لا يخطئ قياديو الإخوان المسلمين عندما يجدون في الهجمة الاخيرة عليهم الكثير من التجني، لكنهم في الوقت عينه لا يُقرّون بأي مسؤولية لهم في استعداء الرأي العام المؤيد للثورة، والذي بات على اختلاف منابته الفكرية قابلاً لكل مايقال عن الجماعة. وعلى المقلب الاخر، فان المجاهرين بعدائهم للاخوان من مثقفين وسياسيين يتلمسون مشكلة حقيقية عند حديثهم عن «هيمنة إخوانية» على الجسم السياسي الرئيس للثورة، لكنهم لايفصحون ايضاً عن مسؤوليتهم في التأسيس لتلك المشكلة، ولا عن المدارات السياسية المحركة لنقدهم المتجدد. وبين هذا الطرف وذاك، تبدو النتيجة كمّاً هائلاً من الأساطير، في زمن ثوري يفترض المكاشفة والمسائلة. وبدلاً من التأسيس لتقاليد ديمقراطية تنظّم الخلاف بين القوى السياسية المتنافسة، بتنا في خضم سجالات تخوينية لا تحمل أبعاداً اقليمية فقط، وإنما تستجلب أيضاً دخول قوى عسكرية من الجيش الحر على خط البيانات والبيانات المضادة.

وقد تكون أبسط الدلائل وأعمقها على بؤس السجال السياسي الحالي، افتقاره الى حدّ أدنى من التوافق البسيط على الحقائق – من مثل: من هم بالفعل اعضاء جماعة الاخوان المسلمين ومن هم ممثلوها في الائتلاف الوطني! فبين الرقم الإخواني الخجول، والتقديرات المعادية المهولة، تكمن في الحقيقة صورة أكثر تعقيدأً لطيف إسلامي واسع لا يزال حتى اللحظة غامض الملامح والتقاطعات. من هؤلاء يبدو البعض، كأحمد رمضان، أشبه بفصيل رديف للناطقين رسمياً باسم الإخوان المسلمين، في حين يظهر آخرون، كمجموعة عماد الدين الرشيد، كمنافس حقيقي للجماعة. وفي حين يَشيع عن هذين الأخيرين تمتُعُهم بعلاقات مميزة مع أطراف إقليمية وكتائب مسلحة بعينها، يبدو البعض الاخر، من أمثال نجيب الغضبان أو أسامة القاضي، كأكاديمين مستقليين، يزاوجون في فكرهم بين «الإسلام» و«الليبرالية». وأخيراً، ومع تشكيل هيئة الاتئلاف الوطني، برز الى الواجهة اسم رجل الاعمال مصطفى الصباغ، ومجموعته من ممثلي المجالس المحلية من أصحاب الهوى الاسلامي أيضاً، إلا أن علاقتهم بالإخوان تبقى حتى الآن مجهولة تماماُ.

وفي الحقيقة فإن القاسم المشترك الأكبر بين جميع هؤلاء ليس العلاقة مع الرعاة الاقليميين، أو طبيعة التوجه الاسلامي، أو حتى البحث الحثيث عن نفوذ ما ضمن الكتائب والثوار… (فكل ذلك يبدو متفاوتاً، لا بين مجموعة وأخرى فحسب، بل بين شهر وآخر في المجموعة نفسها، وحسب متغييرات اقليمية وميدانية كثيرة). لا، القاسم المشترك الأكبر هو نوع من «غنوصية» سياسية، ترى في التوافقات الحزبية الضيقة والصفقات الجانبية بديلاً عن الخطاب العلني الواضح والمفصل، وتبدو لمن هم خارج «الكواليس» –بل حتى لبعض من هم داخلها– مزيجاً من التجاهل والصَّلَف والتآمر. هذا النوع من السياسة طبيعي، وبلا شك، في برلمان منتخب معروف الكتل، أو حزب واحد محدّد. أما في جسم سياسي تمثيلي ولكن غير منتخب، وفي زمن تتفجر فيه الرغبة بالمعرفة والمساءلة ونقد السلطة، فهو استهتار واستجلاب لردّات فعل، كالتي تلت اتتخاب السيد غسان هيتو كرئيس للحكومة الانتقالية. غموض إسلاميي المجلس والائتلاف بعلاقاتهم بات اليوم عبئاً عليهم لا مكسباً لهم، وسياسة الأروقة، التي امتهونها منذ مؤتمرات المعارضة الأولى، باتت في نظر الكثيرين عنوانأ للانتهازية، لا للحرفية.

لكن الأسوأ من غموض الإسلاميين وكواليسهم، هو تلك الطهرانية الزائفة التي يُظهرها أعداؤهم اليوم. ففي وجه السردية القائلة بـ«انقلاب» يقوده الإخوان، يجدر الحديث أيضاً عن «انكفاء» جوهري قادته أولاً القوى المنضوية تحت هيئة التنسيق الوطنية، منذ رفضها إقرار اتفاق الدوحة الأول صيف ٢٠١١، وشارك به فيما بعد رهط قليل من التجمعات السياسية الأخرى. هذا الانكفاء يتجلى اليوم في خطاب من نوع «لقد قلنا لكم ذلك». لقد قيل لنا مثلاً إن التدخل العسكري الأجنبي لن يأتي، لكن الحقيقة أن ما قيل كان أن التدخل «لا يجب» أن يأتي، وأن على الجميع رفضه ليصبح العمل المشترك ممكناً. وقيل لنا إن المجلس الوطني سيكون وكراً للإسلاميين والمتسلقين، لكن من رفض الانضمام إلى المجلس أولاً وإسماع صوته من خلاله؟ وقيل لنا إن الإخوان وغيرهم سيحاولون التغلغل في صفوف الكتائب المسلحة، ولكن، أيضاً، من وضع نفسه في مواجهة الجيش الحر منذ البداية، فأقصى نفسه بنفسه؟ في الحقيقة، في مقابل غنوصية الاسلاميين وعملهم بعيداً عن الأضواء، يتحدث أعداؤهم كثيراً، ويقدمون تحليلات شيقة، لكنهم يُغفلون في حديثهم دورهم هم، كسياسيين لا كمراقبيين… فالمؤامرة الإخوانية مُعدّة منذ زمن ولايملكون هم إلا الكتابة عنها في الجرائد…

زيف الطهرانية الـanti-إخوانية هذه، يتبدى أيضاً من خلال إغفالها الحديث عن الكلفة السياسية الحقيقية للمواجهة الحالية مع الإخوان. ففي حين تحدث الكثيرون عن تنافس سعودي–قطري سبق انتخاب الحكومة المؤقتة وتلاها، فإن الصراع الأهم يبقى حول الرؤية الاميريكية، القائلة بضرورة حلّ سياسي قائم على حكومة انتقالية تجمع بين النظام والمعارضة. فهل هاجم أعداء الاخوان السيد هيتو لكونه مرتبطاً بالطيف الاسلامي آنف الذكر، أم لأن انتخابه يعرقل التوجه الاميريكي هذا؟ وهل لعموم السوريين أن يسمعوا من بعض قياديي معارضتهم شرحاً واضحاً لما يجري في دوائر السفير روبرت فورد، الذي أكد مؤخراً أن «التفاوض» هو السبيل الوحيد لإنهاء الازمة السورية؟ ربما عندها فقط تزول آخر الاساطير ويكون الرأي العام السوري قادراً على اتخاذ موقف واضح تجاه انقسامات المعارضة وتجاذباتها التي لا تنتهي.

لكن حتى ذلك الحين، ربما يجدر التذكير أولاً أن لا أمل لسوريا اليوم ألا في خوض معركتها مع البطش الأسدي حتى النهاية، وأن أي حل على حساب الكتائب المسلحة لن ينقذ البلاد بل سيدفعها نحو الهاوية. حتى تحسم الولايات المتحدة خيارها في هذا الاتجاه، لا بد لنا من الحفاظ على أصدقائنا الإقليمين، ومن ممارسة سياسة الموازنة الدقيقة بينهم. لن تكون هذه مهمة سهلة أو جميلة، وهي على الأغلب ستعني في مرحلة ما بعد الأسد حياة سياسية شبيهة بالنموذج اللبناني أو العراقي، حيث تأتي التعددية السياسية على حساب السيادة الوطنية والموقع الإقليمي. هذه كلفة الاستبداد الطويل والانقسام الأهلي، قبل أن تكون صنيعة السياسيين، وهي، على أية حال، أخفّ وطأةً على المدى الطويل من استمرار الطغيان. لكن مسؤولية السياسيين تبقى في الحفاظ على حدّ أدنى من الشفافية والوضوح في مساراتهم، فإما هذا، أو أن يلفظهم الرأي العام بحثاً عن زعيم واحد مخلص… قديم أو مستحدث.