الثورة السورية قد وضعت معاني جديدة لأشياء عديدة كان لها معنى ثابت وواضح في وعي معظم السوريين، ومن هذه الأشياء «العلم السوري»، حيث أصبح كل علم –علم الاستقلال وعلم الجمهورية العربية المتحدة– يعبّر عن ويمثل طرف في الصراع الذي يدور في سوريا اليوم، وهذا الفرز للمعنى الجديد الذي أفرزته الثورة السورية على العلمين قد يستند على عدة مفارقات برأيي، والأمس القريب قد أضاف مفارقة جديدة إلى جانب المفارقتين المبكرتين، تصنف كالآتي:
المفارقة الرمزية – السيكولوجية
في الأمس القريب بدأ موالون للنظام بنشر حملة تضمنت صور وشعارات عنوانها «سوريا عيونها خضراء»، حيث هنا بدأت مرحلة جديدة في الصراع المستقل عن كل شيء حول العلم، وأيّهما شرعي ويمثّل الدولة السورية بعد ما أن وضع على مقعد سوريا في الجامعة العربية علم الاستقلال\الثورة السوري.
وقد تكون من المصادفة أن يُجمع موالو النظام على أن عيني سوريا خضراوان، كلون يرمز إلى الأمل وقوته، وقد يكون أيضاً دلالة على نفسيتهم في حين ما زالوا يقنعون أنفسهم ويريدون أن يقنعوا الآخرين بأن «سوريا بخير» في فترة أن سوريا الخير والعطاء تحتاج إلى من يعطيها الآن لكي تخرج من أزمتها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، أن يجمع معارضو النظام كردٍّ على أن عيون سوريا حمراء –رغم السخرية التي تحمله تفاصيل الرد– كلون يرمز إلى الدماء التي تنزف من الجسد السوري والعنف الذي يتعرض له، وقد تكون لها أيضاً دلالة نفسية حيث أن معارضي النظام والمدنيين هم من يتعرض للخطر دائماً، وهم من يمثل «دور الضحية» في مسرح الدم والعنف السوري.
المفارقة السوسيولوجية
عندما نشأ «الجيش الحر» كنتيجة للثورة السورية، بدأ بعض السوريين يشعرون بأن النظام لا يمثلهم أبداً، لا هو ولا أي رمز قد مثّله على مرّ العقود الأربعة التي تربّع فيها على سدة الحكم، وأصبحت هناك ضرورة لا شعورية ربما للقطيعة التامة مع النظام.
ولربما الصراع الصفوي–العثماني يشبه ما يحدث في مسألة الخلاف والاختلاف على العلم، ولكن ليس بشكل كامل. فعندما نشأ الخلاف بين الصفويين والعثمانيين، بدأ الصفويون يرجعون أكثر إلى الهوية القومية الفارسية\الإيرانية، وإلى التقاليد والثقافة الفارسية\الإيرانية، ولرغبتهم بإنشاء إمبراطوريتهم المستقلة الخاصة بهم كسبب رئيسي، وإصرار إسماعيل الأول على خلق هذه الهوية والخاصية المختلفة عن العثمانيين، ولإقامة القطيعة التامة معهم وبناء الجدار الفاصل بين الدولتين، اتخذ الدين الشيعي الإثنا عشري ديناً للدولة ومؤسساتها، مستغلاً الخلاف الشيعي–السني، فكانت القطيعة بين «الصفويين الشيعة» و«العثمانيين السنة».
هنا قد نستنتج أن فكرة حمل علم الاستقلال السوري جاء بهدف القطيعة والتميز عن النظام، قبل أن تأتي المبرّرات الأخرى كتشبيه النظام بالإستعمار، أو دلالة العلم تاريخياً على وحدة سوريا بعد ما أن تم رفض أعلام الدويلات التي كان يرفعها الاستعمار الفرنسي. بالإضافة إلى أن علم الجمهورية العربية المتحدة، الذي أقره حافظ الأسد كعلم للجمهورية العربية السورية من منطلق الإيمان والتشبث بالوحدة العربية، تشوّه وأصبح يمثّل حافظ الأسد ونظامه فقط، لاغير.
المفارقة التاريخية
إن عدنا إلى التاريخ نرى أن العلم السوري الحالي، «العيون الخضراء»، لا يمثّل سوريا فقط وليس له أي خاصية وطنية، حيث وضعه حافظ الأسد كما ذكرنا سابقاً تمسكاً «بالوحدة العربية» بعد مرور سوريا بجولة تغيير لعلمها بسبب مشاريع الوحدة العربية التي فشلت، ومرور المنطقة بحملة تقاسم «لأعلام الوحدات العربية» بين الدول التي شاركت بها. حيث أبقى العراق منذ العام 1963 على علم الوحدة بين سوريا ومصر والعراق، باستثناء عبارة «الله أكبر» التي أضيفت عام 1991 فترة رئاسة صدام حسين، وأبقت مصر منذ العام 1972 على علم «إتحاد الجمهوريات العربية المتحدة» مع تغيير رمزي حيث وضع العقاب بدلاً من الصقر.
ولكن الموالين للنظام بدؤوا حملة تلاعب بالتاريخ وبحقيقة العلم السوري الذي يحمله معارضو النظام بأنه «علم إنتداب»، وتأويل رمزية نجومه الثلاث بأنها ترمز للدويلات الثلاث الطائفية التي كان يسعى الاستعمار الفرنسي لخلقها، لينافسها التأويل الآخر للنجوم بين أنها تمثل العلياء والبطولة ودماء الشهداء وبين أنها تمثل رموز الثورة السورية الكبرى الثلاث (سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من المعقول أن وطنيين عملوا لأجل سوريا ويملكون مستوىً عالياً من الوعي الوطني من أمثال الخوري والقوتلي أن يُبقوا على علم تقسيمي استعماري فوق رؤوسهم وصدورهم لفترة استمرت حول الثلاثة عقود؟
أما أخيراً، ففي الآونة الأخيرة نشأت ظاهرة كمفارقة دخيلة أثارت الجدل حول بعض الجماعات والأفراد الذين بدؤوا ينادون بأن سوريا ليس لها علم إلا علم الخلافة والأمة الإسلامية، المتمثّل باللون الأسود تتوسّطه الشهادتان، وبنبذ الأعلام «الوطنية العلمانية» التي لا تمت للإسلام بصلة، وبدأ رفع العلم فوق بعض المناطق والقرى والمؤسسات الوليدة في الشمال السوري مثل «الهيئة الشرعية»، وعلى ألبسة بعض المقاتلين ضد النظام. حيث دخل هذا العلم كمصارع وممثل جديد في ساحة الصراع السورية بطريقة واضحة.
هذا كله برأيي قد يؤدي في المستقبل إلى نشوء أزمة بين السوريين ووحدتهم، تفضي إلى علم وطني جديد توافقي يمثل كل السوريين، يُرسم من وحي سوريا 2011 وما بعد، كمرحلة جديدة في التاريخ السوري، بعد ما أن تلونت عيون سوريا بالأخضر والأحمر وتغطت بالأسود.