وددت أن أهدي هذه المادّة لعدد كبير من الأصدقاء/الآباء
الشهداء والشهود وغيرهم
بحثت كثيراً فلم أجد إلا «نايف» ذلك الطفل الذي أجبرته صواريخ الدكتاتور أن يكبر قبل أوانه، ويكبرنا قبل أواننا!

سقوط الدكتاتور، دوام الأب!

لقد كان مشهدا درامياً لا يضاهيه مشهدٌ آخر سجلته ذاكرة وعدسات السوريين الثائرين. تمثال الدكتاتور الأب في الطبقة يلفّه اللهيب الوهّاج، فيما يخرج دخان أسودٌ كثيف من فتحات العيون والأذنين، في لحظات قياميّة بدا فيها الدكتاتور يغالب في الصمود في انتظار قدره المحتوم. كثافة الدخان الصادر عن «الإله المتجسّد» كانت ملفتة للدهشة، تلك الدهشة التي سرعان ما بُدِّدت عندما عُرف بأن جوف التمثال المرعب المكلّل بالجصّ والكلسّ الصلب لم يكن إلا محشواً بأنواع رديئة من النفايات البلاستيكية وغيرها من المواد العفنة. بدا المشهد مشتملاً على كامل أركان «مسخرة الترميز»: الدكتاتور العاتي من الخارج لا يعدو عن كونه قمامة هشّة، سريعة الإشتعال من الداخل! مشاهد سقوط تماثيل أعتى الدكتاتوريين العرب مع اختلاف انتشارها وأحجامها من بلد إلى آخر ومن سقطة إلى أخرى لم تبهر عيون المتابعين كافة فحسب، بل أغدقت على بعض المتابعين شحنة إنفعالية، تم تكليلها ببعد تراجيدي نظري، يتجاوز سقوط الدكتاتور بذاته ليمضي ذاهبا في استنتاج قاطع وحاسم: لقد سقط الأب!

تلبّس الطغاة عبر التاريخ بثوب الأب وصُوّره في المخيلة الإنسانية الجمعيّة، وبصورة لم تنج منها مجتمعات كثيرة، لم ينقصها التفاوت لا ثقافيا ولا حضاريا، في أزمنة الحرب والسلم على السواء. إلا أن هذا اللبوس «المُغري» الذي كان يجد مرتعا خصبا خلال القرون الماضية، لم يتوقف عند قطع رأس الملك/ الأب لويس السادس عشر على يد «أبنائه» الثائرين عشيّة الحدث الفرنسي المفصل، ولا عند ترويض الإمبراطور الياباني، كبير العائلة العنيفة، على أيدي أعدائه المنتصرين بعد أهول الحرب العالمية الثانية، بل امتد في روحه وتجلياته إلى أغلب الأنظمة الدكتاتورية التي أحكمت قبضتها على مجمل البلدان العربية. فعتاة العرب لم يتجرّأوا على فرض أنفسهم كآلهة أو أنصاف آلهة، وذلك لأسباب تتعلّق بالمزاج «الجماهيري» العام، إلا أنهم ولأسباب تتعلق بنفس المزاج أوغلوا وزادوا في تقديم أنفسهم «كآباء» إفتراضيين وحقيقيين لمجتمعات لا معنى لفكرة «المواطنة» خارج نطاق «الرعيّة» فيها، فيما خيّل إليهم أن هؤلاء الرّعية «أبناءَ» ضالين وجب تقويمهم وحسن «تربيتهم»، وبالقوة ما أمكن. ورغم المعاني الكبيرة التي يحملها سقوط أي دكتاتور، إلا أنّ مؤشرات كثيرة تدل على أن سطوة مفهوم الأب ودوره الرمزي والحسّي يتجاوز لحظات سقوط الطغاة، وأسود سوريا منهم، ولا يقف عند عتباتهم الدامية.

أطفال الحروب!

قد تكون الحروب القومية والأهلية التي مرت بها البشرية، بالإضافة إلى جبروت الحكم الدكتاتوري المرعب إحدى أهم عوامل بروز ظاهرة «أطفال بلا آباء»، تلك المأساة الحقّة التي غالبا ما تترك بصماتها في المجتمعات المنكوبة خاصّة بعد هدوء الجبهات ورجوع المقاتلين إلى رشدهم وبعد زوال ظلال الدكتاتورية الكاحل أيضا. فالحربين العالميتين أسفرتا عن سقوط ملايين الرجال/ الآباء واعتقال واختفاء مئات الآلاف منهم، وبشكل لم يقتصر على أيّ طرف من المتحاربين القساة، وإن كان للمهزومين حصّة كبرى من المأساة بشكل عام. في الحرب العالمية الثانية خسرت ألمانيا مثلا 4.7 ملايين من الرجال، شكّل الذين تراوحت أعمارهم من 25 إلى 30 سنة أكثر من 50 بالمئة منهم، بينما وقع حوالي المليونين ونصف في الأسر سواء عند قوات الحلفاء أم عند السوفييت. ورغم إخلاء سبيل الآلاف من الجنود الرجال في السنوات التالية للحرب، إلا أنّ جلّهم لم يعد إلى عائلته أبدا، في مصير كان ينتظرهم إما قتلا، أو إختفاءً أو موتاً في ظروف غاية في القسوة. خلّف هؤلاء الرجال ورائهم أكثر من مليون ونصف من النساء الأرامل، و«جيشاً» من الأطفال اليتامى بلغ المليونين والنصف. في ألمانيا بعد الحرب كان اليتم والعوز يطال ثلثي الأطفال، ممن كتب عليهم الحياة بلا آباء طوال حياتهم، بينما وصل عدد هؤلاء الأطفال إلى العشرين مليون على كامل التراب الأوربي الذي حرقته الحروب. «أطفال الحرب» هؤلاء كبروا إلا أنهم لم يسلموا لا جسديا ولا نفسيا من آثارها إذ لاحقتهم الإضطرابات النفسية العميقة مدى حياتهم، تلك الإضطرابات التي يرجح أنها نشأت عن عملية نفسية مرّكبة من «الحداد المزمن» والحزن العميق على فقدان أشخاص أساسيين في وجدانهم، شكّل الآباء «المفقودين» المحور العام الذي كانت تدور حوله أحاديثهم وأفكارهم وعواطفهم، على ما تخبرنا به «ملفّات» العيادات النفسية حتى وقتنا الحاضر.

أب قديم وصورة جديدة!

لم تكن العلاقة بين الأم والطفل محور إهتمام باحثين وعلماء في التربية وعلم النفس عبر التاريخ الحديث فحسب وإنما كانت «سحراً» لا يشك في سطوته أحد، وقع في غيّه كتابٌ، مفكرين، فلاسفة ورجال دين طال أغلب ثقافات ومجتمعات الأرض المؤلّفة، ودفع بالكثير منهم إلى «تحييد» الاهتمام بالعلاقة الأخرى الشائكة: «الأب- الطفل». هذه العلاقة كانت ولمّا تزل تقبع في ظلال الوعي الإنساني عامّة، يلفّها حيّز سميك من الآراء الجاهزة والتحيّزات المسبقة والتي غالبا ما تربط «صورة» الأب ودوره بالسّطوة والقوة، بالتطبيق الصارم للأنظمة الواضحة، بالتربية وتقويم الإعوجاج، بالثواب المجزي حيناً وبالعقاب الصارم أحيانا. إنه «ربّ» الأسرة، والطاعم الكاسي، هو «الإله» الصغير والمتجسّد برمزية عالية. غالباً ما كان يستدل على «الدور التاريخي» للأب كشيءٍ صارمٍ وقاطع، يقوم على أساسٍ «بيولوجي» و«جينيٍ» محدد ومسبق البرمجة، ينفي أيّ إحتمال لتدخّل «ثقافي- اجتماعي، «يلحلح التصورات الجاهزة ويخلخل الأفكار الموروثة، تفرضه طبائع التطور وتعقّد المجتمعات الإنسانية المفتوحة على التفاعل الديناميكي الآخّاذ. على الجهة الأخرى، وبضغط كبير من متغيّرات ثقافية- اجتماعية وسياسية عصفت بالنصف الثاني من القرن الفائت، دعّمتها وكرّست تبعاتها تأثير مطّرد وفائق لحركات نسوية غربية، راديكالية التوجّه، «أعيد» تشكيل صور الأب وأدواره، وبشكل أريد الإعلان عن «موت الأب» نفسيا واجتماعيا (وسياسيّا أيضا) وإلى الأبد، في خطوة كانت تنحو «طرد» الأب من المجتمع، إن لم يكن من التاريخ، بعد أن تمّ طرده عملياً وقانونياً من المنزل! وهكذا زجّ بالأب بين قطبين متباعدين، يرتبط الأول بالصّورة القائمة على الجّبروت والقوة، على العنف والسطوة وعلى المعيل الصّارم القاسي. فيما تكفّلت الصورة الأخرى بإنتزاع كل «قيمة» أنيطت للأب بدور ما، سواءً داخل المنزل أم خارجه، فأصبح «شيئاً زائداً»، يفيض عن الحاجة، يشكّل حضوره وغيابه الشيء وسواه، فيما تمّ إعلاء شأن العلاقة بين الأم والطفل وإعطائها بعداً «متعالياً» يشكّك في قيمة كل ما عداها من علاقات في تشكيل البنيان النفسي- الاجتماعي للطفل.

وجود الأب «الساحر»!

منذ فترة وجيزة لم تعد هذه الحال على ماهي عليه. لقد بدأ نوعٌ من الشروع في «إعادة الحفر» المعرفي، نفسيا واجتماعياً، طاول العلاقة «الظل» أب- طفل، وبشكلٍ لم يقف عند مسائلة الأدوار «التقليدية» للأب، بل امتد ليشمل نقاشا جوهريا أتى على «صورة» الأب بحد ذاتها، وأسفر عن إعادة تشكيل الصورة العلائقية «الأم- الطفل» لتشمل صورة أكثر توسّعا هي «الأم- الطفل- الأب»، إذ تم الإنتقال من الوجه «الثنائي» الجامد (dyadic) إلى الوجه «الثلائي» الأكثر ديناميكية (triangulation)، وعلى مستويات عدّة كان للتربية والبناء النفسي للطفل النصيب الأوفر منها. النتيجة كانت التأكيد على الدور الإيجابي الحاسم للآباء ووجودهم في تطوّر نفسي سليم ووقائي لأطفالهم، الذكور خاصّة. ففي المرحلة الأولى من الطفولة تتكوّن أولى روابط علاقة الطفل مع الأم في شهور الرضاعة التأسيسية تليها مرحلة مهمّة يبدأ فيها الطفل بالنزوع نحو الانفصال «المرغوب المكروه» عن الأم ومحاولة استطلاع العالم من حوله بما فيه الأب ذاته (منذ الشهر التاسع حتى الشهر 14 تقريباً). هنا بالضبط يتبلور وجود الأب الجوهري في إتمام عملية الانفصال عن الأم ماديا ونفسيا وإدراك الذات بمعزل عن الحاجات الأولية الأساسية، والذي يساهم فيه انخراط الأب بشكل كبير في تأمين «موضوع» أو «نموذج» بديل، آمنٍ و«مختلفٍ» بشكل واضح عن الأم، العملية التي يستطيع الأطفال الصغار من خلالها استدماج خبرات «بصرية» و«معرفية» جديدة تسمح لهم بنوع من التوازن النفسي العام، ينتج عن استدخال أفضل لصورة الأم والأب معاً وبشيء من التكامل الهادىء.

هذه المرحلة الحاسمة أطلق عليها إسم التثليث (triangulation) وذلك كناية عن العلاقة المكللة بوجود الأب، ثلاثية الأطراف أم- أب- طفل. من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن وجود الأب في هذه المرحلة يكون أكثر تأثيرا على الأطفال الذكور منه على الأطفال الإناث. قد تستمر هذه المرحلة حتى السنة الثالثة من العمر حيث تليها مرحلة أخرى تمتد حتى السادسة تقريبا، تتفتّح فيها إدراكات وتصورات الطفل عن نفسه وعن الآخرين والعالم من حوله، وتتملكه فيها «نزعات» فطرية للمشاكسة والتعارض في درب يبدو وكأنه «تدريب مؤقت» على مواجهة المحيط الاجتماعي بما فيه من محددات وقوانين ونواظم. مرة أخرى يبدو وجود الأب حاسماً في هذه المرحلة أيضا، وذلك عبر تقديم نوعٍ من «النمذجة» النفسية والإجتماعية، لا يقوم الطفل فيها بمراقبة وتجريب أدوار «لاحقةً» فحسب، بل يتلمّس من خلالها طريقة «إجرائية» و«حسية» في فهم العالم وقوانينه التي تبدو مقيّدة بتعليمات وإرشادات يمثّل الأب وحضوره «واقعاً» منها. هنا يشير بعض الأخصائيين النفسيين- التحليليين إلى الأهمية الكبرى لوجود الأب في حياة الطفل، وذلك عبر إسهامه في بناء اللّبنة الأولى مما يعرف بـ«الأنا الأعلى»، المفهوم الذي يدل على سلطة أخلاقية وقانونية عليا في الكيان النفسي المتشكل للأطفال. تلك السلطة التي تؤمن إطاراً ومرجعاً ذهنياً داخليّا، يحتاجه الأطفال أيما حاجة في عالم متحول ومتشابك، مثير وشديد الإغراء أيضاً.

وحتى في سنوات «الطفولة الهادئة» (من 6 إلى 10 سنوات) يبدو وجود الأب ودوره حاسما في تأكيد المبادرة والإنجاز المدرسي والاجتماعي عند الطفل وتعزيزهما، وبشيء من النّوعية في التعامل الخاص ينذر بنشوء بوارد أولى لعملية معقّدة تسمى «الهوية» الفردية والطابع الشخصي للطفل (identity)، تجد صداها لاحقاً في مرحلة المراهقة واليفوع المبكر. وليس غريباً أن مرحلة البلوغ والمراهقة تتميّز بـ«تخليق جديد» تتكفّل فيه تغيّرات جسمية، عصبية وهرمونية ماحقة، عند الجنسين من الأطفال «سابقاً» وبشيء يتصاحب مع إرتفاع واضح في السلوكيات العدوانية والجنسية خاصّة عند الذكور. هنا يبدو دور الأب ووجوده حاسماً مرة أخرى في «تقنين» الإندفاعات عدوانية الطابع عند المراهقيين الذكور، وذلك عبر تجسيد صورة «الرجل» الراشد، والمنافس النّد، بالإضافة إلى «تقويم» وتحسين «استدماج» صورة الرجل لدى المراهقات الإناث. يساهم وجود الأب بما يحمله من أفكار وقيمٍ مغايرة (على الأغلب) في تأكيد فردانية الأبناء، من بنات وذكور، مراهقي اليوم وراشدي الغد، وتدعيم نزوعهم الشاق نحو بناء «مداميك» الشخصية التي تختلف عن شخصية الآباء وتطلعاتهم. وما بعض جولات «العراك» اللفظي والصدام المفاهيمي الدائم بين الآباء والأبناء المراهقين حول أمور تمتدّ من تفاهات الحياة اليومية (نوعية الطعام وترتيب الحاجيات الشخيصة والنوم) إلى تلك الموضوعات الكبرى (العلاقات الغرامية، الدين، المستقبل، السياسة) إلا أمثلة واقعية وإجرائية لعملية نفسية-اجتماعية طويلة الأجل ومتعبة، يكون فيها التحوير والتعديل، التقلبات واليقينيات في الآراء والأهواء، بالإضافة إلى محاولة الاتحاد مع الأمثلة الثقافية الكبرى (شخصيات عامة أو أبطال تاريخيين) تدريبات إضافية تصقل محاور الشخصية في أبعادها الذاتية والاجتماعية (idealization)، متنقلة بين المعارضة والتوائم حتى تستقر الحال بما هي عليه من أجل المضي في مراحل الحياة الواقعية اللاحقة وبرصيد «لا بأس به» من الخبرات السابقة جميعها.

في كل هذا يؤمن وجود الأب «معياراً» آخر للحكم على الأشياء ونموذجا مختلفا عما هو موجود لدى الأم، عندها لا يبدو العالم مقتصراً على حيّز نفسي وإجتماعي أوحد وضيّق، بل يساهم هذا الوجود في توسيع نطاق الخبرات المتراكمة، مما يساعد على «مقارعة» أمثل للواقع الاجتماعي الشامل والمعقّد لاحقاً.

في آثار الغياب!

إن كان «وجود الأب» في حياة الطفل يشكّل «فرصة» مفتوحة على إمكانيات عدّة، سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية، فإن «غياب الأب» يعدّ فرصة أكبر لتشتيت هذه الإمكانيات إن لم نقل تفويتها وبطريقة قد يصعب التغلّب عليها مدى الحياة. هنا تجدر الإشارة إلى أن هذا «الغياب» الذي نعنيه هو ذلك الذي يتّخذ طابعاً قسرياً، كما هي عليه الحال في أزمنة الحرب والصراعات الأهلية المسلّحة وظروف التهجير والتطهير العرقي والملاحقات السياسية وما يتبعه كل ذلك من انتهاكات كبيرة. هنا يجب علينا التمييز بين ذلك الغياب الذي يحدثة «الموت» بكل ظروفه من إغتيال والسقوط ضحّية في المعارك أو الإنفجارات وحوادث القتل العابرة، وتلك الغيابات التي تسببها ظروف «الاعتقال» المعروفة أو حتى «الاختفاءات القسرية» على السواء. لا يمكننا التكهّن بشكل حاسم بالآثار النفسية والاجتماعية التي يحيقها غياب الآباء في حيوات أطفالهم، ولكن هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن الأطفال يتأثرون بهذا الغياب بشكل واضح وعميق، وبصورة تشمل جميع المراحل العمرية، ولكن بتفاوت تفرضه عوامل عديدة لعلّ أبرزها متطلبات عملية التطور ذاتها وظروف كل مرحلة عمرية، عمر وجنس الطفل أثناء الغياب، بالإضافة إلى «طبيعة» و«نوع» الغياب ذاته. فهناك ما يشير إلى أنه في حالة غياب الأب لفترة لا تقل عن الستة شهور في غضون السنوات الست الأولى من العمر، سوف يكون له تداعيات خطيرة على الصحّة النفسية للطفل لاحقاً. تظهر هذه الأعراض على شكل من الحزن المديد والإحساس بالفقد العام قد يتطور إلى حالات جدّية من الاضطرابات النفسية بدرجات متفاوتة، بالإضافة إلى إمكانية كبيرة لبروز مشكلات سلوكية متعددة قد تسهمُ بتأخرٍ بسيطٍ أو واضح في التطور العقلي والعاطفي العام للطفل.

وكما رأينا من أهميّة للوجود «الأبوي» فإن الغياب القسري للأب في أزمنة الحروب والعنف خاصة، يمكن أن يحدّ بشكل جليّ من إمكانية تطوّر الهوية الفردية عند الأطفال بشكل سوّي. في غياب «النموذج المختلف» عن الأم، والذي يتم مراقبته بدقة من خلال عيون وعقول الأطفال، يكون لدينا احتمال كبير لخلل يصيب عملية استدماج صورة الأب وانعاكاستها في ذات الطفل وإحساسه بتفرّده وأهميته، مما قد يفتح الاحتمالات على رضوض نفسية عميقة قد تصيب كيان الشخصية ذاتها، بالإضافة إلى احتمال كبير لاضطراب القدرة على الضبط السلوكي والمعرفي والعاطفي عند المراهقين، الوضع الذي قد يرفع من خطورة الإتيان بأعمال عنيفة والوقوع ضحية الإدمان على المخدرات، الكحول والنيكوتين في بعده «الذكوري»، بينما تميل الإناث أكثر إلى «إتقاط» تلك الاضطرابات النفسية داخلية التعبير من قلق واكتئابات ومخاوف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من المصابين باضطراب الشدّة النفسية ما بعد الصدمة (post traumatic stress disorder; PTSD) كانوا أطفالاً فقدوا آبائهم في فترات الحروب والنزاعات المسلّحة، الاضطراب الذي يمكن أن تظهر أعراضه حتى بعد سنوات طويلة في عمر الرشد اللاحق طبعاً هناك ظواهر وتداعيات أخرى لغياب الأب في ظروف الحروب والصراعات المسلّحة لم نأت على ذكرها ولعل أهمّها «ظاهرة عمالة الأطفال واليافعين» واضطرار الكثير منهم إلى القيام بأعمال شاقّة في ظروف إنسانية غاية في الإمتهان من أجل المساعدة في إعالة الأخوة والأم، الوضع الذي يزيد من خطورته غياب أية تدخّلات مؤسساتية محتملة.

بكلمات أخرى، الأطفال اللذين يفقدون آبائهم في سنوات الطفولة المبكرة والوسطى يكونون أكثر عرضة للاستجابة للشدات النفسية بطريقة «مرضية» وغير سوية، حتى بعد انقضاء وانتفاء الأسباب وظروف هذه الشدّات. فضلاً عن مشاهدات عيانية كثيرة تذهب إلى أن غياب الأب في ظروف الحروب واللجوء القسري سوف يؤدي بدرجة كبيرة إلى نقص حادّ في تغذية الأطفال وإلى الإصابة بأمراض جسيمة وعصبية خطيرة. كل هذا يحدث نتيجة غياب الدور «التاريخي» للأب كمعيل وضامن لتطور طبيعي أمثل للأبناء في المراحل الحرجة من الطفولة. يجب التأكيد هنا على أن وجود الأب بحد ذاته يعد «شرطاً لازماً ولكن غير كاف»، لأن ما نعنيه بالوجود هو ذلك الانخراط الواقعي والهادف في حياة الأطفال، هو لا شك أبعد من تأمين متطلبات الحياة وأقرب إلى المشاركة الفعالة والنموذج الداعم، لاسيّما في أزمنة الرعب المهددة للحياة. لم يقف البعض عند «الآثار الفردية» للغياب الجمعي للآباء، بل ذهب كثير منهم لاعتبار الظاهرة مؤشرات خطيرة على ضعف مجتمع ما، قد ينذر بتطور الوضع إلى التشبث بمثال أبوي دكتاتوي جديد، وما مفهوم (vaterlose Gesellschaft) «مجتمع بلا أب» الذي وُصِف به المجتمع الألماني في الفترة التي سبقت صعود هتلر وهذياناته إلا مثالا ساطعا على ما يقال. وهذا مبحث آخر لا يسعنا التطرق له هنا.

أطفال بين الواقع والوهم!

كباقي الخبرات الحياتية يتم تكوين صورة الأب عبر معبّرين اثنين، يستند الأول على الفترة التي يقضيها الطفل في وجود الأب والثانية على ما يتم تناقله من المحيط والأم بالدرجة الأولى حول ذلك الأب «المتوفى» أو «الغائب» قسرياً لسبب أو لآخر. فأولئك الأطفال الذين فقدوا آبائهم خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر سوف يحتفظون بصور «شبحية» عن آبائهم وسيعتمدون بدرجة عالية على المرويات والحكايات في تكوين الصورة الذهنية عن الغائبين. بينما يحتفظ الأطفال اللذين فقدوا آبائهم خلال العمر من 4 إلى 10 سنوات بخبرات وذكريات لا بأس بها، مع الإشارة إلى أن الفترة العمرية من 8 إلى 12 سنوات تعتبر الأكثر ثراءً من حيث القدرة على الاحتفاظ بالذكريات «الشخصية» بشكل واع وصاف، وبتلوينات عاطفية «واقعية» تتناسب مع الأحداث المعاشة إلى حد كبير. من المرجح بأن «الفراغات» المعلوماتية في الذاكرة، إن صحّ التعبير، سواءً كانت معرفية أم عاطفية يتم رفدها وإكمالها بما تجود به «الأم» تحديداً والمحيط الإجتماعي بشكل أشمل. ما يلاحظ في حالات غياب الأب في أزمنة الصراعات السياسية (مثل الاختفاء القسري أو الاعتقال المبهم، أو الاختطاف) أنه ومع مرور الوقت تتخذ صورة الأب في مخيّلة أطفالهم أبعاداً جديدة يتم فيها إسباغ صفات الكمال والبطولة والسّمو، وبدرجات متفاوتة تبتعد أو تقترب من الواقع أو من الصورة الحقيقية. هنا تلعب عوامل عدّة في تشكيل هذه الصور، لعلّ علاقة الأم بالأب من جهة وسبب أو طريقة غياب الأب من جهة أخرى، من أكثرها تأثيراً في تجذير وترسيخ صورة معينة وأحادية للأب في مخيلة أطفاله ووجدانهم. هنا نجد بأن صورة الأب تتحول إلى «مثال» متعال كامل الأوصاف، مبتعدة عن صورة الشخص العادي ذو الجوانب الإنسانية المتعددة بضعفها وقوتها. ففي حالات الغياب «غير مؤكد العودة» مثل حالات السجن والإعتقال الطويل والإختفاء القسري يكون هناك محاولة من الأم أو المحيط لترميم الغياب المؤلم ذاته وتعويض قسوته لدى الأطفال. المفاجأة «غير السارة» تكمن على الأغلب عند العودة إن حدثت. هنا يجد الأطفال أنفسهم أمام رجال آخرين يبتعدون بدرجة كبيرة عن الصور التي «تم نحتها» في عقولهم عن آبائهم. يجدون أنفسهم أمام «آباء» ليسوا أبطالا ولا خوارق، آباء عاديين، مهزومين، يلفّهم الضعف والهوان والصمت أيضاً. عودة الآباء من ظروف الإعتقال والاختفاء الطويل خاصة غالبا ما تكون مصحوبة بالاضطرابات العميقة والأمراض الجسدية المزمنة. وبسبب ظروف الغياب القاسية يكون الآباء ضحايا رضوض وصدمات نفسية لا يتم التصريح بها ولا يمكن الحديث عنها لأسباب مختلفة. على الجهة الأخرى يكون لدينا أطفال ومراهقون بولغ في تصوير آبائهم بشكل لا يتوافق مع الواقع ومع صوّرهم الحقيقية ككائنات إنسانية، وهنا يرجح أيضاً أن تكون النتيجة رضوض وصدمات نفسية جدّية قد تلحق بالأبناء الأطفال أو اليافعين.

عندها تكتمل المفارقة القاسية: أبناء مصدومون يلتقون بآباء مصدومين!

سوريا اليتيمة!

بعد مرور سنتين من عمر الثورة السورية بات جليّاً حجم المأساة التي خلّفها نظام «الإرهاب الشامل» في حربه الضروس سعياً لإعادة المنتفضين السوريين إلى بيت الطاعة المرعب، الذي أسس له الطاغية الأب. مدن مدمّرة، بلدات وأحياء كاملة سويت بالأرض. آلاف القتلى والجرحى، مئات الألوف من المشردين وملايين من اللاجئين داخل وخارج أسوار سوريا الأسد المتداعية. لو دققنا قليلا في تداعيات هذه المأساة لوجدنا بأن الوضع مقبل على ظاهرة «أطفال بلا آباء» بشكل أو بآخر، خاصّة لو تأملنا أعداد الشهداء الكبير الذي من المحتمل أن يشكّل الآباء منهم نسبة لا بأس بها (نقدرها بثلث الحالات)، كذلك أعداد الآباء المحتملة ضمن آلاف المعتقلين والمختطفين والمغيبين والمختفين قسرياً. بالإضافة إلى نسبة أخرى من الآباء الذين اضطروا لترك عائلاتهم وأطفالهم والالتحاق بالكتائب المقاتلة في صفوف الثورة. كل هذه الحقائق يجعلنا نخشى وجود نسبة كبيرة من الأطفال في سوريا تنشأ وستنشأ في غياب الأب، سواء كان هذا الغياب دائما (في حالات الموت المحقق) أو مؤقتاً (في حالات الاعتقال والاختفاء). تركيزنا على ضحايا النظام المباشرين يجب أن لا يجعلنا نغفل عن ضحاياه الغير مباشرين، حتى وإن كانوا قتلة ومجرمين. منذ فترة باتت ضربات الثوار من القوة بحيث تعين على أفراد ومجموعات من الجنود والشبيحة، نظامية وغير نظامية، أن يدفعوا ثمن وقوفهم مع الطاغية وأن يكونوا ضمن القتلى، وربما المفقودين. من المنطقي القول بأن نسبة من هؤلاء هم آباء أيضاً، تركوا عائلاتهم وأطفالهم في سبيل «هذيانات» الدكتاتور الطائفي العنيف. هنا نحن أمام مشهد يكمل المأساة المجتمعية التي ألحقت بالمجتمع السوري بكل مكوناته، حتى وإن كان للمنتفضين الثائرين النصيب الأكبر من هذه المأساة التي يرجح أن تمتد لفترة غير قصيرة لاحقة. يبدو أن الثورة السورية اليتيمة قد حملت معها جانباً آخر من اليتم: أطفال بلا آباء!

وماذا بعد!

ليس الهدف من هذه المادة إشاعة اليأس والخيبة، كذلك لا نطمح إلى التهويل والتركيز على أبعاد محددة من المأساة السورية وإغفال أبعاد أخرى (معاناة النساء الأمهات والأرامل مثلا). انطلاقا من دعمنا المبدئي لثورة الشعب السوري العظيمة علينا أيضا التدليل على تلك المواطن التي غالباً ما يتم تجاهلها، ولو مؤقتاً، في غمرة الصراع الدامي مع نظام تدميري شامل، لا يلتزم بأية قواعد قانونية، أخلاقية أو وطنية. القاعدة الذهبية تذهب إلى أن التشخيص بداية «لا بأس بها» على طريق الحل لأية مشكلة كانت. نحن أمام معضلة تطال «جيلاً» كاملاً، كُتِب عليه أن لا يكون شاهداً على هذا الدّمار والخراب الروحي والمجتمعي فقط، بل أن يكون أبرز ضحاياه أيضاً. أولئك «الأطفال بلا آباء» هم أيضا شهودٌ علينا نحن الكبار على ما سنفعل من أجلهم حتى نخفف مأساتهم ونعوّض ذلك الغياب المرير، ولهذا وقفة أخرى.

والسلام عليكم