«الوطن» بما هو فكرة وقداسة، هو المبرِّر الأول لأي سلطةٍ لإدامة تسلُّطها وهيمنتها، والعصبية الوطنية هي الآلة النشيطة التي تستمر في منح السلطةِ شرعية احتكار العنف باسم الجماعة وضدَّ كل ما يهدِّد استمرار الجماعة، لكن الوطن السوري كان استثناءً محرِجاً.

فهو ليس وطناً جاهزاً ولا قيد التجهيز، وإنما وطنٌ بلا حكاية، (لأسبابٍ تاريخيةٍ يمكن القول إن عامي الثورة استطاعا استنباط قراءاتٍ نقديةٍ كاشفةٍ لها تماماً عند شباب الثورة ومثقفيها العضويين الحقيقيين) لذلك عجزت أشكالُ السلطةِ –غير المتمايزةِ جوهرياً- التي مرت على سوريا عن الإيغال في التسلُّط إلا بقدر إيغالها في الاستعانة بيوتوبياتٍ أخرى يكون الوطن السوريُّ فيها جزءاً لا كُلَّاً، وتفصيلاً لا عُنصراً.

وهذا ما استطاع البعث إنجازه، فانتهى إلى أن الوطن العربي الكبير هو الحقيقة الثابتة، و«القطر» السوري كيانٌ مؤقَّتٌ عليه أن يكون مستعِدَّاً كلما تمَّ استدعاؤه (استدعاؤه من قبل البعث طبعاً) للتضحية والذَود والخسارة في سبيل «القضية».

بالتالي فقد تجمَّدت الوطنية السورية، وألغي مشروع تأليفِها الذي كان أصلاً مشروعاً فوقياً، بل وتحولت محاولات النخب التقليدية لاستحضار الوطنية السورية إلى محاولات موتورة ومشبوهة مخوَّنة بحدةٍ تعلو وتنخفض بحسب زخم عنتريات السلطة وحماستها.

لكن مع مجيءِ الأسد الابن، وُجد أن الطرح القومي قد تكلَّس تماماً، وبالإضافة إلى عوامل اجتماعية واقتصادية أخرى لا تقلُّ أهمية، تقرَّرَ بلا كثيرِ تفكيرٍ أن الوطنية السورية هي الخيار الأمثل لسلطةٍ تجدِّد ذاتها السوداء كما أدواتها، الوطنية السورية كجزءٍ من طرحٍ مسلوقٍ سلقاً في المطبخ الأوليغارشي غير المحترِف، يقوم على تحديث المجتمع واللحاق بالعصر وتدارك الدولة وفتح الاقتصاد (هنا تحديداً كانت المافيا إياها تفرك يديها في جشع، ولربما كان الانفتاح ومناخات الاستثمار واقتصاد السوق الاجتماعي هو محور كل هذا الهراء).

«الإسلام السوري» كان مقولةً مؤسِّسةً في هذه الوطنية المودِرن التي أرادها المستبدُّ المستنير المتأورب ملون العينين للمجتمع. واضحٌ أنني لا أقول إنه اختلق الإسلام السوري كما لم يختلق الوطنية السورية طبعاً، لكنْ: هل هذا هو الإسلام السوريّ؟ أي أصالةٍ له؟ من عمده إسلاماً سورياً ومن قال إنه يختزل إسلام مسلِمِي المنطقة؟

ما يُصطلح عليه بالإسلام السوري، وغالباً كمدعاةٍ للمباهاةِ والرضى، هو إسلامٌ «معتدل»، وهو في الحقيقة معتدلٌ جداً، معتدل حدَّ اللا موقف، بسببٍ من كونه دينَ سُلطةٍ.

ماذا لدينا أيضاً؟ إنه إسلامٌ مدينيّ، وهو هكذا حقاً، متصالحٌ مع التأثيراتِ الحضارية، متلقٍّ ومسالمٌ ومحتمِلٌ لكل ما يراد تثقيله به، وهو نافرٌ نفورَ البرجوازية المدينيةِ من الراديكالية، لأن فيها رائحة الأرياف والوضوح البسيط المربك، ومعاداته للراديكالية تجعله ملائماً أكثر وأكثر بالنسبة للمدافعين عنه من أصحاب الهوى الليبرالي، الذين على ما يبدو يعني لهم الكثير أن يمتلكوا في بلادهم إسلاماً حاداً في نفوره من الجهادية وطروحاتها البازغة، فيستبسلون في تأكيدِ أن هذا هو إسلام بلادهم.

لربما أن استتباب الخلافة الأموية في دمشق، وحاجتها الماسة إلى استيلاد وتكريس تصور إسلاميٍّ مختلف لشرعية الحكم بما يبرِّر الانقلاب المكلِف الذي قام به الأمويون للفوز بالخلافة، كان الشرارة الأولى لسيرورةٍ طويلةٍ تنتهي، أو أتمنى شخصياً أن تكون انتهت، مع الشيخ البوطي صريعِ ورطتِه..

«الإسلام الأموي» بالمناسبة هو اسم آخر لـ «الإسلام السوري» أو «الإسلام الدمشقي»، وهو اسم تفوح منه رائحة استشراقية (يمكن البحث في الأمر، لكنه ليس محورياً هنا، لذا أتجاهل التأكد من هذه الملاحظة العابرة)، وبصرف النظر عن منشأ الاسم، فهو دالٌّ موفَّق، لأنه يختزل سلطوية هذا الشكل الذي يريد البعض أن يفرضه فرضاً على أنه إرث تاريخي ثمين، فيما هو في الحقيقة تاريخي بارتباطه بالسلطات التي مرت على سوريا لا بسوريا نفسها، إنه تاريخي إذا كانت عين العناية المنهجية الفاحصة منصبة على «تاريخ السلطة»، لكنه ليس إرثاً للمجتمع، ليس صناعة الناس، ولا ينبغي أن يمر على البعض أن ضمير الناس بهذه الضحالة والتهجُّن والسلبية لينتج هذا الشكل المتصالح حتى الامحاء.

وإذن أين الإسلام السوري؟

ترى هل كانت البرجوازية المدينية على علمٍ بمآلات الأشياء؟ وهل جهلها المفتَرَض وغير المبرَّر، يسوِّغ مصالحةً ما؟

التجار والبعث والعسكر تآمروا على التاريخ، وفرضوا أنماطاً جاهزةً وسطحيةً لكل مفردات الحياة والمجتمع، تجلت بأردأ صورها في الدراما التلفزيونية والإعلام السوري الذي خضع لشيءٍ من «التفعيل» في السنوات العشر الاخيرة، تفعيل أدوات التشويه الممنهج، لتوضع اللمسات الأخيرة على جريمة الإجهاز على إنسان المنطقة غير المنخرط في دائرة «دمشق- حلب» المركزية الصارمة.

حقيقةً الإسلام السوري في كل مكان من سوريا لا يوجد فيه التاجر الشامي والحلبي، في بنش التي لا تروق لليبراليينا الرقيقين، في دير الزور، في إدلب المسحوقة وريفها، في حماه وحلب وريفهما، في درعا، في الحواضن الشعبية التي استقبلت الجهاديين بحفاوةٍ أفترض أنها أدهشتهم هم أنفسهم، أعني المقاتلين الإسلاميين، في سلوكٍ إنسانيٍّ مبهرٍ ويستحقُّ الانحناء لرفضيته وممانعته، سلوكٍ تحركه نشوة التعبير عن الذاتِ لمسلمين لم يتح لهم لعقودٍ مظلِمةٍ أن يعبروا عن ذاتهم، وعن ذاتهم الدينية تحديداً، فلما جاءت لحظة الثورة تشظت هذه الذوات توقاً واستحضرت أكثر مفرداتها فجاجةً وعدمَ ملاءمةٍ وصدْماً وجذريةً للصراخ في وجه المركزية البرجوازية التي باعتهم وباعت البلاد للعدم أنْ: لا. لا حاسمةٌ وشجاعةٌ وقاطعةٌ مع الماضي ومفتوحةٌ على فضاءاتٍ حرة وخلاقة.

لأكون اكثر تحديداً: الإسلامُ السوري الحقيقي، هو «إسلامٌ» أكثر منه «سورياً»، مرتبطٌ بإسلام اليوم وسؤالاته ومشاكله ويومياته، وهذا هو المنطقي والطبيعي، بينما الإسلام السوري الموهوم الذي يتبناه أصحاب الطرح الوطني الديمقراطي، هو سوريٌّ أكثر منه إسلاماً، وهم شكلوه على هذه الصورة بسببٍ من مركَّبِ نقصٍ اسمه الوطنية السورية، لا يخصهم وحدهم بل يخص المجتمع ككل، ومعنيٌّ به المجتمع ككل، لكن هذا المركب المكبِّل لا يحل بهذه الطريقة بالتأكيد. كيف إذن؟

الثورة السورية التي فجرت هذه الأسئلة الكبيرة ستقترح إجاباتٍ لا تقلُّ إشكاليةً وامتلاءً بالمضامين.