لم يوفّق محمد الرميحي في نقده الذي كتبه لصحيفة الشرق الأوسط حول كلمة السيد معاذ الخطيب في القمّة العربية الأخيرة. انتقد الرميحي في مقالته التي حملت عنوان «قراءة بريئة في خطب القمّة» ما أسماه حماسة الخطيب حين طالب أعضاء القمة بإطلاق سراح المعتقلين في كل البلاد العربية، وشبّه الرميحي نصيحة الخطيب (أو مطالبته) بالنصائح الفوقية لبشار الأسد التي قدّمها للرؤساء والملوك في قمّة بيروت العام 2002!.
في الواقع هذه اللفتة الخاطئة من الرميحي تشير إلى أمرين، أحدهما مفهومٌ سببه وهو خاضع للنقاش، أما الآخر فهو غريبٌ ومستهجن من شخص متابع ويُفترض أن يتمتّع بقدر من الموضوعية. أما الأمر المستهجن فهو المقارنة بين موقف الخطيب وموقف الأسد، فإن كانت نصائح الأخير فوقية وفارغة بحكم أنها لا تستند إلى رصيد شخصي أخلاقي أو ثوري، أو حتى إلى قاعدة شعبية حقيقية حملته إلى كرسي الحكم (اللهم إلا القاعدة التي رضيت مكرهة بتعديل الدستور!)، فإن الأول هو رئيس إئتلاف يمثّل بحدّه الأدنى جزءاً لا يستهان به من ثورة عمرها تجاوز السنتين، قامت على أرضية مبادئ إنسانية لا يستهان بها برغم كل التجاوزات التي حدثت فيها بعد ذلك. أما بالنسبة لشخص الخطيب نفسه فهو رجل إسلامي معتدل في فكره وسلوكه وصاحب تجربة ورصيد أخلاقي يشهد له بهما مختلف أطياف الوطن، وهو في الواقع من مدرسة الثورة نفسها، أضاف لها وأضافت له، وبالتالي فإنه حين ينصح القادة العرب بهذه النصيحة بالذات فلأنه يعلم تماماً كيف قامت الثورات، وكيف أنه من العسير التحكّم بمجرياتها إن قامت، وبالتالي فإن نصيحته لا تعدّ خروجاً عن الأعراف السياسية، بل هي في صلب السياسة، أوليست السياسة من جملة أهدافها أن تحفظ أمن البلاد وتحقق مصلحة العباد رؤساء ومواطنين؟! وهل الدعوة لإطلاق سراح المظلومين يمكن فصلها عن هذا السياق؟
أما الأمر الأول الذي يقوله الرميحي بدون أن ينطق به، فهو يدور في فلك الفكرة المسبقة والنمطيّة عن السياسة والسياسي. تلتقي هذه الفكرة مع انتقادات مختلفة وُجّهت للخطيب من قبل أطراف عديدة في المعارضة تأخذ عليه جهله في مجال السياسة. اللافت في الأمر أن الانتقاد لا يعتمد على كون الرجل غير ملمّ بعلوم السياسة، فمنتقدوه في عمومهم يفتقدون إلى هذا النوع من التخصص، ولا يختلفون عن الخطيب سوى في التلوّن حسب مقتضيات السياسة دون وضوح المنهج والهدف والاستراتيجيّة. لا نختلف على أن الخطيب ليس سياسياً محترفاً، وكذلك هم غالبية سياسيي المعارضة، سواءً في الإئتلاف أو خارجه، والرجل لم يدّعِ عكس ذلك، وليس كلامي هنا بصدد الدفاع عن «أخطائه» ومبادراته لغير المدروسة بشكل جيد، وهو يعترف بأخطائه عادة ويتراجع عنها. ما أنا بصدد الحديث عنه، وربما الدفاع عنه ما أمكن، هو ما صدر عن الرجل من إقحامٍ للأخلاق في مجال السياسة في مواضع عديدة، حتى وإن كانت محاولاته غير مدروسة بعناية، أو حتى ارتجالية في أغلب أحيانها. إن الواقع المحبط للمعارضة السورية لا يتجلّى فقط في فشلها في اجتماعها حول ثورة عادلة وتقديم الدعم السياسي الكامل لها، ولا في كونها فشلت في توحيد الموقف الدولي وحشد التأييد اللازم، بل في كونها لم تحمل خطاباً أخلاقيّاً يسهم في الحفاظ على ما بدأت به الثورة، أو يبني عليه ليحوّل خطابها (ما أمكن) إلى رسالة! لا غرابة في أن يكون للرجل هذا الحضور الشعبي والمصداقية بين الناس، الذين لم تقدّم لهم السياسة الميكافيللية شيئاً ملموساً على أي صعيد، في حين كان كلام الخطيب (بأخطائه) أقرب إلى قلوبهم إنسانياً، ولفطرتهم أخلاقياً. ليس صحيحاً أن سبب حضوره هذا نابع من كونه محسوباً على الإسلاميين، فالمعارضة الإسلامية بعمومها فشلت في تقديم خطاب موازٍ لما قدمه الرجل، بل، زيادة على ذلك، خسرت الكثير من مصداقيّتها كونها اعتمدت الميكافيللية وليس الأخلاقية في النهج السياسي، فكثير من الإسلاميين في المعارضة لن تستطيع أن تتأكّد من انتماءاتهم وتحالفاتهم وارتباطاتهم الخارجيّة، بل لن تستطيع أن تصل إلى الصورة الحقيقية لآلية عملهم على الأرض، في ظل الشبهات الكثيرة التي تحوم حول نشاطاتهم في الثورة. ضمن هذه الأجواء للقارئ أن يتفهّم سبب عجز هذا الطيف الإسلامي السياسي عن أداء دور أخلاقي مقنع في السياسة!
لا شكّ أن الارتجالات الأخلاقية للخطيب أضافت شيئاً قيّماً للثورة حتى وإن لم يظهر لها تأثير ملموس ومباشر، بينما لم تفلح ميكافيللية كثير من الإسلاميين في تقديم شيء، لا على هذا الصعيد الأخلاقي (بالطبع) ولا على صعيد السياسة!
أمام الخطيب اليوم فرصة كبيرة لأن يجسّد نموذجاً جيداً لتلاقي الدين مع السياسة، وهو بدأ فعليّاً بإقحام خطاب الرسالة في لعبة السياسة وهو ما يسمى «تديين السياسة»، في مقابل ما أعارضه كغيري من تسييس الدين أو تسخيره لمصلحة السياسة، سياسة الجماعات أو الدول المستفيدة من هذا التسييس. مهمته هذه ليست سهلة على الإطلاق، والعقبات لن تكون فقط من صنع أولئك الذين كفروا بالدين فحسب، بل بشكل أساسي من قبل أولئك الإسلاميين الذين قالوا، بسلوكهم، أن لا أخلاق في السياسة!