزائم وإيمان وإصرار يشترط تواجدها للنجاح. على أي حال، ومع أن العروبة الأيديولوجية أفلت، لكن اللغة العربية حية على أشد ما تكون من الحياة، ولا يكاد يوجد محور أو قطب عالمي ليست له قناة أو أكثر ناطقة بالعربية. إذن رحلت العروبة وبقيت العربية، وبقي الإنسان العربي المقهور الذي يحاول أقطاب العالم مخاطبة ذهنه واستمالته عبر لغته. العربي قوي بقهره المختزن، والعالم بتنوع أقطابه ربما يحاول أن يوجه رياح هذا القهر المنفجر.

فيما بعد، هل تعيد اللغة العربية الحية العروبة إلى الواجهة وتقوم من بين الأموات؟ هل يعيد هذا الاهتمام العالمي بذهن المقهور العربي إلى شخصيته الاعتبار؟ هل ماتت العروبة، أم كبتت، وهل نتوقع عودة للمكبوت؟ من يملأ الفراغ الذي سيتركه الصراع الطائفي عندما ننهك منه؟ هذا بدوره من أسئلة المستقبل.