يشير عنوان الدراسة إلى مقولة معروفة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وهي تخص مجموعة من الأشخاص أمر بقتلهم، فلم يمنحهم الأمان الذي منحه لأهل مكّة حين دخلها فاتحاً. تستخدم المقولة شعبياً على نطاق واسع، خاصة في ظروف كالتي نعيشها اليوم، يطلق قائلها من خلالها حكماً على من يرى أنّهم ارتكبوا أكبر الكبائر كالإفساد في الأرض. بعضهم يرى أنها تنطبق على من يبدّل دينه في ظروفنا الحالية ، وهناك من توسّع في استخدامها حتى وجد أنها مناسبة للتطبيق في حالة علماء ومشايخ السلطة المستبدّة. طبعاً من نافل القول أن هناك من يعتبر تطبيقها عند القصاص من مجرمي السلطة في زمن الثورات مسألة بديهية لا جدال فيها، سواء كان المجرم هو الرأس الكبير أم كان أحد المنفّذين والأدوات ضمن المراتب الأدنى.

عموماً لست هنا بصدد البحث في حكم الشرع وكيفية التعامل القانوني العادل مع كبار المجرمين أوصغارهم أو حتى مع مشايخ السلطة وأعوانها المسلّحين والإيديولوجيين، لكن ما أسعى إليه في هذه الدراسة المختصرة هو تحرير المقولة (الحديث) من سلطة البديهيات الذهنيّة المتعلّقة بها، وهذا لا يتم إلا بالعودة إلى الروايات الأصلية وإعادة قراءتها بشكل آخر، لفهم ظرفها التاريخي وحجم تطبيقها حين أطلقت للمرة الأولى، ومدى الانسجام بين ظروف تطبيقها الأولى وظروف استخدامها الحالية، وبين هذا وذاك نستطيع، من خلال المناقشة، تسليط الضوء على بعض الخلل الذي نعاني منه في تعاملنا مع النص الديني والرواية التاريخية.

وردت المقولة ضمن كتب السيرة والحديث بعدّة صيغ تأخذ جميعها منحيّين اثنين، أما المنحى الأول فأختار للدلالة عليه الصيغة التالية التي وردت في مسند أبي يعلى تحقيق حسين سليم أسد (ج2/ص100):

757حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا أسباط بن نصر قال: زعم السدي عن مصعب ابن سعد: عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة نفر وامرأتين قال «اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة»: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.

فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً -وكان أشب الرجلين- فقتله.

وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق.

وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً. ها هنا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فما ينجيني في البرّ غيره اللهم، إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه [أن] آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً. قال: فجاء فأسلم.

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «ما كان فيكم رجل شديد يقوم إلى هذا -حين رآني كففت يدي عن بيعته- فيقتله؟». قالوا: ما يُدرينا يا رسول الله ما في نفسك [هلا أومأت إلينا بعينك]؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين». قال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.

المنحى الثاني أختار له الرواية التي وردت في صحيح أبي داوود:

2335 عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: «اقتلوه» (صحيح). قال أبو داود: ابن خطل اسمه عبد الله وكان أبو برزة الأسلمي قتله.

إذن، الصيغة الأولى تبيّن أن أمر القتل كان استباقياً بحق مجموعة من المجرمين، حتى وإن تعلّقوا بأستار الكعبة، وتخص الصيغة الثانية رجلاً واحداً قيل للنبي (ص) أنه قد احتمى بالكعبة فقال «اقتلوه». عموماً لا يوجد أي تعارض بين الصيغتين. أوردتهما كمدخل لموضوعنا الذي سأسلّط من خلاله الضوء على بعض المسائل انطلاقاً من فهم ملابسات المقولة نفسها؛ المقولة التي يُساء فهمها واستخدامها من قبل الجميع (تقريباً)، فالعقل الإسلامي يخطئ في قراءتها بحكم ظروف تكوينه وبحكم اعتماده «النقل» بدرجة أساسية، و«التفكيك» بدرجة ثانوية. إن اعتماد النقل لروايات متداخلة ومتناقضة أحياناً وخاطئة في أحيان أخرى سيوقع هذا العقل، ولا شك، في مأزق كبير يضاف إلى مشاكل تكوينه الأساسية. يُساء استخدام المقولة أيضاً من العقل المضاد للإسلامي، الذي يبحث في ثغرات يُثبت من خلالها دموية الإسلام، بشكل خاص دموية نبيّ الإسلام نفسه وتنكيلَه بأشخاص كان يمكنه العفو عنهم، وهم يجدون في التراث ما يلبّي هذه الحاجة خاصة في المرويات التي مُرّرت دون أن تأخذ حقّها من التوضيح والتفنيد، أو النبذ إن كانت خاطئة.

أزمة العقل أمام هذه الروايات -التي تتعلق ببحثنا- تظهر من خلال تفسيره لها واستنتاجاته منها، ولو قمنا بجمع التفسيرات المختلفة القديمة والحديثة (المستنسخة من القديمة) للأمر الذي أصدره النبي (ص) بحق هؤلاء المذكورين فإننا سنجدها تحوم حول المبرّرات التالية: أن منهم من ارتدّ وقتل أحداً من المسلمين، ومنهم من ارتدّ وكان يدّعي أنه كان يصرف النبي (ص) عن بعض كلمات الوحي، فيكتب غير ما أنزل، ومنهم من كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

تراوحت مبرّرات صدور الأمر بالقتل إذن، بين الردّة عن الدين؛ أو الجمع بين الردّة وجناية القتل؛ أو العداوة الشديدة للنبي (ص). ونذكر أيضاً أن هنالك من خرج بنتائج غريبة من هذه المقولة، كابن عبد البرّ على سبيل المثال، الذي استدلّ من قتل ابن خطل على جواز قتل الأسير قبل أن يُعرض عليه الإسلام! ذلك كما أورد ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري.

العداوة الشخصيّة كمبرر للقتل

هنا نبدأ بسؤال: هل العداوة مبرر مقنع لفهم صدور هذا الأمر بالقتل؟

المسار التاريخي للأحداث ينقض هذا الادعاء من أساسه، فلو كانت هذه العداوة هي السبب الحقيقي لكان الأولى أن يصدر الأمر بالقتل في حق العشرات من عتاة قريش وساداتها، الذين كانوا وراء تجييش الدهماء فيها لقتال المسلمين. ينقض هذه الفرضية بشكل كامل موقف النبي (ص) من أبي سفيان بن حرب، وهو أحد زعماء قريش والذين ناصبوا النبي العداء حتى اللحظات الأخيرة قبيل دخوله مكّة، وكان في السابق أحد الذين خططوا لقتل النبي قبل هجرته إلى المدينة، فلو كان أمر القتل مخصصاً لأصحاب العداوة الشديدة للنبي وللإسلام فليس هناك من هو أولى بالقتل من أبي سفيان، ومن بعض الذين جاءوا معه إلى النبي (كحكيم بن حزام) لاستطلاع أمر حشوده على مشارف مكّة أو لمحاولة ثنيه عن خطّته وتجديد الصلح معه؛ ها هو أبو سفيان بين يدي المسلمين، فما الذي حصل بينهم وبين هذا العدو والخصم اللدود، الخصم الشخصي السياسي والفكري والعسكري، أي الذي جمع كل أشكال الخصومة في وجه النبي ودعوته؟ ما إن دخل أبو سفيان بين المسلمين مطأطئ الرأس وظهرت عنده بوادر الميل عن معتقده، حتى سارع النبي بإعطائه الأمان ودفعاً له باتجاه الطريق الصحيح أعطى الأمان لكل من دخل داره: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» حسب رواية مسلم.

تعامل العقل الإسلامي مع موقف النبي (ص) من أبي سفيان يكشف أحد عيوبه الهامّة، فلقد سادت بعض الأفكار كأنّها بديهيات عن تفضيل النبي لأبي سفيان بين قومه، أو إعطائه مكانة أكبر من غيره كونه من سادات قريش، لكن الحقيقة أن ما أعطاه النبي لسيّد قريش لا يختلف عما منحه لأي قرشّي آخر سوى أنه ذكره بالاسم، فمن دخل دار أبي سفيان آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. لقد أعطى أبا سفيان ما أعطى لغيره إن قام (غيره) بنفس الفعل.

إن أول ما جاء به الإسلام هو تهديم الحواجز النفسيّة بين الأسياد والعبيد على طريق المساواة في الإنسانية، كان ذلك في البدايات والمسلمون أقليّة لا سلطان لهم، ولو قبل النبي (ص) حينها بتثبيت تلك الطبقيّة لما حاربه قومه وأخرجوه بعدها، فكيف يمكن للعقل الإسلامي أن يُحدّث نفسه بأن النبي أمر بقتل عكرمة لعداوته وسامح أبا سفيان مع عداوته؟ وكيف يقبل هذا العقل أيضاً بأنه فضّل أبا سفيان على غيره لمكانته في قومه؟ ما كان للنبي (ص) أن يعطي الرجل، فقط لزعامته وسطوته، شيئاً لا يستحقّه، في وقت يعيش فيه المسلمون أفضل لحظات التمكين في الأرض!

إن سوء فهم موقف النبي (ص) لم يحدث فقط في وقت متأخّر، بل أُسيء فهم موقفه منذ اللحظة الأولى من قبل الأنصار حين قالوا حسب رواية مسلم:

فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفةً بعشيرته ورغبةً في قريته. ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال «قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفةً بعشيرته ورغبةً في قريته. ألا فما اسمي إذن (ثلاث مرات)! أنا محمد، عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم». قالوا: والله ما قلنا إلا ضنّاً بالله ورسوله. قال: «فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم».

لم يفهم الناس يومها موقف التسامح الذي دخل به النبي مكة، مما استوجب إعادة التذكير بجوهر الرسالة، فلا عجب أن يحدث سوء الفهم بعد ذلك بقرون، وأن يقال: ليرضي غرور أبي سفيان. والأكيد أنه لو كان لأبي سفيان جرمٌ جنائي غير حالة العداء العقائدي الذي ترتّب عليها حروب طويلة لكان استحقّ القتل عدلاً، ولما منعته مكانته في قومه، فدعوة الإسلام بكل تفاصيلها ترفض هذه الادعاءات، والنص كما هو واضح لم يعطِ أبا سفيان أكثر مما أعطى غيره. .

اليوم يعيد العقل إنتاج هذه التفسيرات، فهي مواتية لتكوينه، فالعقل الذي يعيش أزمة التقسيم الطبقي على أرض الواقع، سيجد هذه التفسيرات أقرب إلى الحقيقة، بل حتى إن لم تكن موجودة فإنّه سيقوم بإيجادها بنفسه!

الردّة كموجب للقتل

مسألة الردّة ما تزال معلّقة وغير محسومة في الفكر الإسلامي، ولقد كُتبت فيها أبحاث عديدة تثبت أنه لا وجود لما يسمى «حد الردّة»، الحد المذكور في كتب الحديث والتراث الإسلامي. ولكنها بقيت أبحاثاً بعيدة عن نطاق التدريس الشرعي الذي ما يزال يطرح المسألة وكأنها حقيقة مطلقة لا جدال فيها! ولن أدخل في تفاصيل الردّة وحَدّها الذي يتعارض مع جوهر الخطاب القرآني كما أفهمه، ولا أرى أساساً أن لأمر القتل الذي أصدره النبي في حقّ هؤلاء علاقة بردّة بعضهم، ويمكن إثبات ذلك من مناقشة الرواية الأولى التي أوردتها عن مسند أبي يعلى، فقصة عبد الله بن ابي السرح الذي دخل في جوار عثمان بن عفّان تتعارض بشكل واضح مع حدّ الردّة، فما كان لعثمان أن يشفع في حد من حدود الله (وهو حد الردة) حسب زعم من يؤمن به، بينما نَهَر النبي (ص) زيداً حين تشفّع للمرأة المخزومية التي سرقت، بل غضب غضباً شديداً وخطب في الناس قائلاً حسب رواية البخاري: «أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلَكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعت يدها». نقاش بسيط للرواية يُظهر أنه لو كان للردّة حد فما جاز لعثمان أن يتشفّع فيه، وسأترك الخوض الموسّع في هذا الأمر لمن يؤمن بصحة الرواية المنسوبة إلى النبي (ص). من جهتي لن أخوض فيها أكثر من ذلك، فأنا أدّعي بأنها رواية لا يمكن أن تصح عن رسول الله خاصة في جزئها المتعلّق بقصة عبد الله بن أبي السرح وسآتي على تفصيل الأمر بعد قليل.

إشكالية قصة ابن أبي السرح في الرواية المشهورة

بخصوص عبد الله بن أبي السرح، فإذا أخذنا قصّته بخطوطها العامة سنجد التالي: الرجل شكّ بنبوّة محمد (ص)، وهمّ بتحريف بعض الآيات القرآنية، ثم هرب إلى قريش وأعلن عودته في دينها، أي أن الرجل ارتدّ وبقي في مكّة هارباً من المسلمين حتى يوم الفتح، ثم دخل في جوار عثمان بن عفان ربما ظنّاً منه بأن المسلمين سينتقمون منه لردّته. تلك كانت الخطوط العامة، أما التفاصيل الموجودة في الرواية فيفترض أن تكون مُنكرة بدون تردّد، لأن مضمونها يسيء إلى النبي الكريم نفسه. فسياق الرواية يظهر النبي محرجاً وغير قادر على اتخاذ القرار بين أصحابه، ويظهره أيضاً، بعد أن اضطر محرجاً لقبول مبايعة الرجل له، نادماً على أمر كان يريده أن يحدث ولم يحدث، يظهر ذلك من خلال معاتبته لأصحابه «ما كان فيكم رجل شديد يقوم إلى هذا –حين رآني كففت يدي عن بيعته– فيقتله؟». يظهره أيضاً وهو يُظهر غير ما يُضمر، في موقف ضعيف لا يصحّ أن ينسب لنبيّ. ويظهر عثمان بن عفّان أكثر سماحة منه من جهة، ومخالفاً لأوامره في قتل الرجل من جهة أخرى (على فرض أنه أمر بقتل الرجل، وهذا لم يحدث أساساً كما أزعم). ولا أدري كيف يمكن تمرير مثل هذه الروايات المسيئة بحقه صلى الله عليه وسلم، وما الذي يجبر العقل المسلم على قبول هذه الرواية الغريبة والتي تحمل إساءة للرسالة ولصاحب الرسالة!

لا يمكن أن يصدر أمر صارم من النبي بحق شخص ويخالفه فيه مجموع من حوله، ولا يمكن أن يظهر النبي بهذا الموقف الضعيف، ولا أن يصدر أمراً بقتل رجل على خلفية موقف فكري.

باختصار هذا لا يمكن، ولا يمكن أن تكون تفاصيل هذه الرواية صحيحة من الأساس.

الأسباب المؤكّدة لحوادث القتل التي وقعت

البحث في تفاصيل القضايا التي نفّذت فيها أحكام القتل يعزّز رفض التفاصيل المتعلّقة بقصة عبد الله بن أبي السرح، فالرجلان اللذان نفّذت فيهما أحكام القتل هما عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة، أما الأول فلقد ذكر ابن اسحاق بخصوصه التالي:

كان مسلماً ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مَولىً له يخدمه، وكان مسلماً، فنزل منزلاً، وأمر المولى أن يذبح له تيساً، فيصنع له طعاماً، فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركاً.

وكذلك روى عن مقيس بن صبابة:

وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقتله لقتل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركاً.

إذن نحن في أكثر الروايات صحّة أمام أمر بالقتل يتعلّق بأربعة أشخاص: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، اثنان منهما تمّ تنفيذ الحكم فيهما، والآخران تمّ الصفح عنهما ضمن ملابسات مختلفة.

القاسم المشترك بين المقتولين هو ارتكابهما جناية القتل، فكلا الرجليّن كانا مسلمَين وقاما بجُرم الغدر والقتل بحق أنفس بشرية، ثمّ هربا وارتدّا عن دينهما فراراً من القصاص الذي كان سيقع فيما لو تمت إدانتهما في مجتمع المدينة، وهذا حقّ لم يسقط قبل الفتح ولا يسقط بعده، ولا يكتمل العدل إلا بتحقيقه.

الحالات التي نجت من العقاب، بحسب الروايات، لم يجرّم أصحابها بجناية قتل أو غير ذلك، فعكرمة عدو شرس للإسلام والمسلمين، ولكن ينطبق عليه ما قيل في أبي سفيان، لكن الفرق بينهما أن أبا سفيان ذهب إلى المسلمين فكانت ظروف التقائه بهم مختلفة عن ظرف عكرمة الذي ترأّس مع صفوان بن أمية أوباش قريش للتصدّي للمسلمين، ولو قُتل حينها لكان قتيل معركة (وقد كانت تعليمات النبي للمسلمين صارمة بأنهم لا يقاتلون إلا من قاتلهم)، ولكنّه فرّ من المسلمين خوفاً من العقاب ثمّ عاد وعومل كما يعامل الخصم العسكري أو السياسي بعد انتهاء المعركة.

أما الحالة الرابعة فهي كما سبق وفصّلت فيها، فالرجل (ابن أبي السرح) لم يقتل لأنه لم يرتكب جناية يستحق عليها القتل، والتفاصيل الواردة بخصوصه لا يمكن قبولها عقلاً.

خلاصة

هذه هي ملابسات مقولة «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» التي يستخدمها البعض لإثبات مزاعم عديدة لا رابط بينها أحياناً سوى ما تحمله من مضامين القوّة والبطش، يتعرض النص أثناء توظيفه إلى عملية تحميل بمضامين لا يقصدها من ناحية، كما تظهر بعض التفاصيل المدخلة في النص ولا يمكن أن تصح أصلاً، خاصة إن كانت تسيء للنبي ولقيم الرسالة ككل.

أما أمر القتل نفسه فلقد صدر وهذا لا شكّ فيه، وبدون تردّد أستطيع أن أقول بأن الأمر مقيّد بالذين تمّ تنفيذ الأمر بهم، وهما شخصيّتان اثنتان (بحسب تقاطع الروايات الصحيحة). أما الذين لم ينفّذ القتل بحقّهم فهذا لأن أمر القتل لم يشملهم من الأساس،  حتى وإن تكاثرت الروايات على ترديد ذلك، فلا يمكن أن يصدر أمر على هذا القدر من الأهميّة والحزم ولا يتم تنفيذه بدقّة. يمكن أن نتفهّم أن يحدث تنفيذ خاطئ نتيجة فهم خاطئ من شخص بعيد عن النبي (ص)، لكن أن يحدث الخطأ في حضرة النبي ويسكت عنه محرجاً فهذا غير وارد، هذا من جهة.

من جهة ثانية، وربما هي على درجة أعلى من الأهميّة، أن مسألة العقاب والعفو ليست مسألة عبثيّة، ولا يمكن أن نقبل التفسيرات العبيثيّة لها. كيف يمكن أن يتقبّل العقل أن يصدر النبي أمراً صارماً بقتل أربعة أشخاص، ينفّذ الأمر بحقّ اثنين ويُلغى بحق الآخرين، مع أن الظروف لم تتغيّر ولم يطرأ أي طارئ على الأحداث كما تظهر الروايات؟ ولا يوجد طارئ يُسقط حكم القتل في شخص يستحقّ القتل فعلاً. العبثيّة موجودة في التفاصيل الدخيلة، أمّا الإسلام نفسه فلم يأتِ إلا ليُخلّص الإنسان من عبثيّته، فكراً وسلوكاً. وأزعم أن هذه العبثيّة لا تنتهي إن لم نعترف بأن حكم القتل لم يصدر إلا في حقّ الذين نفّذ فيهم الحكم.

الرواية في النهاية ليست أثمن من الترابط المنطقي بين ظروف تشكّلها وبين المنهج الأصلي الذي يجب أن يعتبر ثابتاً تُعرَض عليه الروايات. والحمولة الفكرية للرواية ينبغي ألا تكون مهيمنة على العقل، الذي من مهامّه الأساسية عرض الرواية على الأصل وفهمها ضمن ضوابط المنهج وأخلاقياته الأساسية. أيضاً مهمة العقل أن يعزل الرواية، إن كانت تسيء إلى صاحب الرسالة!