«ربّما كان التأثير العاطفي» هو ما جعل براء الموسى يتوقّع الثورة: «وأظنّ بأنّ من يماثلني الرأي كان قليلاً جداً إن لم يكن نادراً… كنت أتطلّع للثورة بلهفة شديدة جداً». هذا الأمل بالثورة لم يكن له عميث الأثر على الكاتب بكر صدقي: «توقع؟ لا. أمل؟ نعم» يقول صدقي باختصار. انتعش الأمل بتطورات تونس والعدوى إلى مصر وليبيا، «لكن المخاوف كانت كبيرة، وتعقيدات الوضع السوري ماثلة للعيان». إذن، «أكذب إذا قلت إنني توقعت الثورة، وخاصة بالطريقة التي اندلعت بها والمسار المعقد الذي اتخذته لنفسها»، يقول صدقي. يُسهب الناشط خليل الحاج صالح في الحديث عن علاقته بالثورة. فالرغبة والحلم بالثورة «شوّه طفولتي ومراهقتي» بحسب ما يقول الحاج صالح، ويتابع: «رافقني لسنوات شعور، انتهى مع بداية الثورة، أنني كنت دائماً في الموقع والاتجاه الخاطئين لمسار الحياة الطبيعية داخل المجتمع السوري. لكن «التوقع شيء مختلف»، فالتوقعات العملية لم تبدأ بالنسبة له إلّا مع ثورة تونس، «وصور الحشود في المظاهرات والاعتصامات في الميادين سهلت تحول الأحلام إلى تصورات وآليات ممكنة للعمل».
تُبدي خولة دنيا أسفها لكونها لم تتوقع الثورة، رغم أنها كانت «متابعة بحسد شديد لما يجري في مصر وليبيا وتونس واليمن»… لكن الأسئلة كانت تطلّ: «كان شهر شباط من أكثر الأشهر متابعة لدرجة أنني كنت أتساءل، هل من المعقول أن يجري عندنا شيء مشابه لما نشاهده في تونس ومصر؟». أمّا الروائية روزا ياسين حسن، التي تشارك القول بأنّ تفاصيل ومآلات ما جرى كانت من ضمن توقّعاتها، فإنّ جزءاً من تمنيّاتها باشتعال الثورة كان، بحسب تعبيرها، «يكتنف على إيمان بأن تراكم عقود القمع سينفجر في وجه خالقه، كمارد سيندفع غاضباً نزقاً من قمقه». بالنسبة للكاتبة سمر يزبك، يبدو الموقف مجرداً من أي التباس. رغم أنّها كانت مؤمنة بـ«التغيير القادم عبر زمن بطيء وطويل»، تقول: «قبل محمد بوعزيزي لم أكن أتوقع الثورة. هذا أمر واضح بالنسبة لي، ولكن بعد ثورة تونس، كنت على يقين أن الشعب السوري سيثور». شرارة الثورة التي أشعلها البوعزيزي تبدو إذاً دافع الأمل لكثيرين، أمّا قبلها فبغياب «الحريات والقبضة الأمنية المشددة التي تحكم بها سوريا فإن فرصة اندلاع ثورة شعبية قبل الربيع العربي تكاد تكون معدومة»، بحسب الناشط غسان ياسين.
لكنّ حضور هذه الشخصيات اللافت في الثورة يثير فضولاً للسؤال: ماذا كنت تفعل وقت بدأت الثورة؟ ليس غريباً أن تكون إجابة براء الموسى من جنس توقّعاته: «لم أكن أفعل شيئاً سوى أنني كنت أحاول المستحيل كي تبدأ الثورة، كنت مستغرقا كلّياً لهذا الأمر: أولاً كنت أعيد ما تقطّع من تواصل مع ناشطين أعرفهم من أجل القيام بشيء ما يدفع للبداية؛ كذلك عزّزت تواصلي مع كلّ المهتمّين للأمر؛ ثالثاً، وهو الأهم، تواصلت مع مجموعة من الشبّان الجامعيين، وهم أوّل من قام بتوزيع منشورات بحلب تحفيزاً للالتحاق بركب الربيع من خلال التظاهر والاحتجاج. وكان أن اعتُقلت هذه المجموعة بالكامل، وحتّى المعدات المستخدمة في طباعة المنشورات احتُجزت أيضاً، وأصبحت أنا مطلوباً للأمن العسكري (الجهة التي اعتقلت تلك المجموعة)، ولذلك تخفّيت عن الأنظار لمدة 19 يوماً، اعتقلني الأمن العسكري بعد رصد مكالماتي الهاتفية، وبقيت شهراً واحداً في المعتقل. بعدها استأنفت الخروج إلى المظاهرات في حلب ودمشق إلى أن غدوت مطلوباً من جديد، واقتحم الأمن بيتنا للقبض عليّ أكثر من خمس مرات، وضيّق الخناق حولي إلى أن غادرت البلد». معاناة الملاحقة كانت بالنسبة لبكر صدقي سابقة على الثورة، فعدا عن كونه سجيناً سياسياً، فإنّه حين اندلعت الثورة «كنت منهمكاً إلى أذني في قضية اعتقال زوجتي (تهامة معروف) قبل عام على بداية الثورة، وأحمل مسؤولية طفليّ الصغيرين وحدي» بحسب صدقي، الذي يتابع: «وفي 16 آذار 2011 شاركت في مظاهرة أمام وزارة الداخلية، كانت من الأحداث المبكرة للسياق الثوري اللاحق. إلى حين خروج تهامة من السجن في نهاية أيار 2011، عشت بعيداً عن طفليَّ، احتياطاً لكي لا أتعرض للاعتقال. فبسبب تصريحات أدليت بها لوسائل الإعلام، بدءاً من آذار 2011، اتخذت احتياطاتي كي لا أتعرض للاعتقال. في السنة الأخيرة، بدءاً من نيسان 2012، عدت إلى حياتي الطبيعية في البيت، بعدما مرّ الزمن الكافي لأطمئن إلى أن أجهزة المخابرات لا تسعى ورائي. كان حي الأشرفية الذي أقطنه في مدينة حلب خارج الصراع حتى تشرين الثاني 2012. ثم جاء الحرس الجمهوري واتخذ من مشفى قريب من بيتي مقراً له وأقام الحواجز حوله. وظهرت على الجدران شعارات ’الأسد أو نحرق البلد‘ وأشباهه. ثم بدأت الجثث تظهر قرب بيتي، وقُتل صديقي أحمد الشيخ على يد الشبيحة. فآن أوان الهروب. لجأت إلى تركيا واستقررت حتى إشعار آخر في مدينة غازي عينتاب».
أما الحاج صالح فحضوره كناشط في الثورة متّصلٌ بما قبلها. يقول: «سيرتي كناشط سياسي سابقة على وقت بدء الثورة. لا توجد نقطة صفر. وقتي كان دائماً موزعاً بين العمل المهني في التدريس والكتابة والترجمة والعمل العام. نشطتُ قبلها في جمعية حقوق الإنسان في سورية) وفي (حزب الشعب الديمقراطي السوري) وفي (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي… الأجواء التي حركتها ثورة تونس شجعتني على إلغاء حاجز هش بين العمل العام والمهنة. بدأت أنشط في غرف الصف. ومع أولى التحركات في دمشق، تظاهرة «الحريقة» والاعتصام أمام وزارة الداخلية، كنّا في الرقة نحاول تجميع أنفسنا من أجل الانطلاق. كان ثمة محاولات لتنسيق أعمال احتجاجية، أطرافها ناشطون وأطراف سياسية معروفة وتقليدية. لم ننجح في تنسيق الجهود وتنظيم مظاهرة في الرقة حتى تاريخ 25 آذار/مارس 2011، وقتها كانت درعا قد أعلنت الثورة وبدا أن كل ما يجري في باقي سوريا «فزعة». خولة دنيا صادف أن اضطرت لترقب بأمل من بعيد. تحكي دنيا: «في حينها كنت في عمل في الإمارات العربية المتحدة، عندما سمعت بالدعوة للنزول أمام وزارة الداخلية السورية، ثم ما تلا ذلك من اعتقال للمعتصمين أمام الوزارة مطالبين بالإفراج عن المعتقلين والمعتقلات السياسيات. لم أكن أتصور نفسي بعيدة في مثل هذه الظروف، خاصة أننا لم نشهد حراكاً منذ بداية الألفية الثانية، كما لم نشهد مشاركة واسعة أو تلبية دعوات رفض ومطالبة منذ أمد بعيد… في نهاية إجازة العمل كنت أوضب حقائبي عائدة وكلي أمل أنها بدأت بالفعل… لن تنتهي».
بالنسبة لروزا ياسين حسن، فقد كانت تنتظر الثورة لتبدأ، حيث تقول: «أترقب لحظة الصفر، كما غيري كذلك، التي بدأت بالنسبة لي في ساحة المرجة يوم 16 آذار 2011. تالياً، كنت جزءاً من انتفاضة الشباب السوري المتلونة والمنوعة والغنية. أما بشكل خاص بي فقد شغلني أمران أساسيان بداية: الأول يكمن في محاولات تقريب المعارضة (التقليدية) من الشارع الثائر (غير المسيّس)، الأمر الذي فشلت فيه بامتياز، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا. والثاني يتمحور حول نبش حكايات السوريين المخبّأة، بآلامها وعمقها، تلك التي راحت تنخلق يومياً، بعيداً عن صخب المشهد ونجوم الفضائيات، الأمر الذي مازلت منشغلة به. مع الوقت اكتشفت بأن الثورة لم تكن فسحة للخيال، كما اعتدنا الحلم بها، بل جرعة حادّة من الواقعية، على حد قول جيل دولوز». أما الكاتبة سمر يزبك فلا ترى مسافة بينها وبين الثورة، حيث تقول «لا أعرف إن كنت أستطيع القول ماذا كنت أفعل عندما بدأت الثورة. أظن أني كنت فيها! لكني كنت ولازلت كاتبة فقط».
غسّان ياسين استبق المظاهرات في سوريا بانخراطه في الثورة. يسرد ياسين قصّته مع الثورة: «كنت في عملي وكنت حينها أتابع بقلق وخوف شديدين ما سيفعله شباب مصر في ميدان التحرير وحدث أن كانت هناك دعوة ليوم الغضب السوري بتاريخ 5 شباط، وكان لي رأي عن سبب عدم تلبية السوريين للدعوة كتبتُه على صفحات ’الفيس بوك‘، وبناء عليه اتصلت بي ’أورينت‘ السورية التي تبث من دبي، وطلبوا مني أن أشارك بحلقة تتحدث عن أسباب فشل الدعوة المذكورة… كان لي مداخلة قصيرة ذكرت فيها عدة أمور، منها أني سأقوم بتنظيم مظاهرة، لكن أنتظر انتهاء الثورة المصرية (تاريخ المداخلة 10\2\2011). وبعد أن أذيعت الحلقة قام فرع الأمن السياسي بحلب بمداهمة منزلي بحثاً عني، لكني لم أكن في المنزل، وذهبت خائفاً إلى مدينة دمشق ليتم اعتقالي هناك بعد يومين، بتاريخ 19 شباط، كنت في السجن حيت بدأ المظاهرات تخرج في دمشق ولاحقاً في درعا… خرجت بتاريخ 24 آذار، وكانت حينها المظاهرات تعمّ سوريا والثورة تسكن نفوس السوريين».
لكن ماذا عمّا سيبقى إلى ما بعد الثورة؟ كيف أثّرت الثورة في الحياة الشخصية لمحاورينا؟
بالنسبة لبراء الموسى فإن «الثورة أشعلت الأمل بطريقة تشبه السحر… لقد انقلب كياني كلّياً، بدأت أشعر أنني موجود في هذه الحياة، ولي دور على الأرض، توقفت عن الموت البطيء الذي أدمنته مع ذاكرة هائلة من الركام والأحزان، أحببت الحياة بعد أن وصلت بي الحال إلى مقتها بقسوة، تفاءلت كثيرا بجيل الشباب، وكنت أرى فيهم إخوة يساعدونني في إعادة الاعتبار للحياة، شعرت بكثير من البهجة والفرح للهويّة السوريّة المتأججة في داخلي ليس ككذبة خطابية… باختصار: الثورة أعادت لي الحياة». أما خليل الحاج صالح فيعتقد أنّه يحتاج تعبيراً أقوى من «أثّرت»، حيث يحدّثنا: «أظن أن الثورة غيرت جوانب في تفكيري وسلوكي إلى غير رجعة، إلى حد بتُ أفكر عنده، وأنا أترقب انتصارها، ببناء حياة لي أخيراً. المظاهرات الصغيرة والطيارة في الرقة جعلتني أرفع سقف توقعاتي من (الناس) وأدرك مدى اغترابي عنهم؛ أثناء التحقيق وفي السجن، حزيران/ يونيو و تموز/ يوليو 2011، تعرفت عن قرب لأول مرة إلى مهتمين بالشأن العام، متظاهرين، لا يشبهون الزملاء والرفاق الذين اعتدتُ العمل معهم، لا في الهيئة ولا التوجهات ولا الثقافة ولا السيرة. هناك تفاجأتُ بأحد طلابي، 17 عاماً، يُسجن معي ويتعرض للضرب أثناء التحقيق، كان وجداني ممزقاً بين الخوف عليه والفخر به. في أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2011 خرجت من سوريا للعمل في المجلس الوطني المُشكَّل حديثاً وقتها. قبل حوالي ساعتين من اجتياز الأسلاك الشائكة على الحدود بين سوريا والأردن مررتُ بواحدة من تلك الخضّات الوجدانية نادرة الحدوث، تملكّتني قشعريرة الخوف تلك للحظة، خوف عميق، سقط قلبي بين رجلي، على ما يُقال، فقد تذكرت أنني أعرف الكثير. كل شبكة الناشطين في الرقة وأساليب الاتصال فيما بين التنسيقيات وبعض المجموعات الناشطة في المحافظات وأسماء وأرقام هواتف وبيوت عدد من الأصدقاء والزملاء الناشطين في دمشق؛ تذكرتُ أني زرتُ أخي ياسين في البيت الذي يسكنه وحيداً بعد تخفيه. لم يدم رعبي مما أعرف سوى دقائق. حسمتها مع نفسي. حل سحري: لا أدري كيف، لكنهم لن يمسكوني حياً. إما أجتاز تلك الأمتار وأنجو أو أموت مع ما أعرف. اجتزتُها ونجوتُ».
أمّا خولة دنيا فتبدأ بالقول عن الثورة «غيرت حياتي 180 درجة كما يقال»، فـ«الأشهر الأولى كانت تحمل هذا التحول التدريجي.. بدءاً بالمشاركة بالمظاهرات، والسفر إلى المحافظات التي كانت الأحداث تبدو فيها ضبابية، كانت شهور بحث ولقاء وتفاعل، تحمل أكثر من هم، وأكثر هذه الهموم أولوية بالنسبة لي كان إبراز الوجه الحضاري للثورة، وأنها ثورة شعب، وبعيدة كل البعد عما يروج له النظام من أنه حراك طائفي، وإرهابي، كانت مهمة إبراز حقيقة ما يجري وكيف يجري، وأنه حراك شعبي ورد فعل على ظلم آني وتاريخي.. كانت شهور رائعة من حيث التفاعل والعودة إلى السياسة، مناقشة ما يجري، ومستقبل البلد.. كما كان حراكاً جامعاً وتفاعلياً بين أطياف مختلفة ومتنوعة من المجتمع السوري.. كانت أشهر فرز جديد للمجتمع وللحراك السياسي السابق في سوريا. تغيرت حياتي إلى غير رجعة… البيت، العمل، الاستقرار، الأصدقاء، الأهل… ولن تعود كما كانت بالتأكيد».
تروي روزا ياسين حسن قصة أخرى لها مع الثورة: «مع الزمن، وفي غمرة انغماسي في التفاصيل المكثّفة، اكتشفت كم كنا أسرى لمجموعة من الأفكار كان من الصعب تجاوزها، هذا الأسْر هو الذي جعلنا لا نعرف حقيقة الشعب السوري، كأن ثمة جدراناً عازلة تفصل مكوناته وتغرّبها عن بعضها. لم نكن نعرف بعضنا! الثورة جعلتني أكتشف بلدي، جغرافياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، كما أكتشف شعبي. ثم جعلنا هذا الأسْر نصطدم تالياً بالتطورات التي طرأت على مسيرة الثورة، بداية بالتسلّح مروراً بدخول عناصر مقاتلة خارجية انتهاء بانحرافات وأخطاء ارتكبتها بعض الفصائل المقاتلة! عدم المعرفة، والخبرة قليلة التراكم، لم تسعفنا في التعامل مع ألاعيب النظام، ولا في التخلّص من الانفعال الذي فرضته لغة الدم، ولا في التعامل مع المستجدات الطارئة، كالفتن الطائفية والمآزق السياسية وغيرها.. هذه الثورة جعلتنا نتعرّى، وجعلتني أقتنع كم أننا بحاجة إلى تراكم سياسي وثقافي ومدني كي نستطيع بناء سوريا التي نحلم بها. لكن في النهاية الثورة غيّرتنا جميعاً، أياً كانت التداعيات والخلافات، إنها كالسحر (لحظة الحلم بالحرية) تلك، ومن مسّه السحر مرة لا يمكن أن يعود البتة كما كان».
أما غسان ياسين، فيرى أنّه «كبقية معظم السوريين المنخرطين بالثورة، حدث تحول جذري في مسار حياتي الشخصية. من منتصف شهر شباط ومع أول ملاحقة خسرت عملي وخسرت معه كثيراً من الأصدقاء إما خوفاً أو أن بعضهم كان مؤيداً للنظام في بداية الثورة. في الثورة اكتشفنا أنفسنا من جديد إذ لم يسبق لنا الانخراط في الشأن العام وان نكون مساهمين بتشكيل هويتنا الثقافية والاجتماعية وفي رسم صورة مستقبلنا. من أجمل ما حدث لي خلال عمر الثورة هي تلك الصداقات الجديدة التي تجاوزت في حالات كثيرة رابطة الدم، طوال عامين كانت فيها حياتي الشخصية عرضة لتقلبات وتحولات كثيرة كان لها آثار نفسية كبيرة، فبعد أن فقدت شقيقين بنيران قوات النظام قضيا في يوم واحد فقدت أخا ثالثاً بنيران بعض الثوار ممن يعملون تحت مسمى ’الجيش الحر‘، وكان لتلك الحادثة الأخيرة أثر كبير.. رصاصة الغدر بعد أن قتلت أخي استقرّت في رأسي. رغم كل ما فيها من آلام، ورغم كل ما حدث لنا خلال الثورة أو ما سيحدث لاحقاً، إلا أنها تبقى أجمل ما حدث لنا نحن السوريين».
لسمر يزبك علاقة متعددة التأثر والتفاعل بالثورة، وهي بذلك «ممتنة لهذه الثورة بشكل عميق…» تشرح يزبك: «لأنها كرّست فكرتي عن حريتي الشخصية، التي انتزعتها مبكراً من دوائر عائلية واجتماعية. وكرستها الثورة بفضاء أكثر رحابة وإنسانية. لقد جعلتني أصدق أن كل ما سعيت إليه في حياتي لم يكن وهماً. نعم هناك دائماً محاولات لتحقيق العدالة، والثورة السورية واحدة من أهم هذه المحاولات في التاريخ. آمنت أكثر من أي وقت مضى أن الحرية هي كسر حواجز ومسؤولية واجتهاد، وقد تكون واحدة من ضروراتها و تجلياتها، هي الفوضى المنظمة. الأهم من ذلك أنها جعلتني أتعرف على حقيقة البلد الذي عشت عمري أجهل ماهيته، ثم الاقتراب من الناس الحقيقيين والعاديين. التعلم منهم، والتماهي مع همومهم التي تجتاح كياني، ولا أعرف صراحة، إن كان هذا جيداً لفعل الكتابة! لكن هذا هو الواقع. صرت أميل للاختباء والعزلة أكثر، وما زلت أراقب امرأة كاتبة ضيّعت أصابعها في برك الدم». تتابع: «نعم أنا غريبة أكثر من أي وقت مضى. لكني راضية، لأن انتمائي للحق طغى على الانتماء الطائفي الضيق، وهذا يخفف عني وطأة الانتهاكات البشعة التي لحقت بي، لأني نقلت حقيقة الأحداث، ولأني ما زلت مستمرة بإيماني بالثورة، وأعمل فيها. لدي شعور بالمسؤولية تجاه أبناء بيئتي المحلية، أعمق بكثير من الألم، لكنه أضعف من الانتماء للعدالة. هذه تراجيديا صغيرة تمرّ عبر روحي. أحسّ الشهداء، يسبحون في أوردتي، ويجدفون قواربهم بخناجر حادة، وهم يصعدون نحو الصمت الأبدي. أموت معهم ومعهن، ثم أعاود الحياة من جديد. أموت… ثم أحيا، ثم أموت..ثم… أخيراً، ذلك اللمعان الخاطف، لحدّ السكين التي تمزق أحشائي، في الوجه الثاني من الاقتلاع المضاعف للوجود والكينونة، وما رافق هذه المرحلة من وحشية، وسمت علاقاتنا الإنسانية والصداقية، وعصفت بالغالبية، على كافة الأصعدة».