بعد مرور أكثر من عامين، ورغم الدّم الغزير، لم يقطع السوريون بعد كل المسافة التي تفصلهم عن إسقاط النظام ونيل الحرية. إلى ماذا تعزو ذلك؟
ثمة الكثير من العوامل التي تؤخّر انتصار الثورة.
العامل الأول عسكري–أمني، إذ أن النظام نجح خلال أربعة عقود في بناء آلة قمعية متوحّشة، ضخمة، جيّدة التسليح، لِتماسك إدارتها أسبابٌ مرتبطة بعصبيّتين طائفية وقبلية/عائلية. وهي تدافع عنه بكل ما أوتِيت من عنف وبطش. كما أن هناك الكثير من المنتفعين من العلاقة بها، يخشون انهيارها، ممّا يجعلهم جميعاً في صراع «وجودي» مع الثورة. في المقابل، لم تصل الأخيرة في جهدها العسكري إلى مستوى عالٍ من الفاعلية بعد، لنقص في التجهيز والموارد وضعف في الخبرات القتالية والتنسيق. وليس الأمر مفاجئاً، إذ أن معظم مقاتلي الجيش الحر والكتائب المسلّحة حديثو العهد بالعمليات الحربية، وشجاعتهم الأسطورية، كما إيمانهم بما يقاتلون من أجله، لا يكفيان لحسم المعركة، إن لم يُرفدوا بأسلحة حديثة وبذخائر تؤمّن لهم الكثافة النيرانية خلال عمليات الاشتباك، وإن لم تتطوّر قدراتهم التنسيقية.
العامل الثاني، وهو مرتبط بالعامل الأول وحاسم بالنسبة له، هو عامل الدعم الروسي–الإيراني للنظام. فموسكو تؤمّن غطاءً سياسياً وترسل آلاف الأطنان من العتاد الحربي دورياً، كما تقدّم مشورات عسكرية. وطهران، من جهتها، تقدّم الدعم المادي (بعض التقديرات البريطانية تشير إلى أنه تخطّى ال11 مليار دولار أواخر العام الماضي) وتدرّب الألوف من الشبّان لتشكيل مليشيات مذهبية، وترسل خبراء تجسّس إلكتروني وعناصر مدرّبة على المرافقة، كما تدفع منذ تمّوز الماضي بمقاتلين موالين لها من العراق وآخرين من حزب الله اللبناني للقتال في أماكن محدّدة في محاور دمشق وريفها وفي محاور القصير–حمص. وأرقام هؤلاء تبدو إلى ارتفاع يعكسه تزايد حالات التشييع العلني للقتلى في صفوفهم.
العامل الثالث، اجتماعي–مذهبي. فالانقسامات العامودية داخل المجتمع السوري، ونجاح النظام في
تكوين عصبية في الأوساط الشعبية العلوية، بما فيها تلك التي لم تستفد منه أو من شبكات فساده، تؤمّن له حتى الآن قاعدة اجتماعية وتعبئة قتالية ورقعة جغرافية يستطيع الركون إليها وتأمين وصول الدعم الخارجي له باطمئنان عبرها.
العامل الرابع، هو ذلك المرتبط باستمرار التردّد الدولي تجاه الوضع السوري، وتمنّع الولايات المتّحدة الأميركية حتى الآن عن إظهار حزم ضد النظام يرفض مجرّد البحث في بقائه بأي شكل من الأشكال، وترجمة ذلك إلى خطوات ديبلوماسية وقانونية –إن لم نقل عسكرية– كمثل السعي لإنهاء تمثيله في الأمم المتّحدة، والبحث في السبل الآيلة لإحالة ملفّات جرائمه إلى المحاكم الدولية، ووضع بشار وجميع أفراد العائلة والأقارب المنخرطين معه في القتل على لائحة الإرهاب… وكلّ هذا التردّد يشجّع روسيا وإيران على المضيّ في دعم النظام واعتبار نجاته ممكنة.
لماذا تصرّ موسكو وطهران على دعم النظام إلى هذا الحد؟
لكل من روسيا وإيران حسابات خاصة في سوريا.
بالنسبة للروس، هناك أربع مسائل رئيسية:
الأولى اعتبارهم سوريا اليوم موقعاً يعودون من خلاله إلى الساحة الدولية بوصفهم قوّة لا يمكن تخطّيها في أي ملفّ والتصرّف بمعزل عنها. وهم يعتبرون أن موسكو تعرّضت منذ نهاية الحرب الباردة لأكثر من عملية تهميش في لحظات حروب دولية طالت بعض حلفائها (الصرب في يوغوسلافيا السابقة)، أو جرى خوضها بمعزل عن مصالحها (العراق)، أو من خلال الانقلاب على الاتفاق معها (ليبيا). وهي ترى في سوريا تعويضاً عن كل ذلك (وتتويجاً لتقدّمها ضد «حلفاء الغرب» على حدودها، سياسياً في أوكرانيا وعسكرياً في جورجيا). وتريد أن تفرض نفسها شريكة من الآن وصاعداً في أي معادلة، خاصةً في الشرق الأوسط.
المسألة الثانية، استراتيجية، بمعنى أن نظام الأسد هو آخر حليف لموسكو في الشرق الأوسط. وفي طرطوس القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة في الحوض المتوسّطي.
المسألة الثالثة، يمكن تسميتها بالطائفية، وهي مرتبطة بموقف الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية (الوثيقة الصلة بالكرملين) الداعمة للنظام السوري باعتباره «حامي واحدة من أكبر الأقلّيات المسيحية في الشرق» على ما يقول المقرّبون من هذه الكنيسة. ويعطف هؤلاء على الأمر تحذيرهم من «الصعود السنّي” في المنطقة الذي يمكن أن يصل إلى بعض الجمهوريات الآسيوية على حدود روسيا، ويمكن أن يتسلّل أيضاً إلى القوقاز والجمهوريات الروسية حيث الأغلبية المسلمة، بما يهدّد قبضة موسكو على هذه الجمهوريات وعلاقاتها بها.
المسألة الرابعة والأخيرة، هي مصلحية بحت، لها علاقة بالاقتصاد الروسي وبشركات الأسلحة التي خسرت في أقل من عشر سنوات سوقَي العراق وليبيا، وبدأت تخسر جزءاً من السوق اليمني، ولم يبق لها في المنطقة سوى سوقَي الجزائر وسوريا، وتريد المحافظة عليهما والتوسّع فيهما إذا أمكن.
أما إيران، فقصّتها مع سوريا مختلفة.
فهناك أوّلاً الحلف القديم الذي ناسب كلاً من حُكمَي طهران ودمشق عام 1980. طهران كانت تبحث عن حليف عربي يمنع عن صدّام حسين استخدام المعطى العربي–الفارسي في حربه مع الإيرانيّين، وكانت تبحث أيضاً عن جسر عبور إلى لبنان لتصدير ثورتها إلى بيئته الشيعية. وحافظ الأسد كان يريد استنزاف خصمه العراقي في الحرب مع إيران، ويريد أيضاً رفع «سعره» عند الغربيّين والخليجيين – لا سيّما السعودية، عبر إظهار قدرته على التوسطّ لدى الإيرانيّين في الأزمات، وابتزاز الجميع للإبقاء على التعاون معه كي لا يذهب بالكامل إلى أحضان طهران.
وهناك ثانياً التطوّرات في السنوات العشر الأخيرة، لجهة تنامي الدور الإيراني في المنطقة بعد سقوط نظامَي الطالبان وصدّام، وتحوّل إيران إلى لاعب في الساحة الأفغانية يُلزم الأميركيين بمفاوضته، وتحوّلها إلى القوّة الأكثر تأثيراً في العراق. وهناك العمق الاستراتيجي الذي يمكّن الإيرانيّين من الوصول إلى المتوسّط ويجعل إيران والعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان –عبر حزب الله– على شكل قوس يمكن أن يتحوّل إلى قوة اقتصادية وعسكرية وديموغرافية توظّفها طهران لصالحها، وتضعها على حدود إسرائيل مباشرة بما يضمن لها قدرة تهديد لردع الإسرائيليين أو تخويفهم من مهاجمة برنامجها النووي. كما أن هذا «القوس» يفصل تركيا عن دول الخليج العربي، ويضع الأخير تحت الضغط ويلجم اندفاع أنقرة صوب المنطقة. لذلك، فالدفاع عن الأسد بالنسبة للإيرانيين هو دفاع عن سطوتهم على لبنان والعراق أيضاً، وبالتالي عن قدرة إيران على الاستمرار في فرض نفوذها.
وهناك ثالثاً المسألة الإيديولوجية–المذهبية التي تقرّب قادة طهران إلى ما يعدّونه نفوذاً للشيعة وللعلويّين في البلدان الأربعة، ويدفع بعضهم بالتالي للتعبئة على هذا الأساس، في مواجهة ما يخشونه من كسر «سنّي» مدعوم من أنقرة والرياض (والدوحة) للقوس المذكور آنفاً.
وكيف تفسّر التردّد الأميركي الذي أشرت إليه سابقاً؟ وهل من فارق بين الموقف الأميركي والمواقف الأوروبية؟
الموقف الأميركي هو أيضاً موقف مركّب تبلوره العديد من العوامل الداخلية والخارجية.
سأبدأ من العامل الداخلي الأميركي، وهو ما ينساه كثر من المراقبين. القاعدة الاجتماعية التي انتخبت أوباما مكوّنة بشكل أساسي من أميركا الملوّنة (اللاتينو والسود، وكتلتاهم تشكّلان ديموغرافياً حوالي 30 في المئة من الأميركيين اليوم)، وأميركا الشابة (الطلاب «المدينيّون» تحديداً، بأكثريّتهم البيضاء). كما أنه حصل على أكثرية أصوات ذوي مستوى التعليم العالي. والأغلبية بين هؤلاء جميعهم تتبنّى منذ حرب العراق مواقف ضد تدخّل أميركا خارج حدودها، عسكرياً بخاصة، وتعتبر الأمر إنفاقاً مالياً هائلاً وخسائر بشرية، وسبباً من أسباب تصاعد الكراهية لواشنطن عالمياً. وتطالب بإعطاء الأولوية المطلقة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية الداخلية. وأوباما تعهّد في حملاته الانتخابية منذ العام 2008 باحترام ذلك، لا بل كان من دعاة الأمر أيضاً، ودفعته الأزمات المالية والاقتصادية إلى الاستسلام له حتى أواخر 2010. أما في العامين الماضيين، ولأنه قرّر الترشّح لولاية ثانية، فقد قرّر التعامل الحاسم فقط مع ما يعبّئ الناخبين الأميركيين.
وبالانتقال إلى العوامل الخاصة بتلكّؤ السياسة الخارجية، بدا في المرحلة السابقة أن أولويات واشنطن في المنطقة لا تضع سوريا في رأس سلّمها. فهذا الرأس يحتلّه منذ سنوات الملف النووي الإيراني، يليه ملفّ المفاوضات الميتة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، ثم طرأ منذ عام ونيف ملفّ مصر والتوسّط بين الجيش والأخوان حرصاً على استقرار دولة حليفة (هي الأكبر عربياً) وخوفاً من آثار تدهور الأوضاع فيها على الحدود الاسرائيلية وحدود غزة واتفاقية كامب دايفيد… وهناك مصالح إسرائيل، التي لم تخفِ في بداية الثورة تفضيلها بقاء الأسد في السلطة، مرعوباً ومنهكاً، قبل أن تتحوّل بعض مواقف مسؤوليها منذ أشهر نحو الكلام عن عدم الاكتراث لرحيله شرط ضمان الأسلحة الكيماوية والصاروخية و«حدود الجولان». لكن هذا التبدّل في اللهجة لم يؤدّ بعد إلى تغيير كبير في مقاربات الوضع السوري.
ويمكن القول إن سوريا صارت بالنسبة لواشنطن موضع استنزاف كبير لإيران، لذلك لا حاجة للعجلة في حسم الأمور أو الدفع نحو ذلك طالما أن شروط الحسم وأشكاله في ما خصَ سقوط الأسد، لم يُتّفق عليها ولم تتّضح معالمها بعد.
وهذا كلّه، إن صحّ، يفسّر البطء الأميركي الشديد في التعامل مع «الملفّ السوري».
أما أوروبا، فمواقفها مختلفة عن المواقف الأميركي، لكنّها غير موحّدة. ففرنسا وبريطانيا تدعمان تسليح الثورة يما يخوّلها تسريع إسقاط النظام، في حين أن دولاً أخرى، مثل ألمانيا والسويد مثلاً، تعارض ذلك. والاتحاد الأوروبي يحاول التوفيق الصعب بين مواقف أعضائه المتضاربة، ممّا يشّل ديبلوماسيّته ويعطّل قراراته. وعجز أوروبا عن الاتفاق، والتحوّل قطباً يحتلّ بعضاً من الفراغ الذي خلّفه الانكفاء الأميركي، يفسّر أيضاً شعور واشنطن بأن غيابها لأسباب داخلية (مرحلية) لا يؤثّر على موقعها في قيادة العالم، وأن المشاغبة الروسية على هذه القيادة لا تملك أفقاً، إذ ليس لموسكو نفوذ فعلي إلا في محيطها الجغرافي المباشر، كما أن اقتصادها متعب وقدراته التوسّعية ضئيلة (ومحصورة في احتياطيّ الغاز)، في وقت أن صاحبة الاقتصاد الكبير النمو، الصين، لا تملك القدرة على القيادة السياسية، ولا تحاول ذلك (حتى الآن) أصلاً. وهذه «الثقة» الأميركية تصبّ أيضاً في باب «عدم العجلة» تجاه الكثير من الملفّات، وفي طليعتها سوريا.
على أنني أعتقد أن تغيّرات قد تطرأ على المواقف الأوروبية قريباً، إذ أن قرار الحظر الأوروبي على الأسلحة إلى سوريا ينتهي في أيار، ولا أظن باريس ولندن ستوافقان على تجديده من دون شروط أو بنود تسمح بالتمييز بين فلسفته كآلية تخفيض للعنف وبين مؤدّياته في ظل عدم احترام حلفاء النظام له، وما يعنيه الأمر من مساهمته في تعزيز النظام.
عطفاً على السؤال السابق، كيف يُمكن قراءة المواقف العربية والتركية؟ وماذا عن الموقف اللبناني؟
يصعب قراءة الموقف التركي من دون الأخذ بالاعتبار أن لا إجماع بين القوى السياسية التركية على الموقف من سوريا. الأحزاب العلمانية «الكمالية»، كما بعض قوى اليسار، هي بشكل عام سلبية تجاه الثورة السورية، إذ تعدّها إسلامية من جهة، ويكفي أن يكون أردوغان وحزبه داعمين لها ليكونوا في المقلب الآخر من جهة ثانية. والأمر ينطبق إلى حدّ ما على مواقف بعض المسؤولين في المؤسسة العسكرية. ولا يمكن إسقاط البعد المذهبي–الطائفي تماماً، إذ أن جزءاً كبيراً من القاعدة الشعبية للقوى العلمانية والمحسوبة على اليسار هي في المناطق العلوية (الآليفي) التركية. كما أن بعضاً من رجال الأعمال والمستثمرين، ممّن استفادوا في السنوات الماضية من التجارة والسياحة، يجدون أنفسهم متضرّرين من الثورة. ولم تعوّض عليهم عمليات نقل بعض المعامل والمستودعات –على نحو شرعي أو غير شرعي– من الشمال السوري إلى تركيا.
هذا الانقسام التركي الداخلي يسبّب إرباكاً للحكومة، يضاف إلى إرباكاتها لكونها عضواً في حلف «الناتو» مقيّدة بسياسات الحلف، ولكونها أيضاً تستمر في محاولة تجنّب القطيعة مع موسكو وبيجين، ومع طهران، ربطاً بالاقتصاد وبالسياسات التي اعتمدتها في السنوات السابقة تحت مسمّى «صفر مشاكل».
وطبعاً هناك قضية أساسية بالنسبة لأنقرة، وهي القضية الكردية، وخشيتها من أن يؤدّي تفاقم الأوضاع في سوريا إلى تحقّق ما يشبه الاستقلال الذاتي للأكراد السوريّين، وتشجيع أبناء عمّهم في «كردستان التركية» على التحرّك، وسعي النظام السوري لتفعيل بعض علاقاته بحزب العمّال لهذا الغرض. وربّما يؤدّي الاتفاق التركي الأخير مع أوجلان إلى تقليص التوتّر في ما خصّ القضية الكردية، التي لن تُحلّ في أي حال من دون الإقرار بحقوق الأكراد الثقافية واللغوية والسياسية والاجتماعية، إن في تركيا أو في سوريا وإيران (بعد أن تقدّمت كثيراً في العراق).
رغم ذلك، لا يمكن التقليل من حجم الدعم الذي قدّمته وتقدّمه تركيا للثورة السورية، من خلال استقبال أوائل المنشقّين عن الجيش وتحويل اسطنبول عاصمة للمعارضين وهيئاتهم، وتقديم بعض المساعدات العسكرية كما التدريب لبعض كتائب الثورة. وهذا طبعاً لا يتمّ من دون بحث أنقرة عن نفوذ وتأثير، هو في أي حال جزء من لعبة العلاقات الإقليمية والدولية التي تُمارس في أي بلد يتعرّض لانكشاف سياسي أو لحرب أو لأزمة عميقة.
المواقف العربية تجاه سوريا تختلف بين بلد وبلد. لكن بشكل عام، وإذا ما استثنينا الجزائر أوّلاً والعراق ثانياً الداعمَين للنظام (إقتصادياً ونفطياً، وربما أكثر)، فإن معظم المواقف الأُخرى تراوح بين تأييد الثورة أو الحياد «الرسمي» تجاهها.
فدول الخليج (السعودية وقطر بخاصة) صارت حاسمة في ما خصّ ضرورة إسقاط النظام، وهي مصدر التمويل الأول للشقّ المسلّح في الثورة ولبعض الأجسام السياسية. وهذا يطرح مشكلة بالطبع، إذ أن لا مصداقية ديمقراطية لا لقطر ولا للسعودية، لكن، في نفس الوقت، لا يمكن لثورة تواجه آلة قتل همجية مدجّجة بكل أنواع الدعم الخارجي (الروسي الإيراني خاصة) أن تضع شروطاً على شكل النظم السياسية التي تدعمها (والتي تكون في بلاد غير عدوّة)، وبخاصة حين تكون مصادر الدعم شحيحة للغاية. عليها محاولة توظيف الدعم ضمن استراتيجيّتها الوطنية وبما يخدم أهدافها أولاً، وتحصين ذاتها على نحو يحمي المقدار الأعلى من استقلالية قرارها، ثانياً. ويفيد القول هنا إن جميع الثورات وحركات التحرّر في العالم تلقّت دعماً خارجياً من قوى وجهات لم تكن مرّة مثالية، وإن النجاح كان يُقاس بحسب أداء الثورة أو حركة التحرّر وقدرتها على المحافظة على استقلالية نسبية في قراراتها، وليس بحسب نزاهة داعميها.
ثم هناك الدول العربية التي شهدت ثورات أطاحت بأنظمتها، كمصر وتونس وليبيا، وإلى حدّ ما اليمن. وهي داعمة للثورة، ولو بخجل (مصر واليمن) أو بارتباك (تونس)، مع تسجيل فاعلية للدعم الليبي تتمثّل بشكل خاص في مجالَي التسليح والدعم اللوجستي.
وهناك أيضاً الدول الخائفة من الأوضاع برمّتها، الأردن والمغرب والسودان، المختلفة في بناها وأوضاعها، والمراوحة مواقفها بين الصمت والحياد، أو الاضطرار للدعم غير المباشر كما في الحالة الأردنية (من خلال الموافقة على مرور بعض الأسلحة ووسائل الاتصال لصالح الثورة).
وهناك أخيراً لبنان، ووضعه هو ربما الأدقّ في ما خصّ الأوضاع السورية. فالبلد جار صغير وقع تحت حكم النظام السوري سنوات طويلة، ولم يتعاف بعد من المثالب والجرائم التي عمّمها النظام فيه. كما أنه، ولهشاشة في إجماعاته الوطنية تجاه قضايا محيطه المباشر تتخذ غالباً طابع الانقسامات الطائفية ثم الصدامات الأهلية (برزت عام 1958 تجاه الناصرية وحلف بغداد، وعام 1969 تجاه القضية الفلسطينية، ثم منذ العام 2004 تجاه الصراع الإيراني السعودي)، يعاني اليوم من توتّر كبير بين مؤيّدي النظام الأسدي ومؤيّدي الثورة، يتّخذ منذ أشهر أبعاداً مذهبية خطيرة، نتيجة اتّضاح مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام وتشييع العديد من مقاتليه الذين قضوا في سوريا. والقتال هذا، إضافة إلى إجرامه بحق الشعب السوري وإساءته إلى العلاقات بين اللبنانيّين والسوريّين، مولّد احتقانات داخلية لبنانية قد تتّخذ الكثير من أشكال التعبير عنها في المستقبل إن لم يجر وقفه والتفكير بتداعياته الكوارثية.
يبقى في هذا الباب أن نشير إلى أن مسألة اللاجئين السوريّين في لبنان مرشّحة للتفاقم في المدى المنظور، تبعاً لتطوّر الأمور الميدانية في دمشق. فالحدود اللبنانية هي الأقرب إلى العاصمة السورية، واحتمالات نزوح كبير منها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وأن يوضع تصوّر لسبل التعامل معها، يشارك فيه المجتمع الدولي والجامعة العربية، إذ ليس من المؤكّد أن تكون البنية التحتية والطاقة الكهربائية والاستهلاك المائي في لبنان على مستوى التحدّيات. وهذا قد يدفع بالعنصرية البغيضة الموجودة أصلاً إلى الارتفاع. كما أنه سيدفع حكماً بأنشطة التضامن القائم أيضاً إلى الازدياد. لكنّها لن تكون كافية…
تصف في إحدى مقالاتك أوجه الشبه بين نظامي القذافي والأسد. لماذا سقط الأول ولم يسقط الثاني بعد؟ ألم يكن من المُفترض أن تقود أوجه الشبه الاستبدادين إلى نفس المآل؟
يمكن الحديث عن العديد من أوجه الشبه بين النظامين الليبي والسوري، لجهة الفساد والحكم العائلي وتعميق العصبيات القبلية/الطائفية ومحاولة تأبيد الحكم في شخص ونسله وتعميم ثقافة تأليه الحاكم، وتنوّع الأجهزة المخابراتية وإجرامها، ولو أن الأجهزة السورية هي أكبر بما لا يقاس وأشد وحشية بدرجات من نظيراتها الليبية. لكن المجتمعَين مختلفان كثيراً، وتاريخهما كذلك، ولا مجال لمقارنتهما إلا من باب ردود فعلهما على عنف النظامين خلال ثورتيهما.
ولا أظنّها صدفة أن الثورتين الليبية والسورية كانتا الوحيدتين اللتين اعتمدتا علمَي الاستقلال اللذين أطاح بهما البعث في الحالة السورية عام 1963 (وسبقته في الإطاحة تجربة الوحدة مع مصر الناصرية بين العامين 1958 و1961) والقذافي في الحالة الليبية عام 1969. وبدا في الأمر محاولة من الثورتَين لاستعادة الزمن المسروق والعودة إلى لحظة سرقته من أجل استئنافه. وطبعاً، في ليبيا ثم في سوريا، اضطر الثوّار نتيجة جرائم النظامين إلى عسكرة ثورتيهما.
أما في ما خصّ المآلات، والتدخل الدولي في ليبيا الذي سمح بالإطاحة بالقذافي، فالأمور تختلف كثيراً بين الحالتين… ويمكن تعداد العوامل التي سهّلت التدخّل الأطلسي بتفويض أممي. فهناك أولاً التوقيت، إذ أن (1) وهج الثورتين التونسية والمصرية و«سلاسة» سيرهما (قبل الصعود «الإسلامي»)، و«الشعور بالذنب» تجاه ما بدا ضياعاً أوروبياً في التعامل معهما، ساهم في دفع باريس ولندن للتحرّك؛ وهناك ثانياً (2) الموقع الجيوستراتيجي الليبي –بين مصر وتونس– المحدود «التعقيدات» (على عكس الموقع السوري)؛ وثالثاً (3) هناك الثروات النفطية الليبية، والتطلّع الفرنسي–البريطاني–الأميركي لعقود إعادة بناء بلد محطّم (بقي تحت القذافي في ما يشبه العزلة) والحصول على امتيازات نفطية وإعمارية فيه؛ وهناك (4) القرب الجغرافي من أوروبا الغربية وسهولة حركة الطيران لتنفيذ الطلعات الحربية فوق ليبيا. من دون أن ننسى (5) الدور الذي لعبته الجامعة العربية في تأمين الغطاء للتدخّل الدولي، والذي كان ممكناً يومها نظراً لحالة الترقّب والقلق السياسي ولصعوبة التضامن مع القذافي وهذيانه واستخدامه العنف المفرط ضد المتظاهرين – ولم تكن سوريا قد صارت مجزرة بسماء مفتوحة بعد.
بهذا المعنى، لأن «الربيع العربي» كان في بداياته، ولأن الثورة الليبية استفادت من العوامل السابقة التي ذكرنا، كان التدخّل ممكناً وسريعاً.
وقد يصحّ القول إنه إضافة إلى كل التعقيدات المحيطة بسوريا ومواقف الدول الكبرى من أوضاعها، وإضافة إلى عامل الوقت الذي لم يكن لصالح الثورة السورية إذ اشتدّ عودها بعد أن بدأ بريق «الربيع العربي» يخفت دولياً، فإن حصول التدخّل وفق التفويض الأممي في ليبيا هو بذاته وبملابساته ما جعل احتمالات التدخّل لاحقاً في سوريا ضئيلة (خاصة أنه تمّ في ظل توافق غربي مع روسيا والصين على أساس عدم التدخّل الهجومي ضد القذافي لينتهي إلى غير ما تمّ التوافق عليه).
يبدو الكفاح العسكري في سوريا اليوم ذا هوية إسلامية. لماذا صارت هذه الهوية شبه وحيدة في منطقتنا منذ أواخر الثمانينات؟
يمكننا أن نلاحظ أن جميع الحركات المسلّحة التي نشأت في المنطقة العربية منذ أوائل الثمانينات هي حركات إسلامية المرجعية.
فمن لبنان وفلسطين إلى مصر والجزائر وصولاً إلى العراق، لم ينشأ تنظيم مسلّح واحد (خلال تمرّد على سلطة أو نزاع أهلي أو قتال مع إسرائيل أو مع الأميركيين)، ولم تتحوّل قوة سياسية إلى العسكرة إلّا بهويّة أو شعارات إسلامية. أمّا مَن كان من الأحزاب اليسارية والحركات الوطنية يملك أجنحة عسكرية، فقد انكفأ عن العمل المسلّح إبتداءً من منتصف الثمانينات، وانتهى حضوره تماماً في التسعينات بعد (1) تلاشي الدعم الخارجي له (السوفياتي) و (2) ضمور جمهوره و (3) تعرّضه للقمع والتهميش. ولم تشذّ عن هذه القاعدة سوى حركة فتح ومعها بعض التنظيمات الفلسطينية (بالإضافة إلى حزب العمال الكردستاني).
بهذا المعنى، لم يكن مستغرباً أن يتحوّل المكوّن الإسلامي في الثورة السورية إلى المكوّن العسكري الأبرز، منذ اضطرار الثورة إلى اعتماد الكفاح المسلّح دفاعاً عن النفس بدايةً ثم حرب تحرير لاحقاً، خاصة وأن (4) الدعم «الدولي» للمجموعات المنشقّة عن جيش النظام، أو المكوّنة من ناشطين غير إيديولوجيين، شبه معدوم؛ وأن (5) السعودية وقطر وتركيا (وبعض الشبكات الإسلامية الكويتية) تحولت إلى الراعي الأول للجهد القتالي متبنّية كتائب تُعلي الهوية الإسلامية، مسلّحة إياها ومغطّية أخبارها (مما يجذب المزيد من الاهتمام إليها ويحضّر الأرضية لتمدّدها). ويُضاف إلى هذا أن (6) شدّة العنف وأهواله وطقوس الموت اليومي والشعائر المرافقة لكل تشييع، معطوفة على البيئة الاجتماعية والثقافية المحافظة في المناطق الريفية أو الطرفية حيث تركّز القتال قبل اندفاعه نحو المدن، سهّلت أيضاً على الكتائب الإسلامية توسيع حضورها، فصار الجناح العسكري في الثورة اليوم، بقواه الأكثر تماسكاً وتجهيزاً واستعداداً للموت والقتل إسلاميّ الطابع…
على أن كل هذا لا يعدّل في شيء الموقف من ثورة شعبية عارمة ضد نظام وحشيّ هو وحده المسؤول عن تحوّل الانتفاضات والاحتجاجات إلى العمل العسكري، وهو وحده المسؤول عن صعود تيارات ينحو بعضها نحو التطرّف ويصبح شديد الخطر على مجتمعها نفسه. وكلّ ما جرى الحشد في وجهه والتسريع في إسقاطه كل ما جرى الحدّ من تعاظم المشاكل وتناسلها والتردّد تجاهها، وكل ما جرى الحدّ من تمدّد التطرّف وازدياد المغالاة الدينية أو جذب «الجهاديّين–الأمميّين». والعكس صحيح…
هناك من يريد أن يطيح بتسمية «الثورة» واستبدالها بمسمّى «حرب أهلية» في توصيفه لما يجري في سوريا. ما هي أسباب ذلك وما هي نتائجه إن تعمّم؟
ثمة فئة تعتمد تسمية «الحرب الأهلية» من دون خلفية أو هدف مسيء للثورة، إذ ترى قتالاً بين سوريّين وتعدّ ذلك صراعاً أهلياً أو حرباً بين مجموعات ثائرة أو متمرّدة وجيش (أفراده من أبناء البلد) موال للنظام.
لكن ثمة فئة ثانية تستخدم مسمّى «الحرب الأهلية» لأهداف خبيثة، وتكون غالباً أقرب إلى تأييد النظام، أو مؤيّدة له تماماً، فتعمد إلى نفي صفة «الثورة» عن «الأحداث» واعتماد ما يدلّ على سويّة بين طرفين في نزاع.
والدفاع عن مصطلح «ثورة» ضروري لعدّة أسباب. ليس لصحّته ودقّته وبُعده القيمي فحسب، بل أيضاً لمؤدّياته القانونية والسياسية. ذلك أن استخدام مصطلح «الحرب الأهلية» يعني بالنسبة لدول العالم ومؤسساته تعاملاً مع صراع مسلّح بين طرفين داخل دولة ما، يتنافسان على سلطة أو نفوذ أو أرض أو ثروات وموارد، ويملك كلاهما وسائل قتال متماثلة أو متقاربة، وينبغي التوسّط بينهما لإنهاء النزاع على نحو يقبله «الجميع». وهذا يعني أن للنظام حصّة ومشروعية قد تكون مساوية لحصّة ومشروعية معارضيه، أو كأنه ليس حُكماً دكتاتورياً قائماً منذ 43 عاماً، يتحمّل المسؤولية الكاملة عمّا يجري، وتملك الثورة الشعبية عليه كل المقوّمات الاخلاقية والقانونية لقيامها، بوصفها توقاً للتحرّر واستعادة الحقوق والكرامة الإنسانية…
وكون ما يجري في سوريا ثورة، لا يعني في المقابل أنْ لا انقساماً عامودياً في المجتمع السوري أو أن لا تركّز للثورة في جغرافيا ذات أكثرية ديموغرافية معيّنة، أو أنْ لا موالين للنظام يقاتلون دفاعاً عنه. كما أنه لا يعني أن لا جرائم يمكن أن يرتكبها بعض المنخرطين في الثورة أو المستفيدين من الأوضاع الناشئة منذ قيامها.
التمسّك إذن بتسمية «الثورة» يجب أن يستمرّ، ولا مبالغة في القول إن الثورة السورية هي من أهمّ الثورات وأكثرها صعوبة وفي مواجهة واحد من أشدّ الأنظمة وحشية وعنفاً في تاريخنا المعاصر.
منذ انطلاق الثورة يُؤثِر الكثير من اليساريّين الصمت، فيما ينحاز بعضهم إلى النظام الأسدي. كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل السبب هو تعلّقهم بما يُسمّى «ممانعة»؟
ثمّة مسألة أساسية ننساها في الكثير من الأحيان حين نتحدّث عن اليسار في منطقتنا العربية، وهي أن (1) قضيّتي الحرّية والديمقراطية لم تكونا يوماً في صلب أولويّات معظم تجاربه الفكرية أو السياسية. كما أن المعسكر الاشتراكي الذي شكّل قبلة هذا اليسار (في أغلب تلاوينه) كان في ممارساته السلطوية معادياً للحرّيات وللديمقراطية بوصفها مفاهيم «ليبرالية» وبرجوازية غربية. حتى أن معظم أنظمة الاستبداد عندنا مستوحاة بُناها وأجهزتها المخابراتية وسجونها السياسية من تجارب ذاك المعسكر، بدءاً بتجربته الستالينية وصولاً إلى تجارب تشاوشيسكو ومن على شاكلته. ولطالما دافع يساريون عن هذه التجارب بحجة أنها كانت تبحث عن «العدالة الاجتماعية» وعن الاكتفاء الذاتي، وأن أيّاً من الدول التي عرفتها لم يكن «مديوناً» للخارج، وأن الشعوب في ظلّها تعلّمت وكانت تستطيع الحصول على المأكل والعناية الصحية، إلخ…
وهذا الكلام نفسه يتردّد اليوم في بعض الأوساط اليسارية المدافعة عن النظام الأسدي. وطبعاً يُضاف إلى ذلك (2) موضوع «أميركا وإسرائيل»، بحيث يُنسب لمن يشتمهما (صدقاً أو كذباً) فعل الممانعة، وبحيث يُعدّ كل حدث جلل يصيب مجتمعاتنا مرتبطاً بمكائدهما ومؤامراتهما.
لذلك لم يكن صعباً على معظم التيارات السياسية القومية واليسارية و«المتياسرة» أن تستنجد بالقضية الفلسطينية كلّ ما واجهت فشلاً أو مأزقاً أو مطالبات بالحرّية والإصلاح. ولم يكن من الصعب عليها أيضاً أن تهجو «الغرب» وتعدّه متآمراً إن انتقدها، فتحصل على شعبية لهجائها. إذ لبعض الدول الغربية تاريخ استعماري طويل، ودعمها لإسرائيل تسبّب بمآسي وكوارث لا يمكن إغفالها، كما أن الأنظمة العربية «الليبرالية»، أو المشيخية المتحالفة معها، لا تمتّ بصلة إلى الديمقراطية وحقوق الانسان (ولو أن أيّاً منها لم يرتكب مذابح ضد «شعوبه» على نحو ما ارتكبت الأنظمة المسمّاة «تقدّمية» أو اشتراكية –من بعثَي العراق وسوريا إلى لجان القذافي الشعبية وصولاً إلى جبهة التحرير الجزائرية)… وبالطبع، ينسى أو يتناسى المصفّقون عادة لهجاء «الغرب»، أن مصطلحهم رقيع، وأن «الغرب» هو أيضاً ماركس وفرويد والعلم الحديث، وأنه العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة، وأنه في السياسة ليس نسقاً واحداً، وأن الكثير ممّا يتوق أكثرية الناس إليه أو ممّا يستخدمونه بفخر هو «غربي»… وهذا في أي حال نقاش آخر.
لكن إن ربطنا كلّ ما سبق بالموقف من الثورة السورية، وجدنا –وعلى نحو غير مفاجئ– نفس العدّة «التقليدية» موظّفة دعماً للنظام. فحديث المؤامرات لا يتوقّف، وشتم «الغرب» وازدواجية معاييره واستجلاب «سايكس-بيكو» والقضية الفلسطينية أسطوانة رائجة، وهجاء «أنظمة النفط» الخليجي وإعلامها مذهب في ذاته، والتحسّر على الاستقرار والطمأنينة الاجتماعية في ظل الأسدَين لازمة تتردّد. الإضافة الوحيدة على هذا المتداول من أدبيات «تاريخية» هي التركيز على شتم «الإخوان المسلمين» والوهابية بوصفهما «شركاء» في الثورات.
أما الثمانون ألف قتيل والملايين من الجرحى والمعتقلين والمشرّدين والنازحين، وأما السكاكين والطيران والبراميل المتفجّرة وصواريخ السكود والمليارات المنفقة من أجل تدمير كل منطقة يثور أهلها ضد نظام يقبع على صدورهم بالقهر منذ قرابة النصف قرن، فهي إما تفاصيل لا تعني اليساريين هؤلاء، أو كلفة ضرورية لمواجهة المؤامرات التي شبّوا وشابوا على مقارعتها!
بهذا المعنى، ثمة إفلاس أخلاقي يُضاف إلى الإفلاس السياسي، وهو موجود عند البُلهاء والخبثاء (المنافقين) على حدّ سواء.
على أنه يمكنني أن أضيف سبباً إضافياً على كل ورد في ما يخصّ تأييد بعض اللبنانيين اليساريّين للنظام الأسدي (وقد ينطبق الأمر على رفاق لهم سوريّين). والسبب هذا هو بكل بساطة طائفي، المعطى الأساسي فيه (3) عداءٌ للسنّة بوصفهم تهديداً «أكثرياً»، وتجرى تغطية الأمر بعلمانوية مبالغ فيها وبادّعاء خوف من السلفية والظلامية. ولا أظنّها من قبيل المصادفة أن الأكثرية الساحقة من اليساريّين المدافعين عن الأسد ينتمون إلى طوائف معيّنة، وأنهم مؤيدون بلا تحفّظ للجمهورية الإسلامية الإيرانية ولحزب الله، وأنهم لا يرون مخاطر ظلامية إلا في المجموعات الإسلامية (وأحياناً غير الإسلامية) السنّية.
وإذا انتقلنا إلى مواقف بعض اليسار «الغربي»، فيمكن الحديث عن أربعة أمور تفسّر تأييداً في أوساطه للنظام الأسدي: (أ) «معاداة الإمبريالية» واعتبار أي نظام في العالم الثالث يشتمها أو تشتمه (عن كذب أو عن جدّ) نظاماً يستحق الدعم. وهذا ما يمكن تسميته بـ«البافلوفية» المؤامراتية؛ (ب) الهوس الجيوستراتيجي الذي لا يكترث للشعوب ولملايين البشر وكراماتهم وحقوقهم بل يكتفي بالبحث في الحدود والثروات والمصالح وتصبّ كتاباته في المنحى المؤامراتي. ولا يمكن إسقاط «عنصرية» ما في طرحه، إذ أن تجاهل الناس وحقوقهم يعني احتقارهم أو في أحسن الأحوال عدم احترام حرّياتهم واستحقاقهم لها؛ (ج) الثقافوية التي لا تستهول العنف في منطقتنا إذ تعدّه من آليات النزاعات وفضّها المعهودة، لا يستوجب ممارستها في ذاته وبمعزل عن أي أمر استنكاراً وتجريماً. وهذا يُحيل إلى المسألة العنصرية أيضاً، إذ لا يرى هؤلاء مشكلة في أن يكون الحاكم عندنا مجرماً طالما أنه يلبّي بعض فانتازياهم المناهضة للأمبريالية، في وقت تثور ثائرتهم إن وبّخ الحاكم عندهم مواطناً أو تبيّن أن له حساباً مصرفياً لم يصرّح عنه؛ (د) «الاسلاموفوييا»، التي تجعلهم في نفس الموقع تماماً مع أقصى اليمين المجاهر بعنصريّته، إذ يشهرون علمانية في وجه من يعدّونهم إسلاميّين، ويفضّلون الاستبداد العلماني على الاستبداد الديني على ما يردّدون بوقاحة وسفاهة.
ولأنهي التعليق على هذا الموضوع، ينبغي الإشارة إلى أن نظريّة المؤامرة تستهوي أكثر بكثير من مجرّد الحكي عن ثورة أو انتفاضة من أجل الحرّية أو رفض لظلم ولطغيان. ففي اعتناق نظريات المؤامرات والتنقيب في المكائد تشويقٌ، وادّعاء فهم لخفايا الأمور، ووقوف «ثاقب» على خُبث العلاقات الدولية، يُفرح الباحثين عن تميّز (موهوم) أو عن مظهر خبرة ومعرفة بأسرار العالم.
لنختم بسؤال عن «الفضاء الافتراضي» السوري منذ بداية الثورة. لماذا قلت في أحد نصوصك إن «فايسبوك سوريا» لا يُشبه أي فايسبوك آخر؟
للإجابة عن هذا السؤال، سأسمح لنفسي باستعادة فقرات من النصّ المشار إليه، والذي كتبته قبل أشهر حين انقطع الانترنت في كامل سوريا لثلاثة أيام، تيقّن السوريّون وأصدقاؤهم خلالها كم أن الفايسبوك والسكايب وغيرهما من شبكات التواصل الاجتماعي صارت جزءاً حميماً وضرورياً في يوميّاتهم، وكم أن انقطاعها يعني انقطاعهم عن بعضهم وعن العالم، وانحباس أنفاسهم وكأن سجناً أوصد أبوابه على مَن هم في الداخل السوري، أو نفياً مضاعفاً أبعَدَ من هم في الخارج ويَتّمهم وجعلهم أمام رعب موتٍ مؤقّت.
وانقطاع الانترنت السوري ثم عودته وما رافق العودة من احتفال وتمرين على الفرح وعلى ما قد يشبه يوم الرجوع إلى مكان تغيّر أو تحرّر، حملتنا إلى استنتاجين.
الأول عام، ومفاده أن العلاقة الانسانية بالعالم الافتراضي صارت عظيمة التعقيد، تتخطّى الشكل الوظيفي والفائدة المعلوماتية والقدرة على التواصل الإخباري أو الترفيهي إلى ما يُشبه الاستثمار العاطفي الذي تصعب الحياة الحقيقية وانفعالاتها من دونه. ولعلّ الفايسبوك هو أكثر ما دفع نحو هذا الاستثمار وعمّقه، وأمّن له لمسات يدمن من جرّبها عليها. فمن «اللايك» إلى «الشير» ومن العام إلى الخاص، ومن الثنائيات إلى المنتديات والمجموعات، ثمة روابط تنشأ وتتصاعد محوّلة الافتراض إلى حقل تجارب وتمكين لأفراد من التعبير المباشر وابتكار أشكال تجريدية لهذا التعبير لا تُتيح اللقاءات المباشرة بالضرورة ممارستها. فوَضع صورة أو أغنية أو عبارة تشي بحال واضعها يلخّص أحياناً كمّاً من الأمور يستحيل في حديث «واقعي» التعبير عنها أو إشراك الآخرين بها. فلن يغنّي أحد في مقهى مثلاً الأغنية التي وضعها على صفحته لحظة دخول صحبه، ولن يشهر صورة ويرميها على الطاولة لإحداث وقع شبيه بما يحدثه وضعها إياها على الفايسبوك. فالفردية الفايسبوكية تتحرّر من قيود السلوك الواقعي، والتجريد بما هو أداة تعبير مكثّف في مخاطبة الآخرين تجد في الفضاء الافتراضي قدرة مضاعفة على التحوّل لغةً حقيقية. وفي لقاء الفردية بالتجريد وتحوّلهما عبر التواصل إلى عرض بتصرّف الجماعة ما يخلق روابط وعلاقات تتطلّب جميعها توصيفات جديدة.
والاستنتاج الثاني، أن سوريا في ثورتها صارت في ذاتها مرحلة جديدة في مراحل تأريخ الانترنت. فالتأريخ هذا مرّ بمرحلتين أساسيّتين: أولاً، مرحلة الاتصال بالشبكة العنكبوتية بواسطة كمبيوتر وخط سلكي يجعل المرء جالساً على كرسي في غرفة لا قدرة له على الحركة أو على التحرّر من وضعيته الجسدية ومن شكل المكان الذي يطلّ منه إلى العالم؛ وثانياً، مرحلة القدرة على التحرّك خلال الاتصال وإجرائه من أي مكان وبلا أسلاك أو عوائق مادية بواسطة الأجهزة المحمولة والتلفونات الذكية وغير ذلك من تكنولوجيا جعلت الحركة عنصراً هائل الدينامية في علاقته بقدرة البث المباشر وعدم الانقطاع عن الانترنت خلال السفر أو التنقّل أو الانتقال بين الغرف أو الشوارع، وكأن الحاجز المكاني (أو حتى المناخي) فعلاً تلاشى، أو كأن الافتراض صار في ذاته مكاناً مشتركاً إذ يمكن أن يتلاقى الناس مادياً مُبقين في نفس الوقت على «صلة» بشبكاته ومستمرّين في تواصلهم عبرها.
وما أضافته سوريا في هذا التأريخ السريع هو دفعها المرحلة الثانية، مرحلة الحركة، إلى تخطّي نفسها نحو شيء جديد. شيء يشبه الثورة في قدرتها على إحداث قدر فائض من المشاعر المتناقضة في آن واحد يجمع «اللايك» على صور مفجعة كصور الشهداء، بالدمعة بعد قراءة قصة، بالضحك بعد تعليق وبالدهشة بعد مقال أو فكرة. وفي كلّ ذلك حركة داخل حركة لا تتوقّف، وافتراض من قلب الواقع أو واقع من قلب الافتراض، لا فارق بالضرورة في طبيعة المشاعر التي يولّدها وتناقضاتها بل في أشكال تعبير المتلقّي عنها إن كان هو نفسه في حركة أو مقهى أو في بيته في ساعة متأخّرة من الليل…
لكلّ هذا، قلت مرّة إن «إنترنت سوريا وفايسبوكها من لحم ودم». وهما كثورتها يعيدان تعريف أكثر علاقاتنا بأنفسنا وبالآخرين…