كان هناك يوماً شعور مميز بالفخر الوطني في سوريا. تدفّق هذا الشعور من الثقة في حضارة تعود إلى زمن الأبجدية الأبكر في التاريخ، مع مشهد غنى البلد بالمواقع الأثرية، بما فيها وجود بعض أقدم المدن المأهولة بشكل مستمرّ عبر التاريخ في العالم. جاء هذا الشعور من عمق الثقافة المحلية، حيث نشأ من موسيقا سوريا العربية، ومن كياسة سلوك السوريين، ومن براعة المطبخ السوري، ومن صدق حُسن ضيافة السوريين. وتطور هذا الشعور بالفخر نتيجة الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) الحديثة، حين اختطت دمشق لنفسها دوراً أكبر وأكثر جرأة من مصادرها الشحيحة التي أتيحت لها.

بثبات ورغم الضغوط الكبيرة وقفت دمشق بصورة خاصة مع القضية الفلسطينية، القضية التي يشعر السوريون بها ربما بشكل أقوى من أي شعب آخر (باستثناء الفلسطينيين). قد يكون النظام السوري عدواً هادئاً بشكل مريح لإسرائيل، ولكن سوريا كانت الدولة الوحيدة التي مازالت «تقاوم» في خريطة العالم العربي.
غذّى الفخر السوري أيضاً هوية وطنية قوية، وشعوراً هادئاً بتوكيد النفس حتى بين الفلسطينيين اللاجئين، المطاردين من قبل ما يسمى الآن إسرائيل، الفلسطينيين الذين امتزجوا مع سكان البلد خلال السنين (في تضارب واضح مع شعور أقرانهم بالنفي في بلدان أخرى في المنطقة). ظهر مثل هذا الرصيد الوطني عند السوريين عام 2006، عندما هربت أعداد كبيرة من الناس من العنف في لبنان والعراق المجاورين وتم امتصاصهم بسهولة نادرة في المجتمع، الذي بدا أنه يعرف نفسه ويقبل نفسه جيداً وبصورة كافية كي يفتح ذراعيه للآخرين. حدثت احتكاكات (كما في أي أزمة لاجئين)، ولكنها كانت قليلة بشكل ملحوظ، فيما يخص التوترات الطائفية وقوة التدفق البشري.

لقد خسر السوريون الكثير في الصراع الذي احتبسوا فيه دون طريق رجوع ومع مؤشرات ضعيفة على وجود طريق تقدم سواء بالنسبة لمؤيدي الرئيس بشار الأسد أو بالنسبة لقوى المعارضة المختلفة. يدفع السوريون ثمناً باهظاً في هذا الطريق المسدود.

يحدث الآن تمزيق للنسيج المديني في البلد. ففي مدينة حمص الكبيرة والحيوية أصبحت مناطق السنة المتجاورة أنقاضاً، وتحولت المنطقة المسيحية الرئيسية حول السوق المركزي إلى تراب. وتسير حلب، المدينة الصناعية النشطة، في طريق مشابه، كما يحدث ربما لدمشق العاصمة. تهدّم الإرث العمراني، أو سُرق، مما أزال مصدراً رئيسياً وحيداً من مصادر الفخر الوطني، بالإضافة إلى زوال العوائد من السياحة في المستقبل. اقتَلع ومزّق الموت وانقسام الآراء التي لا يمكن جسرها العائلات والأعمال والجمعيات الدينية.

تبلغ أعداد القتلى الآن في سوريا عشرات الآلاف المضاعفة، ولا يوفّر الموت الأفضل والأكثر ذكاء أو النشطاء الأكثر موهبة أو الأطباء الملتزمين أو الأمهات الشجاعات أو الآباء المخلصين أو الأطفال الصغار. من السهل على المراقبين في الخارج نسيان الوجوه الإنسانية خلف الأرقام. بالنسبة للسوريين، هذه الأرقام هي أولادهم وبناتهم وجيرانهم وأصدقاؤهم. أعداد القتلى بين المحاربين كبيرة إلى درجة أصبح الموت روتيناً يومياً، وأصبح المقاتلون يتجاوزون حقيقة موت رفاقهم بين أيديهم.

مع ذلك، ووسط كل هذا الأسى، فإن العديد من السوريين يجدون أن أصعب ما لا يستطيعون التخلص منه هو الشعور بالخزي الذي يجلّل حياتهم الممزقة: الآباء الذين اختبروا مرةً متعة الحياة العائلية، وبالكاد بقوا أحياء مع أقربائهم الناجين من الحطام، الهاربون مع مقتنياتهم الموضوعة في أكياس بلاستيكية والذين تم إرجاعهم أحياناً من العراق الذي أغلق حدوده بأنانية، أو من الأردن الذي لم يسمح للفلسطينيين بدخوله، وأحياناً من تركيا، أما الذين نجحوا في عبور الحدود فقد عوملوا بشكل سيء وباحتقار، وأحياناً من قبل أولئك الذين رحبوا بهم مرة (مثل اللبنانيين)، وكذلك النساء الضحايا الذين أُجبروا على الزواج في الأردن، والمجتمع الدولي الكريم بالكلمات وبالبكاء والشحيح بالمساعدة الفعلية.

لم يستطع سياسيو العالم سوى تسديد جزء من 1.5 مليار دولار وعدوا بها في كانون الثاني. السوريون الذين تعاطفوا مرات كثيرة بشكل قوي مع ضحايا الظلم وُوجهوا بـلامبالاة ساعة احتاجوا المساعدة.
عندما ينتهي القتال، في النهاية، قد يكون شعور الكرامة الوطنية هو الشيء الأكثر صعوبة في استعادته عند السوريين. رجل الأعمال السوري الذي لا يستطيع أن يقرّر من يكره أكثر: النظام أم المعارضة، قالها بعبارات مريرة: «سوريا انتهت بقدر ما كانت تعني لي، ومهما كان اعتقادي فما كان يجعلني واثقاً مرة من هويتي قد ذهب، وأياً كان المنتصر فسيكون معتمداً على من سيدعمه. استقلالنا انتهى».

من “الإخوة” إلى “الآخرين”

فقد النظام وحلفاؤه أي موقف أخلاقي فيما يخص خياراتهم من قبل، والتي صاغوها كصراع وجودي، فأصبحت النهايات بحد ذاتها تبرّر وسائلهم الشائنة. واستجابة لذلك فإن الكثير من المعارضين تبنَّوا تدريجياً نظرة مشابهة للعالم حين ساقوا وحشية العدو كعذر لتطرفهم إلى درجة لم يعودوا يميّزون تطرّفهم كخطأ. وقد علّق أحد قادة المتمردين قائلاً بعدم ارتياح: «أرى التغير في نفسي وفي رجالي». وقد وصف هذا القائد الانتقال من الشعور بالأسف على أعدائه إلى إعدامهم ببساطة. ولاحقاً، بعد عدة شهور، توقف ذلك القائد عن القلق بشأن ذلك. أكثر من أي وقت مضى أصبح قتلى أي طرف يمحون أي ندم لخسارات الآخرين.

يرى المتحاربون أزمتهم كلعبة مجموعها الصفر: «اقتل أو سوف تُقتل». حتى بعض أذكى النشطاء بدؤوا يقولون أن الجنود (وفي بعض الحالات العلويين) الذين وصفوهم مرة كإخوة، يستحقون ما يحدث لهم طالما فشلوا في نبذ النظام.

أصبح المجتمع المسالم سابقاً متشاركاً في سرّه بأشكال من اقتتال الأخوة لا يمكن وصفها. مازال العديد من الناس مستمراً بإصراره على أن «نحن لا نشبه العراق أو لبنان»، ويتكلم آخرون عن القتل كما لو أنه يحدث في بلد أجنبي آخر، وكأن السوريين لا يقتلون السوريين. تشير المعارضة إلى النظام كسلطة احتلال، وتميل إلى التشديد على وجود ثقافة الغريب (الأجنبي الدخيل) عند الأقلية العلوية، التي تشكل المركب الرئيسي في بنية النظام المحاربة.
وبالعكس، فإن المؤيدين يقولون أنهم يحاربون ضد جماعات جهادية غازية، حيث تعرض وسائل الإعلام الرسمية بشكل روتيني ضحايا غزوات النظام كإرهابيين أجانب.

لم يكن الصراع أبداً متكافئاً، وقد تقدم الصراع بطريقة منحازة من حيث إمكانية التوقع، فكلما اتّحدت المعارضة أكثر استغلّ النظام مصادر الدولة العسكرية والمالية التي لا يمكن مضاهاتها في دعم الروح الوحشية لأجهزة مخابراته.

أثار النظام من اليوم الأول مخاوف العقاب الجماعي بين العلويين، فأطلق هستيريا مذابحه، حيث أطلق الرصاص الحي على المحتجين الذين كانوا بمعظمهم غير عنيفين في المراحل الأولى للانتفاضة، وفيما بعد أطلق القذائف البالستية على سكان المناطق المتجاورة في حلب وغيرها. وبين هذا وذلك ذبحت الميليشيا الطائفية للنظام عائلات بكاملها، وكانت مذبحة الحولة في أيار عام 2012 واحدة من سلسلة جرائم جماعية صادمة (الحولة قريبة من المحور المار بين دمشق والساحل الشمالي الغربي والمهم للنظام). لم يكن قلب المعارضة مسالماً تماماً، بل لقد نما فيه الشرّ وقِصَر النظر أيضاً. لم يكن الخطف من أجل الفدية وتعذيب وإعدام المحتجزين والاعتداءات التي لا تميز بين السكان… حكراً على أتباع النظام المخلصين، مما أثار الذعر لدى كثير من السوريين الذين لم يدعموا من قبل «الوضع الراهن» للنظام. نمت توتّرات اجتماعية حين وصل مقاتلون ريفيون بشكل رئيسي إلى مدينة حلب في تموز عام 2012، مما جعلهم في حالة احتكاك مع الطبقات المدينية التي لم تكن ترغب في رؤية المعركة في المدينة. وفاقم الامتعاض من نقص التعاطف الأخلاقي مع التمرّد حين نهب المقاتلون المنشآت غير المرتبطة بالنظام مثل معامل الحلبيين الأثرياء وحتى المدارس. وفي بعض الأماكن اهتمت مجموعات معارضة مسلحة بشكل واضح بغنائم الحرب قصيرة الأمد، أكثر من المصالح الوطنية بعيدة الأمد. فإذا أضفنا الطرق السلطوية للإسلاميين المتكاثرين في أوساط المقاتلين، وتنمّرهم على الأقليات والسوريين العلمانيين، ستبدو الصورة أكثر سواداً. وهكذا يمكن أن نقول أن عدم تناسب الوسائل المتاحة لمصالح النظام جعل النظام يسير باتجاه مستويات متزايدة من العنف.

لقد ميّز الفخر جانباً أكثر من الجانب الآخر. فمن البداية كانت هناك مشاعر نبيلة قليلة فيما يخصّ دعم قمع النظام، وقد سيطر على الموالين الخوف الجمعي والتحيّز الاجتماعي والأنانية الشخصية.

اختار الموالون عدم رؤية الوحشية الواضحة التي تعامل بها النظام مع المحتجّين والنشطاء السلميين وأفراد الميليشيا المسلحة وأقربائهم، وبدلاً من ذلك وقف الموالون بثبات خلف الرواية الرسمية للشَجاعة في وجه المؤامرة والخيانة. لقد هاجم الموالون كل فشل للمعارضة بتبريرهم لكل القرارات التي اتخذت فيما بعد بحقهم قبل أن تصبح المعارضة بالصورة البشعة التي وصلت إليها فيما بعد.

أشاح المعارضون نظرهم عن المعاناة الحادّة، قائلين بأنها معاناة جلبها الناس لنفسهم. لم يعد أكثر الناس في المجتمع السوري ممن يمتلك أفضل دراية وثقافة يميل لوضع غمامات على أعينهم. أقرّ سفير سابق بأن النظام مارس قمعاً وحشياً ولكنه برّر ذلك كرد فعل على راديكالية المعارضة، بينما الحقيقة أن القمع الوحشي للنظام هو الذي تسبب في راديكالية المعارضة. عند الحديث عن الفخر من جانب الموالين نجد هذا الشعور كامناً في تضحيات أولئك الذين يوصَفون بأنهم حاربوا ببطولة من وجهة نظرهم: الدفاع عن الدولة والوطن. اكتسبت صدقيتَها هذه الرواية (التي كان النظام متحمساً لنشرها) منذ الوقت الذي شاركت فيه العناصر الموالية في اعتقال المتظاهرين لإنقاذ النظام، وهكذا بتمزيقه للمجتمع وبإغلاقه الطرق لأي تغيير سلمي مما جعل المعارضة أكثر عنفاً وزاد من عدد الإسلاميين والدعم الأجنبي أكثر من ذي قبل، أعطى النظام جنوده العدو الحقيقي كي يحاربوه.

حين تحولت الثورة من احتجاجات الشوارع إلى حرب حقيقية، أفسحت المظاهر الأولية المباركة (مواجهة الدبابات بالورود وحمل القرآن والصليب والهتاف بأن الشعب السوري واحد) في كثير من الحالات الطريق للكراهية الصرفة. أصبحت المجموعات المسلحة التي تشكلت في البداية من الشباب المحليين بهدف حماية عائلاتهم وأصدقائهم وحشية وذات أيديولوجية مليئة بالكراهية. بحث أفراد الميليشيات عن دعم قوى أجنبية لطالما أثارت الريبة سابقاً في النفسية الجماعية السورية، مثل قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا، الدول التي قدمت معظم الدعم المادي، وكذلك فرنسا والولايات المتحدة.

لا يجب أن نخلط بين عدم الثقة الناجم عن ذلك مع الشعور بالعداء للغرب الذي طبع إعلان الاستقلال والموجود من العهد الاستعماري. لقد بقي ذلك الشعور حاضراً، ولكن الاتهامات الأقوى الآن هي للداخل أكثر مما هي للخارج. يلوم السوريون بعضهم بعضاً على بيع أنفسهم لإيران أو للخليج، وللعمل على حساب المحور الشيعي أو السني، وللارتهان لإسرائيل سواء كان ذلك بمحاربة أو دعم النظام بناء على الجهة التي يقفون معها.

بالرغم من أن هذه المشاعر المدمّرة نمت بطريقة مرعبة ضمن المعارضة، ولكنها ما تزال تصارع للسيطرة على شيء آخر من أجل إيقاظ أمور شعبية وجدت منذ البداية لتطوير ثقافة حية للمعارضة تحت النار، ولمحاربة الأعداء المخيفين والبقاء في البلد، كل ذلك هو فخر أولئك الذين لم يعودوا خائفين من النظام أو من أهل بلدهم ولا من المستقبل. شرح ذلك الشعور شاب دمشقي قائلاً: «إنه شعور من الصعب وصفه ولكنه يستحق الموت من أجله»، كما قال رجل مهني من دمشق في مقابلة سابقة قبل أن تتحول الأمور إلى كابوس: «الأشهر القليلة الماضية كانت بعض أسعد أيامي».

«هناك شعور بالحياة لأول مرة»، هذا هو شعور السوريين عندما يصرّون على معنى أنهم «قرّروا» فيما القذائف تنهمر على مدنهم. على سبيل المثال، انتقل أهل سهل حوران الجنوبي المضطهدين إلى شكل جديد من الشعور بقيمة الذات عندما اكتشفوا أنفسهم كروّاد للانتفاضة. لا يوجد عامل آخر بإمكانه أن يشرح مقاومة هؤلاء التي أظهروها خلال سنتين من القصف الذي لا يهدأ. توجد مشاعر مشابهة في أماكن أخرى. ولهذا السبب، رجال ونساء في المخيم الممتدّ داخل الحدود السورية التركية، حيث فقدت العائلات الكثير، يقولون بأنهم لا يشعرون بالندم: «مافعلناه كان هو الصواب».

تآكَلَ هذا الشعور الجمعي بامتلاك هدف محدد (وهو دائماً أكثر ما يخيف النظام) عندما سقط النشطاء السلميون وطفا الراديكاليون على السطح وتسلّل المجرمون وتغلّب اليأس على الأمل. ولكن ذلك الشعور لم يتحكم بهم، وقد جعل الملتزمين بالنضال ضمن المعارضة أكثر شعوراً بالمسؤولية بكثير من نظرائهم في معسكر النظام. ارتفع صوت الكثير من السوريين المؤيدين للمعارضة ضد التفجيرات التي أعلنت جبهة النصرة (الجهاديون) مسؤوليتها عنها، والتي قتلت المدنيين، ولكن الموالين بقوا صامتين عندما فعلت القذائف البالستية للنظام نفس الشيء. كان على مجموعات المعارضة المسلحة أن تواجه المظاهرات والأشكال الأخرى من المقاومة عندما خذلت هذه المعارضة المسلحة المتعاطفين معها بتصريحاتها المستهترة أو بسلوكها الوحشي أو بالاستقواء على اللجان المدنية أو بفرض الشريعة الإسلامية. في تل أبيض مثلاً، المدينة الواقعة شمال شرق محافظة الرقة، احتجّ السكان المحليون على محاولة المحاربين الاستيلاء على المقرّات المدنيّة التي أنشؤوها بأنفسهم. وعلى العكس من ذلك في الطرف الآخر: فعندما اعتقلت أجهزة المخابرات موالين عن طريق الخطأ وعذبتهم حتى الموت قبل أن تتاح لهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم، بقيت عائلاتهم صامتة ووحيدة. حدث ذلك بسبب التفويض الشهير المعطى للنظام والذي يهدف إلى تحطيم العدوّ المرعب بأي ثمن.

المعارضة التي وُلدت من الرغبة في سوريا أفضل، يجب أن تصارع من أجل آمال أعرض وأكثر تعارضاً. في الحقيقة جزء من المعارضة مليء الآن بهواجس الثأر وقتل بشار وإسقاط النظام والقضاء على داعميه في البلد، وقد أصبح كل ذلك هدفاً بحد ذاته. ولكن العديد من أفراد الميليشيات والنشطاء لديهم طموحات أكبر، سواءً للأفضل أو للأسوأ. هم يريدون أن تكون المعاناة مستحقّة من أجل شيء كبير. هم ينوون إعادة اختراع البلد. البعض مصرون على أن يجعلوا البلد أكثر ديمقراطية والآخرون يريدونه أكثر إسلامية، ولا شك أن هذا التوتر سيلعب دوراً في سوريا كما يفعل في بلدان أخرى من هذه المنطقة، التي تفتقد لدفة القيادة. وما زال آخرون يعتقدون بعدم وجود تناقض بين هذه المصطلحات.

تمتلك المكونات العديدة للمعارضة رؤى مختلفة وغامضة وقلقة في كثير من الأحيان حول مستقبل سوريا، وتتنافس وتصطدم ببعضها هذه المكونات، كما تتعاون وتتجاور في نفس الوقت.

السخرية السائدة في الصراع هي أن السوريين غير متفقين كثيراً على كل ما تقدم، فهم مختلفون على الرئيس وعلى شخصية الأب أو أبي الشرور كلها، وعلى من يمثّل أقل الشرَّين: النظام الاستبدادي أم المعارضة المتشظّية، وعلى المسؤول عن الكارثة الوطنية… ولكن حين تسأل السوريين سؤالاً مجرداً عما يُلهمهم فإن غالبية السوريين يرسمون صورة مشابهة لمجتمع متماسك ومتعدد الأديان ومتسامح ومبارَك بدولة عادلة تمثّله. قلة فقط من السوريين لديهم حلم تأسيس إمارة إسلامية، وهناك من المحاربين من يفضل عموماً حياة بسيطة تحت نظام سياسي حديث ودنيوي، مع أو بدون ميول إسلامية.

وبصورة مشابهة، نادراً ما يرغب الموالون باستبداد أبدي. يعبّر عناصر الأمن، الذين ينفّذون أوامر النظام كل يوم وبشكل سرّي، عن نفس الانتقاد القاسي لحكامهم الذي يواجهونه من الناس الذين يقمعونهم في الشوارع، فهم يشتكون من أن عائلة الأسد فاسدة وأنانية ومنعزلة وغير مبالية تجاه مصيرهم السيئ. بالرغم من أن النظام يسوّق للرؤية المثالية للدولة الراعية المسؤولة والبطلة، إلا أن العاملين في الدولة يعرفون أكثر من غيرهم الحقيقة المخجلة: العصابة الحاكمة غير المسؤولة والأكاذيب الوقحة والسرقة المتفشّية وغرف التعذيب وكل القتل بدم بارد. معظم هؤلاء أناس عاديون لا يرغبون أكثر من العمل لصالح دولة حقيقية، لا دولة ذات خيال مجرم وتُشكّك بطيبة دوافع العاملين فيها. يُشير عناصر الأمن بشكل وسواسي إلى الدولة والواجب الوطني والشهداء، ولكنهم مرعوبون من أفعالهم التي اقترفوها بأيديهم. وعندما تفشل كل مجادلاتهم يبقى دفاعهم الافتراضي الأخير بادعائهم بأنهم ليسوا أسوأ من أعدائهم مهما بلغ مقدار ذمهم لهم.

لا تتوقف السخرية هنا، فلدى أولئك المنشغلين بالحرب من بيت لبيت أكثر من شيء آخر مشترك، فهم من الطبقة الدنيا التي أهملها النظام ونمت من طبقة البروليتاريا الريفية تحت حكم الرئيس السابق حافظ الأسد، قبل أن تنسلخ الحلقات الأكثر مدينية المحيطة ببشار عن قاعدتها الاجتماعية. يعيش جنود النظام (سواء كانوا علويين أم لا) وميليشيا المعارضة نفس الظروف المعيشية، في الأماكن المتداعية التي نمت عشوائياً من المهاجرين من المناطق البعيدة المتخلفة التي تُركت بلا هدف.

لا مكان يلجؤون إليه ولا أحد يتبعونه

لا يفتخر العلويون بصورة خاصة بامتيازات اجتماعية اقتصادية تفوق نظراءهم من العرب السنة. انضم العلويون لأجهزة المخابرات بأعداد كبيرة، وكان أكبر سبب لذلك عدم وجود فرص أفضل لهم. ولا تتيح جميع الوظائف حتى في هذه الأجهزة نفس الفائدة المعنوية والمادية. كان معظم عناصر الأمن قبل الانتفاضة يداومون ساعات طويلة في عملهم بأجر قليل وبمكانة اجتماعية مخجلة، وكانوا يتعرضون في بعض الحالات لخطر كبير عندما يحاربون مجرمين أو شبكات جهادية.

ولكن هناك بعض النجوم الصاعدة التي تستخدم نفوذها في النظام لتوفير وظائف مريحة للأقرباء والجيران في مسقط رأسهم. بقيت القرى العلوية بائسة، ومن جهتهم حصل العرب السنة الفقراء على وظائف حكومية بصورة ملحوظة في الشرطة (التي اختفت) أو انضموا للجيش. وعمل الآخرون بدلاً من ذلك في الأرض أو ذهبوا إلى لبنان كعمّال خدم أو مارسوا تجارة صغيرة بالكاد تكفي عيشهم، والكثير منهم حمل السلاح ضد النظام، ولكن ليس جميعهم. لم يكن نادراً أن ترى عائلات تقيم الحداد على ابن لها قُتل كمجنّد في الجيش وابن آخر قُتل كمحارب في المعارضة.

عندما اندلعت الاحتجاجات في آذار 2011 كان هناك تعاطف مع المتظاهرين عند أولئك الذين حاولوا احتواءهم وتخويفهم ومعاقبتهم. عبّرت المطالب الشعبية بالدرجة الأولى عن شعور الاغتراب عن النخبة الفاسدة المتزايدة، وهذا شعور اشترك فيه بشكل كبير عناصر الأمن الذين تُركوا خلال العقد الماضي تقريباً يواجهون وحدهم مجتمعاً مشحوناً نتيجة تآكل مؤسسات الدولة وتفسّخ حزب البعث الحاكم وتغيّر الاقتصاد نحو اللبرلة وتوسّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. شارك رجالات النظام والمدافعون عنه في كثير من الأحيان هذا الشعور بالإحباط، ولكنهم لاموا المعارضة على عدم إقناعها لهم بالبديل.

لو أن حركة الاحتجاج كانت مثالية وسلمية بالكامل ومنظمة تماماً دون خطيئة وذات رسالة صحيحة لا تخطئ لكان من المحتمل أكثر أن تضطرب عناصر المخابرات بصورة خاصة وتغيّر ولاءها، ولكن السوريين ليسوا قدّيسين. ففي مجتمع حُرم لعقود من أي ممارسة للسياسة، كان على الانتفاضة أن ترتجل وتصبح فوضوية (كما هو الحال في معظم الثورات)، وقد عمل النظام على التأكد من أنها ستبقى كذلك فحطّم كل أشكال بنية الانتفاضة المستحدثة، عازلاً المجتمعات عن بعضها، ومشجعاً على حمل السلاح، وناشراً دعايته عبر إثارة وفبركة الحوادث التي قد تثير المشاعر الطائفية أو تنفخ في نار المخاوف الشعبية المتوضعة عميقاً، خصوصاً بين العلويين. بالرغم من كل ما يتشارك به العلويون مع الشعب الثائر فقد ظلوا رهينة لتاريخهم الخاص، وهم الآن في مأزق صعب بالفعل.

أتاح النصف الثاني من القرن العشرين نسبياً حركة غير مسبوقة للعلويين، الذين يجادل البعض على أنهم أكثر مركب سوري أصيل تم اضطهاده تحت حكم الامبراطورية العثمانية. منذ فترة الانتداب الفرنسي، الذي عامل الأقليات بالسياسة المعتادة «فرّق تسُدْ»، تحرّك العلويون من جبالهم غير الخصبة للزراعة شمال غرب سوريا (حيث قادهم الاضطهاد الديني السابق إلى هناك) إلى المدن في الساحل وفي وسط سوريا، بالإضافة للعاصمة. وفي أثناء ذلك صعد العلويون السلّم الاجتماعي، من خدم منزليين في المدن إلى موظّفي حكومة. أتيحت لهم الوظائف في بيروقراطية الدولة سريعة النمو. خدموا الجيش كوسيلة للطموحات السياسية، والفلاحون الذين كانوا خاضعين لسيطرة الإقطاع من مُلاك الأرض الغائبين استرجعوا الأرض عبر الإصلاحات الزراعية. واختفت تماماً عمليات بيع البنات والنساء الشابّات للعائلات السورية واللبنانية الثريّة. عملية التحرّر هذه هي بالضبط ما يخشى العلويون أن تنقلب عكساً في هذه الأيام.

هذا الرعب مؤسس في خطر الشرط الإنساني الذي أبقى فيه النظام العلويين، فبتصميمه وإهماله لم يتمّ ترجمة صعود العلويين إلى اندماج. ونتيجة لانعدام التخطيط المديني فقد تكدّس العلويون في مناطق عشوائية مثل المزة 86 في دمشق والتي ينظر إليها بتجانسها الطائفي. لقد اعتمد العلويون على النظام بدرجة كبيرة لم يَفُقْهم فيها أية مجموعة سكانية أخرى. وكان لهم دور كبير في الإدارات المحلية (في حمص على سبيل المثال) وفي وسائل الإعلام الحكومية (مثل جريدة البعث ومؤخراً في تلفزيون الدنيا) وفي مؤسسات دولة رئيسية (بشكل رئيسي الجيش). كان العلويون مرئيّين أكثر من غيرهم وبأسوأ طريقة ممكنة في أجهزة المخابرات، المتمدّدة باسترخاء والتي تعمل خارج القانون وخارج مؤسسات الدولة الرسمية. في النهاية، وبالرغم من وصول بشار إلى الأغلبية العربية السنية أكثر مما فعل أبوه، فقد قدّم نفسه بحكمه الوراثي كعلامة واسمة لطبيعة النظام الاجتماعية، وشجّع على الفساد غير المكبوح لأقربائه المباشرين، بما فيه السيطرة على الاقتصاد بواسطة ابن خاله رامي مخلوف. وكلما مدّ الأسديون وأقرباؤهم سيطرتهم على مؤسسات الدولة الرسمية وعلى القطاع الخاص بدت سوريا أكثر كمزرعة عائلية لهم.

عندما نأخذ كل ما سبق بعين الاعتبار، يمكن القول بأن العلويين لم يتمّ دمجهم في المجتمع بالقدر الذي تمّ فيه امتصاصهم في الدولة المتخيلة، مما تركهم غرباء ومكشوفين دون أي غطاء.

وفي نفس الوقت أحرق العلويون جسورهم، ففيما هم متعلقون بدولة غير موجودة بالفعل بنَوا هويتهم الحديثة بشكل يتعارض مع منشئهم. أخفى الكثير منهم لهجتهم المميزة جزئياً بالقاف الصلبة التي يلفظها سوريون آخرون كحرف حلقي ساكن، كما سلكوا نمط حياة مديني. وكقاعدة، لا شيء أقل جاذبيةً لدى العلويين من التفكير بالعودة إلى حيث أتوا، بالرغم من التخمينات الكثيرة بوجود خطة بديلة عند بشار وهي الانسحاب إلى المؤخرة إلى دولة العلويين في الساحل الشمالي الغربي.

المشكلة المركزية في هذه التراجيديا الحاصلة بأنه لا يوجد شيء اسمه «مجتمع علوي»، فهذا الشيء هو أكثر جزء مشوّش واغترابي في المجتمع السوري. حاول حافظ الأسد تشييع الدين العلوي، كما حاول بشار تسنينه، ولكنهم أخفوا هذا الدين وفككوه بدرجة كبيرة تاركين العلويين يعيشون مع شعور مضطرب بهويتهم. أسّست عائلة الأسد الحاكمة نفسها على حساب النخب العلوية، سواء أكانوا زعماء عشائر أو إقطاعيين، أو مثقّفين متمرّدين وما أكثرهم.

في عهد بشار جرى الانقلاب حتى على الشخصيات القوية ضمن أجهزة الجيش والمخابرات، لصالح رجالات غير قديرين مطيعين ويمكن تغييرهم. وبصورة نموذجية حتى أتباع هؤلاء الرجال لا يحترمونهم ولا يثقون بهم.
في هذه الدولة بفوضويتها المطلقة (وهذا سرّ المقاومة الاستثنائية للنظام) لدى العلويين كل شيء كي يخسرونه: لا مكان آخر لهم، ولا يوجد أحد يتبعونه غير قائد يعترفون بحبّه ولكنهم يكرهونه في الحقيقة.

يمكن مقارنة هذه الفوضى بدرجة ما بأزمة الهوية الملاحظة ضمن صفوف المعارضة على الأرض. لقد ثار الناس البسطاء على نظام لم يتوقعوا أبداً أن يكون صلباً بهذه الطريقة أو متطرفاً بوسائله أو محصّناً ضد الضغط الدولي، وملهَمين بالثورة التونسية والانتفاضة المصرية التي أطاحت برأس النظام وبالانتفاضة الليبية المدعومة دولياً في ليبيا. لقد جربوا كل وسيلة ممكنة للتحدّي في مواجهة القمع الأكثر قتلاً. وقد غيّروا روايتهم باتجاه حواسّهم الغرائزية: من الاحتجاجات الشعبية في الفترة الحماسية «للربيع العربي» إلى طلب التدخل الأجنبي إثر مغامرة الناتو في ليبيا، إلى الدفاع الذاتي بقيادة «الجيش السوري الحر» عندما نشأت الانشقاقات عن الجيش، إلى الجهاد عندما افترض الرُعاة الإسلاميون دوراً قيادياً لهم. ركبت المعارضة السياسية المنفية هذه التطورات، اكتراثها بخلق طريق عملي مستقبلي أقلّ من ترديدها صدى المعاناة على الأرض ومن انتظار تدخّل المجتمع الدولي.

تقدّمت العسكرة والإجرام والتطرّف والأسلمة سريعاً، في وسط يخلو من القيادة ويسيطر عليه مهاجرون قرويّون أبرياء بشكل كبير من كل أيديولوجيا وكل تأثير لمرجعية اجتماعية وحتى دينية.

في هذه الثورة، ثورة «افعلها بنفسك»، تأسست النزعات الأسوأ بالتدريج حين فشل كل شيء آخر. بدأت متأخرة جداً فقط شخصية سياسية بلعب دور بناء: ميشيل كيلو، الكاتب المتمرس، فاوض على وقف إطلاق النار بين الميليشيا الكردية والجهادية اللتين اصطدمتا ببعضهما في مدينة رأس العين، كما تبوأ معاذ الخطيب، الإمام السني البارز، شكلاً من القيادة غير مسبوق، بانياً قاعدته الخاصة عبر خطب عاطفية لكن حساسة وعبر تحركات سياسية معتدلة.

المشكلة هي أنه في حين يحارب العلويين باسم الدولة التي هي كل شيء فإن المعارضة التي تؤسس لأجندة وطنية عامة حرّكت بازدياد في الوقت نفسه عقيدة مستوردة إقصائية. يجادل الكثيرون بأن الجهادية مسألة تكتيكية ومؤقتة ولكن هذا الطرح ساذج. وكذلك تدّعي عناصر المخابرات أن وحشيتها استثنائية تمليها الأحداث وأن كل شيء سيعود حالاً إلى وضع الطبيعي. في الحقيقة أن كلا الطرفين وبالرغم من أن دوافعه في الأصل ملتقية في الوسط فإن فوضى الطرفين تحركت إلى أقاصي المجتمع مما جعل المجتمع نفسه عالقاً في المنتصف.

من الصعب عكس هذه العملية. ففي هذه المعركة يضع الملك الطبقة الدنيا ضد نفسها، فهؤلاء الذين يحاربون يُصبحون أكثر انفصالاً عن الطبقات المدينية الكبيرة التي تركت وهي تراقب بعدم تصديق. الكثير من البعيدين عن المعارك وبعد أن هربوا من البلد ستحتاجهم البلد في إعادة إعمارها عندما يقف الصراع في النهاية.

الحرب الزاحفة دون هوادة

لم يكن بالطبع لهذا الصراع أن يصل إلى هذه المستويات الكارثية لو لم يتلق مساعدة كبيرة من الخارج. لم يكن لبشار الأسد أن ينشر كامل قواته وجيشه الفاشل دون غطاء سياسي ودعم أخلاقي ولوجستي أتى بشكل غير متوقع من روسيا مبكراً عام 2012، ولولا رعاية موسكو فمن المحتمل أن بشار الأسد كان سيجبَر على المساومة بضغط من إيران وحزب الله، حليفيه الخبيرين اللذين لا يمكنه الاستغناء عنهما.

لا ينقص حلفاء المعارضة اللوم أيضاً. كانت المعارضة ستفكّر مرتين قبل أن تحمل السلاح، لو لم يتم إقناعها باستعراضات سطحية فاضحة من الغرب بأنه لن يتركها تواجه العواقب منفردة. في الجبهات الأمامية استهلكت المعارضة الأموال والسلاح والذخيرة التي قدم جزءاً كبيراً منها الدول المتضامنة مثل قطر والمملكة العربية السعودية. وشكلت الشبكات الإسلامية ورجال الأعمال السوريين وغنائم الصراع جزءاً مهماً من اقتصاد العنف ولكن الحرب بهذا المستوى هي مسألة رساميل عامة حكومية بشكل كبير لا رساميل خاصة.

أدى التأخر في إدراك التكاليف الكارثية للصراع إلى توقّعات ضخمة، ففي نهاية السنة تتوقع الوكالات المساعدة وجود 3.6 مليون لاجئ و6 مليون من المحتاجين داخل سوريا، من أصل عدد السكان البالغ 23 مليوناً. ولا يُظهر اللاعبون الخارجيون أي علامة لاستعدادهم للاتفاق فيما بينهم لمساعدة السوريين على إيجاد حل.

لم تصل المفاوضات الأميركية الروسية الأكثر إثارة للنقاش إلى شيء ما، بسبب عناد موسكو المستمر في مساعدة الأسد، كما أن واشنطن غير مستعدة لعرض حوافز تغيّر هذه النتيجة. وفي نفس الوقت تتّحد البلدان فقط في رفضها الأسد وفي إعطائها الأولوية لمصالحها الخاصة والمتضاربة، كما أنها تتنافس في رفع عملائها فوق غيرهم ضمن المعارضة، مما يفاقم من الطبيعة المتكاثرة بالانشطار للمعارضة.

من المحتمل أن تكون الخطوة التالية للصراع احتواء (وفي النهاية تحطيم) العاصمة، حيث يوجد مركز السلطة. الهوية السورية مؤسسة في دمشق، وكذلك يوجد فيها ما تبقى من الدولة حيث ما تزال بيروقراطية الدولة تعمل هنا. حقّقت ميليشيا المعارضة منذ وقت مبكر عام 2012 مكاسب في السهل الجنوبي الممتد من الأردن إلى دمشق، وهو طريق يشكل عصباً مركزياً للنظام، وخلال ذلك اندفعت مجموعات مسلحة في العاصمة أكثر باتجاه المواقع البارزة بما فيها القصر الرئاسي. ولكن خطاب قادة المعارضة وبعض المعلقين حول «ساعة الصفر» أوحى بوجود معركة حاسمة ستحدّد وتضع نهاية للدمار المروع، ولكن تبيّن أنه حلم خيالي له علاقة بالأشهر المبكرة من الانتفاضة عندما كانت النهاية السريعة ممكنة. لقد حفر النظام حصونه المنيعة في مرتفعات العاصمة مهيئاً نفسه لحرب زاحفة دون هوادة إلى عتبة داره.

لو أن هجوم المتمردين على حلب في تموز 2012 غيّر ديناميكيات الصراع لفعلت معركة دمشق نفس الشيء إلى درجة بعيدة، فتدمير المدينة الذي جرى التركيز عليه من قبل الجميع جلب معه الشعور بوجود هدف نهائي يستمر في إلهام كلا الطرفين، وتذهب معه العواقب إلى مدى أكبر مما هو متوقع. في العديد من المواجهات الأخرى صعّد النظام عنفه في ردّ فعل على مكاسب المعارضة، وأصبحت المعارضة بنفس الوقت وحشية وبلا رحمة. تحطيم دمشق يمكن أن يزيد ببساطة العدمية في كلا الطرفين، أو قد يستجرّ جهوداً دولية صادقة لإنهاء الصراع. من غير المحتمل سقوط النظام بشكل منظم وأنيق في أي سيناريو يمكن التنبؤ به. قد يهتزّ تماسك النظام جزئياً وقد تنشأ عنه أعداد كبيرة من الميليشيا عندما يتحطم.

إن محو مركز سلطة النظام (العاصمة) دون هزيمة العدو سيتسبّب بصورة مؤكدة تقريباً بتشظّي أكثر للمعارضة، التي ستتصارع حينها في هذه الديناميكيات الجديدة بهدف تحقيق سيطرة أكبر، وفي نفس الوقت ستخوض مجموعات الميليشيات معارك صغيرة أكثر قساوة من أجل الغنائم.

إذا لم يبلغ الصراع حتى الآن حدود تعريف الحرب الأهلية بشكل نموذجي فإن الاهتراء المرافق يمكن له أن يقدح زناد عملية التحول نحو شيء يذكّر بلبنان المجاور، شيء استمر طوال 15 سنة.

إذا كان هناك من ملاحظة ختامية سعيدة فهي أنه وسط كل الأكلاف الباهظة المرعبة للحرب، بالمعنى المادي والمعنوي، توجد علامات عديدة تحيي الآمال بالمجتمع السوري. ففي حين أن بعض المعلّقين حذّروا من تحول البلد إلى صومال جديد، بأمراء حربه الأقوياء، أو إلى عراق جديد، بتوتراته الطائفية التي لا يمكن محوها الآن، فإن المجتمع والسكان السوريين وخلافاً لكل التوقعات أظهروا سِماتٍ فريدةً بخست ثمنها مثل تلك المقارنات. فقد برزت إدارات مدنية وشخصيات محلية محاوِلةً إدارة الخدمات المحلية في المناطق التي انسحبت منها الحكومة. وصنع رجل في دوما عصيّ مشي من قذائف المورتار، كما صنع سخّانات من الصواريخ المستخدمة. وفي أسوأ ظروف حلب وإدلب يتوقف الناس عن العراك ليعرضوا كرم ضيافتهم: شيء من الكرامة في أحلك الأوقات، كما يقدم أستاذ مدرسة دروساً في غرفة خلفية. إذا أعطيت الفرصة لهذا المجتمع فقد يتعافى ويجتاز المصاعب، وقد يكون مازال من الأفضل لو أن الصراع ينتهي بسرعة ويتم التعامل مع العواقب بمهارة.

مع مرور كل يوم من هذا الصراع –اليوم هو الـ763– تضيق تلك الفرص ويضعف شعور السوريين بالهوية الوطنية وبفخرهم بمجتمعهم. حلفاء السوريين الأدعياء هم لعنتهم: الولايات المتحدة وروسيا وقطر وإيران والمملكة العربية السعوية والعراق وتركيا وحزب الله، كل هؤلاء يدّعون أنهم مهتمون بالسوريين ولكنهم في الحقيقة يدافعون عن مصالحهم. لا يمكن تقريباً تجنّب التصعيد المتزايد مع كل هذه التدخّلات المتزايدة وغير الحاسمة من كل الأطراف تقريباً.

إذا وصلت الأمور إلى الحرب الأهلية الكاملة في سوريا فممّا لا شكّ فيه، وحسب الحكمة المعروفة، ستنفجر الكراهية المجتمعية بشكل لا يمكن تجنّبه في هذا المجتمع المختلط. لا يفيد الكذب هنا. وهذا كله نتيجة للسياسة الدولية القائمة على النأي بالنفس، ولا يمكن عكس هذه العملية دون مساومات دولية.

مهما عانى السوريون فإن الحرب في بلدهم ليست بأيديهم، إنه صراع يشوّه المجتمع السوري أكثر مما هو يعكس تشوّه المجتمع السوري نفسه، وهذه هي غصّة القلب السورية.