تتعقد أزمات العالم المتمدن، وتمضي في سياقاتٍ مسدودةٍ تبدو معها استراتيجية تطوير الأزمات واستخراج المزيد من المال والمزيد من مساحات التسلط من بطن المشكلة أقل جدوى وأبعد عن المتناوَل، وتواجه الرأسمالية العالمية تحدياً على مستوى شرورها، لأول مرة ربما، بهذا الحجم وهذا الأثر وسرعة الانتشار. يواجه العالم المعاصر أسئلةً محرِجةً تُرمى في وجهه بوصفه متهماً هذه المرة لا حكماً، ومتهماً لا شاهداً بالدرجة الأولى.
جملة الحلول الإصلاحية التي استوطنت في العقل الغربي الحديث كبديهيةٍ حضارية، هي الأخرى لن تستطيع أن تفعل شيئاً، لأن رصيد الحضارة الغربية الأول، إنسانها، بات بفعل الأحداث التي تغلي في كل مكان، والتطور التكنولوجي الذي أتاح مجتمعاً تواصلياً بديلاً قادراً على كسر احتكار المنابر الكلاسيكية للمعلومة الصحيحة، بات أقل اقتناعاً وامتلك ملكة الشك من جديد، خسر اطمئنانه الزائف ليربح القلق الفعال، وهو يصبح شيئاً فشيئاً جمهوراً لهذه البدائل، وهنا تكمن خطورة الأمر: أن إنسان أوربا والغرب، وبالتحديد إنسانها القادر على التغيير ، إنسانها الذي صنع أوربا الحديثة، أصبح متلقياً لقيمٍ أخرى ومعرفةٍ بديلة، تستعدي المنظومة الحضارية الغربية وتشكك في كل تفصيل من بنيتها، وتقترح أنماطاً أخرى للحياة والإنتاج والقيم والأفكار.
إن النقد الموجه إلى العقل الغربي، القائلَ بأن الأزمة أزمة ضمير، هو نقدٌ ليبرالي أيضاً، إنه نقدٌ ذو روحٍ غربية إذا صح التعبير، فيما الأزمة أبعد من هذا وأعقد.
إن عقلاً بلا ضميرٍ هو عقل أكثر إنتاجاً للحلول، نتيجة تحلُّله من الرادع الأخلاقي وأي رادعٍ آخر سوى الدقة العلمية، تحللاً مطلقاً، إنه عقل جبار، ولو كانت أزمة العقل الأوربي هي في كونه عقلاً أنانياً وعنصرياً وانتهى الأمر، لكان التحكم بالعالم أسهل، أو للدقة كانت أزمات الحضارة الغربية الحديثة لتكون من طبيعةٍ أخرى تماماً، لكن الغرب يبدي ردود فعلٍ سلبيةً أمام التحديات، يبدي عجزاً وما يشبه الخرَس المعرفي، كما أن الأزمة وصلت إلى لب “السلطة” في الغرب، السلطة السياسية الإجرائية، وكذلك السلطة كترسانةٍ قيمية واجتماعية، مما يدلل على أن هذه السلطة لا تملك حلولاً لنفسها على الأقل. إنها أزمةُ ضميرٍ وأشياء أخرى لا تقل أهميةً إذن..
إنها أزمة المعرفة الغربية، أزمة الثوابت الفكرية الاجتماعية والسياسية، أزمة على تخوم نظرية المعرفة وليس فقط تطبيقاتها الفكرية.
الليبرالية الكلاسيكية الأوربية، التي أنجزت مشروع النهضة الغربية للقرون الأخيرة الفائتة، استهدفت في جوهرها الفرد، واستطاعت بما أتيح تحت شروطها الذاتية والموضوعية تحقيق مكاسب حقيقية، وأنتجت نظرياً علمانية إنسانية الطابع، حظيت بـ “مطبِّقين” غيرِ إنسانيين.
إن الآخر الإنساني حجرُ أساسٍ في نظرية النهضة الأوربية، وما الفردانية وطلاق العقل الأوربي للكنيسة وتجفيفُ منابع الظلامية إلا انحيازٌ للإنسان المطلق بمكوِّنَيه المتجانسَين (الحاضرَين بتوازنٍ وتماسك في الفكر الليبرالي وكتابات عصر النهضة بأكثر تعاريفه مرونةً لناحية الاتساع الزمني): الأنا والآخَر. لنقلْ إن العقل الأوربي التنويري استهدف ذاتاً إنسانيةً عاليةً هي الناتجةُ من تفاعُل الأنا وآخَرِها، كانت ليبرالية مثاليةَ التطلُّع.
التغول الاقتصادي والاحتكارية الرأسمالية وسياسة تطوير الأزمات أجهزت على الجانب الإنساني في الليبرالية الأوربية، وتصرفت بكيمياء النظرية وجوهرها لإنتاج أحد أخبث أشكال السلطوية والظلم الاجتماعي.
آخَر العقل الغربي بعد هذا الانقلاب –لو أردنا تبسيط الأشياء باختزالها والقول إن انقلاباً في زمانٍ ما ومكانٍ محدَّد قد أُنجز، يستهدف إنتاج مبرراتٍ للتسلط والعنصرية الغربية المخفية جيداً تحت نقابٍ أنيقٍ سُداه السمعة الطيبة للعقل الأوربي باعتباره منجزاً حضارياً إنسانياً.
الآخَر المتمايز في الغرب اليوم، هو آخر ملقىً في الباحة الخلفية للذات الأوربية، يتم استحضاره بصفته كائناً سالباً متلقياً كلما حكَّها ضميرها، ويتم استخدامه –بآلية مزدوِجةِ الاستلاب– كذلك لتثبيت ثابِتٍ حضاريٍّ غير منطوقٍ به، يشمُّ بسهولةٍ في كتاباتِ مفكرين وأكاديميين يحظون بالسمعة والحظوة في العالم المعاصر، هذا الثابت عنصريٌّ ومتخلِّفٌ وظلاميُّ الهوية، يقول بتفوق الإنسان الغربي وتفوق النموذج الحضاري الغربي، محاولةٌ لتمرير”حتميةٍ” أقل ما يقال فيها إنها استبدادٌ فكريٌّ مدان ولا يقول غيرَ أزمته.
أجهزت الحضارة الغربية على أخلاقية النموذج يوم أجهزت على آخَرها وعزلته بالقوة والقمع والاستلاب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عن التفاعل والإسهام في إنتاج الثقافة والمفاهيم، وها هو الغرب اليوم يقف مشدوهاً وهو يشاهد آخَره المحبوس ينسف سجنه ويثور على كل المستويات، ويسترد بالقوة الثورية زمام التفاعل وحق التأثُّر والتأثير، ويرفض الظلم الواقع عليه. إن مما قد يساعد كثيراً، تفعيلُ العلاقة مع الآخَر بصيغتها السليمة والطبيعية في العقل الأوربي الذي تشوّه، وإعادة قراءة الليبرالية الغربية الكلاسيكية قراءةً نقديةً متفائِلة، للوصول إلى المعادلة الصحيحة التي قلبت أوربا عاليها سافلها يوماً، وأنتجت هذا الحراك الفكري والاجتماعي الذي اصطُلح عليه بالـ نهضة، وفي الغرب المعاصر كثيرون، ثوريون وأكاديميون ومفكرون متفتحو العقل والوجدان، يفكرون بهذه الطريقة اليوم، وينفتحون على البدائل، ويتواصلون بصورةٍ تفاعلية جذرية مع الثورات التي تحدث في أرضِ “الآخر”. لا نَنْسَ أن للغرب مشكلاته الاجتماعية وأزماته الاقتصادية الملحّة واختناقات العلاقات فيما بين مكوِّناته داخلياً، كما الفقر وأحزمة العشوائياتِ وانسحاقُ الإنسانِ غيرِ المتماهي مع النموذج تحت قهرِ السلطةِ المالية والسياسية التي تنتهك الإنسان مستهدفةً تحطيم وجوده ودمْج مساحته كمتعيِّنٍ فردٍ في مساحة النموذج المعمَّم المرادِ من فوق. إنسان الغرب ليس بخيرٍ أيضاً، وهذا حديثٌ آخَر يطول، وسياقٌ آخَر أيضاً، ليس سياقاً موازياً بل لربما مطابِق، أو مطابِق في محلاتٍ غير قليلة من الخطين البيانيين للفكرتَين: أزمة الآخر في العقل الغربي، وأزمة الأنا بالكثير الكثير الذي يمكن أن يقال عنها.
إن تصالح العقل الغربي الحديث مع آخره –أخلاقياً وفكرياً– ضرورةٌ لغدٍ أقل سواداً وفرصٍ أكثر للتواصل والمسامحة وبناء نظامٍ عالميٍّ أكثر عدلاً، وإن حماس الشعوب المسحوقة التي تثور لكرامتها وحقوقها نحو الانخراط مرة واحدة في صناعة الذاكرة التاريخية والتدخل في كتابة يوميات الإنسان المعاصِر واسترداد الدور الطبيعي لهم كبشرٍ أحرارٍ متساوين وقادرين بفعل التطهُّر الثوري على الخلق والابتكار وإنتاج ثقافةٍ إنسانيةٍ على مستوى إنسان العصر الذي أراد وامتلَك ملَكة الثورة من جديد، هو فرصةُ نجاةٍ محمولةٌ على حاملَيها هذين: تصويب تموضع الآخَر في العقل الأوربي تصويباً أخلاقياً نقدياً وجريئاً، وتحريكُ الأمزجة الثورية في دول العالم الثالث التي تشهد انتفاضاتٍ وثوراتٍ شعبية جذرية وكاسحة، باتجاه التفاعل مع العصر و”التورُّط” في إنتاج أشكال الاجتماع والثقافة، وإن دور المثقف هنا وهناك، على ضفَّتَي هذه المعادلة السهلة الممتنعة، يبزغ كضرورةٍ ولازمٍ ثوري، وفيما تتفاوت جرأة المثقف العريي –ودائماً في حدود الأقل من المطلوب، نتيجة خضوع هذا المثقف لاستلابٍ عتيق وضارب في التاريخ عمره من عمر الاستبداد في المنطقة، يؤخر المثقف عن تدارك الفارق بينه وبين أمواج التغيير العارمة، لا يبدو المثقف الغربي أكثر تحصيلاً على هذا الصعيد، إذا أخذنا الظرف الذي يحكم عملهما كلٌّ في بيئته، فهل ستتمطى القارة العجوز ومساحة أنموذجها الحضاري الواسعة جغرافياً، هي الأخرى، من رقادها، ويفرض المجتمع على نفسه الثورة؟
المحزن في الأمر –مع كل هذه النقاط المضيئة التي تتوزع على امتداد خارطة الوجدان الجمعي الأوربي وتحاول بطريقةٍ أو بأخرى إحداث تغييرٍ نوعيٍّ– أن راهنية الثورة ما زالت في الغرب المعاصر طرحاً غيرَ ذي شعبيةٍ ولا يؤخذ بجدية، في وسط الطروحات الإصلاحية التصالحية السلطوية الروح، وأن الغرب ما زال يراقب انبعاثةَ آخَره مقللاً من قيمة الأشياء، متهرِّباً من المحاكمة الأخلاقية للذات، الضرورية لإحداث التغيير، وأن شدة هذه المحاولات التثويرية أقل من عتبة التنبيه..
الإنسانية ليست في أحسن أيامها لكنها ليست في أسوئها، وأمام إنسان العالم المعاصِر فرصةٌ لمستقبلٍ أكثر أمناً ومساواةً، لكنَّ من المحبِط وغير العادل مطالبة الضحية ببذل الجهد كله فيما جلادها ينتظر ويشاهد، مراتٍ كحكم، وحين يضيق الخناق عليه: كشاهِدٍ ومشاهِد، محايِدٍ وصفيق..