«كل شيء يمكن ترميمه وإعادة بنائه بعد سقوط النظام؛ المهم أن يسقط أولاً»، مع استمرار الحرب البربرية التي يشنّها النظام القائم في سوريا على كامل فئات شعبه (دون استثناء) ووضوح الرغبة الدولية في استنقاع الوضع على ما هو عليه، أو على الأقل عدم الرغبة في تغيير موازين القوى أو إيجاد مخارج سياسية، تصبح المقولة السابقة متناقضة في متنها، إذ أن القسم الثاني يثبت صحته يوماً بعد يوم، وأكثر فأكثر، إلا أن القسم الأول يغفل متغير الزمن الديناميكي الذي يجعل أضرار الحرب الطاحنة على الإنسان السوري غير ردودة، على الأقل في المستقبل القريب.

لم يعد خافياً على أحد الكارثة الوطنية التي تترصد بالسوريين، ألا وهي كارثة التعليم. أن نقدم أرقاماً ومعطيات كمّية فذلك شأن منظمات مختصة قيّمته وأعطت أرقاماً وإحصائيات. في تقارير حديثة لمنظمة اليونيسف قُدّرت أعداد المدارس المهدّمة بـ2400 مدرسة، وأعداد المدارس المستخدمة كملاجئ بـ1500 مدرسة، هذا دون أن تذكر تقارير المنظمة المدارس المستخدمة كمراكز اعتقال وتعذيب ونقاط عسكرية للجيش والشبيحة. 6% فقط من أطفال حلب يتابعون دروسهم في المدارس! إن وجدت المدارس، لا يستطيع البعض الوصول إليها بسبب تردي الوضع الأمني ووجود القنّاصة وزيادة حالات الخطف. هل علينا أن نزيد ونقول أن الإناث يدفعن ثمناً مضاعفاً في هذه الكارثة؟ بعض تنسيقيات ريف دمشق، حين تحذّر من الخطف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تكاد تنهر الأهالي بسبب إرسال بناتهم إلى المدارس. الأضرار في التعليم لا يمكن إصلاحها بمفعول رجعي، فمن كانت فئته العمرية بسنّ دخول المدرسة قبل سنتين لا يمكن أن يندمج مرة أخرى بالمدرسة لاستدراك ما فاته. ينبغي التخطيط لبنى خاصة بهذه الشريحة المتضررة، شبيهة ببنى محو الأمية.

ولكنّي لست هاوية أرقام ولا أريد أن أطيل بالتفجع، فالكل قادر على تقييم حجم هذه المشكلة، والأمثلة التاريخية القريبة والبعيدة تظهر أن ما يجعل من الدولة دولة فاشلة في إحدى المقامات الأولى هو تسرب جيل كامل من المدارس لفترة مديدة، وقد تكون الصومال المثال الأقرب لنا جميعاً. أريد فقط أن أرصد ما تكون عليه الحال عند الدرجة صفر، حين يُجرد المجتمع من كل مقوّماته وأدواته… منهك، مستنفذ، مكتئب، وعليه في الوقت عينه أن يشرع في صنع المعنى، في التعليم تحديداً.

المشكلة الأولى التي تواجه من تنبه ونشط للتعليم الإغاثي هي الفوارق الحادة في المصادر البشرية والمادية بين منطقة وأخرى، والتي من شأنها أن تعيد إنتاج التقسيم الخالد في مجتمعنا بين «الوردة الدمشقية» (أو المدينية على العموم) من جهة و«الصحراء السورية» من جهة أخرى. البلدات والمدن الصغيرة النائية كانت تعاني قبلاً من قلة الكوادر التعليمية في المراحل التأسيسية، وفي حالة النزوح تكون الكوادر التعليمية أقدر على التنقل وبالتالي ستكون أولى التاركين للمنطقة المنكوبة، ولن يغامر الكثيرون بعد ذلك لدخول المناطق المنكوبة والقيام بهذه المهمة. وحين يضطلع المجتمع المحلي بمهمة تعليم أبناءه لوحده، على الأقل فيما يخص المعارف والمهارات الأساسية، تتضح مرة أخرى التمايزات ومن هو قادر على القيام بذلك وغير مستلب في عملية البحث عن الخبز اليومي ومن هو غير قادر على ذلك.

في غياب مؤسسة وطنية ما، تسدّ فراغ الدولة المستقيلة وتُجمع على مبادىْ قيّمية للمضامين التعليمية، تصبح العملية التعليمية الإسعافية شديدة الخطورة. منهاج التربية القومية العقيم والمدجِّن ليس أكبر الصعوبات، التعديل هنا شديد البساطة: يُرمى في القمامة دون أن نحكّ رؤوسنا كثيراً لمعرفة ما سنفعله بتلك المناهج البعثية؛ ومناهج التاريخ يُمكن أن تُحيّد بانتظار مرحلة أهدأ توضع فيها مضامين مدروسة وتخضع لإجماعات وطنية حول بعض المسائل. ولكن أن تُستبدل معارف كونية إنسانية أساسية بنوع آخر من التعليم الديني الصرف، بحجة أن المناهج السابقة برمّتها هي مناهج بعثية أسدية، فذلك يبدو، والله أعلم، مثيراً للتوجس، خاصةً أن كل المعطيات تُنبئ بطول الأزمة وبطول غياب المؤسسات الوطنية الجامعة. المتابعون للوضع الإغاثي في ريف دمشق يوردون أن المناهج الدينية السعودية تدّرس في بعض المناطق المنكوبة المنقطعة عن التعليم منذ فترة ، الإناث يُدّرسون ضمن هذه المنظومة مع نيّة استبعادهم من التعليم بعد سن التاسعة. صحيفة الطالب التي تقوّم وتقيس معارف التلميذ تتضمن: القرآن، التجويد، الحديث، السيرة… الخ، وأخيراً توضع اللغة العربية والرياضيات معاً في خانة واحدة. وعبثاً يحاول المهتمون إقناع الجهات القائمة هناك بأن كتب الصفوف الأولى «الوطنية» معقولة مرحلياً، إن أُزيلت منها صورة القائد الخالد والإطناب في منجزاته التصحيحية، بانتظار رؤية مستقبلية أفضل.

قد نذهب في خيالاتنا إلى حد تصور إمكانية وجود لجنة أهالي تشارك في تصوراتها لما ينبغي أن يتضمن تعليم أبنائهم، وأن تطالب مثلاً بإضافة محتويات لها علاقة بالسلم الأهلي والتربية المدنية المواطنية والقيم الجديدة التي فقد من أجلها أكثر من مئة ألف سوري حياتهم حتى الآن. هذا شطط في الطوباوية والرومانسية، فالآباء والأمهات المنهكون والمستنفذون سعيدون بأي بنية توحي بانتظام ما، كالمدرسة مثلاً، ويرحبون بأي هيئة تقدم مستلزمات هذه البنية وتؤطّر حياة الأطفال وتمنعهم من الضياع والانجرار لحمل السلاح؛ والتعليم الديني يفي بهذا الغرض مرة أخرى. صاحب المال والأدوات والإمكانيات يفرض فوراً سطوته الرمزية وهناك من يتلقفها لأنه ضعيف. قد تكون منظمات دولية، أو هيئات تابعة لدول مانحة، أو هيئات دينية لها «أسلوبها» في التعليم وتريد تعميمه…. الخ.

قبل بدء الانتفاضة السورية، كان الوقت متاحاً لينتقد كل منّا المغالطات المفاهيمية هنا، والأخطاء اللغوية هناك، والمخاتلة التاريخية هنا وهناك في مناهج أبنائنا. كنّا نسترجع فخورين ما يقوله إلياس مرقص في نقده للمناهج السورية التي لا تميّز للطالب الفرق بين «الشكل» و«الصورة»؛ اليوم نجد أنفسنا في معصرة، لا نلوي على شيء: وَيلنا حياة أولادنا إن ذهبوا للمدارس وويلنا إن لم يذهبوا، لا نريد لا «شكل» ولا «صورة»، نريدهم أن يقرأوا ويُجروا عملية حسابية بكل بساطة، ودون إلحاق لازمة دينية بعملية الضرب.

يُخشى على سوريا من المتشددين والجهاديين وأصحاب الأجندات وموقّعي عقود إعادة الإعمار، غير المكترثين بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعب السوري، ومن المنظمات غير الحكومية المتنوعة التي تعود مرة أخرى لفرض أساليبها في كل الحيثيات. ولكن التعليم رهان وطني السكوت عنه وتأجيله أمر خطير ولا يجوز إغفاله.