تشهد الولايات المتحدة اليوم، ومعها الدول الأوربية، جدليةً حادة تدور رحاها حول السياسة التي ينبغي تبنّيها تجاه الحراك الثائر المطالب بالديمقراطية في الدول العربية. الجدل بأي حال لا يقف عند أروقة المراكز البحثية المعنية بالشرق الأوسط والمنطقة العربية، بل يتعداها إلى الأوساط الثقافية والفلسفية الفاعلة في تلك الدول. تبرز في هذا السياق مقاربتان أساسيتان:

المقاربة الأولى تتأتى من مناخات كانت سائدة خلال حقبة الحرب الباردة، حينها كان يُنظر إلى الأنظمة المستبدة في الدول العربية على أنها ضامنة للاستقرار في المنطقة، وضامنة بالتالي لتحقيق المصالح الغربية، إذ لم يكن لدى الغرب أثناء تلك الحقبة حيّزٌ زمنيٌ أو فكري للخوض في غمار دعم ديمقراطياتٍ في المنطقة العربية؛ ديمقراطياتٍ كان يُعتقد أنها قد تنحو إلى ما قد لا تُحمد عقباه من وجهة النظر المصلحية الغربية، هذا فضلاً عن القاع المعرفي لهذه المقاربة، والقائم على نزعة استشراقية في الوعي الغربي ترى في شعوب المنطقة العربية قصوراً ذاتياً يحول بينها وبين الوصول إلى بداءات ديمقراطية قابلة للتطور والترقي، بحيث تنتج دولاً كيانية ديمقراطية تحترم الحقوق الفردية والعرقية والمعرفية لمواطنيها. أبعد من هذا، كان البعض من أصحاب هذه المقاربة يتساءل في الخفاء طوراً وطوراً في العلن عن قابلية الإسلام كمُعتقد تدين به معظم القطاعات المجتمعية العربية على القيام بأعباء منظومات ديمقراطية مدنية تحمي الحريات العامة لأفرادها، تحفظ كياناتهم المعرفية، وتسعى فيما تسعى إليه إلى مزيد من الترقي، والتحمل بطبيعة الحال للأفكار والآراء التي قد تبدو خارجةً عن السياق العام، شأنها في هذا شأن أي ديمقراطية ناشئة تسعى لأن تغدو أكثر رسوخاً وتجذراً في الوعي الجمعي لأفرادها وصولاً لأن تغدو ديمقراطيةً عريقة.

ولعل ما يدعو على الدهشة حقيقةً أن المحافظين الجدد في الولايات المتحدة لم يكونوا من تابعية هذه المقاربة، وإن هم لم يخرجوا تماماً عن عباءتها المعرفية؛ لكن الخطايا التكتيكية الكارثية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق، من خلال تحطيم الكيان التاريخي للدولة العراقية وحلّ الجيش، قادت إلى إعطاء بعض الأطياف الثقافية، سواء في المنطقة العربية أو في الغرب، مونولوجات فكرية ليتغنوا بها حول فشل الديمقراطية في العالم العربي، وعدم نضوج، وبالتالي عدم أحقية، الشعوب العربية بالوصول إلى بداءات ديمقراطية يانعة يشتدّ عودها مع تراكم الخبرات والأزمنة. وصل الأمر بالبعض إلى الذود علناً أو مواربةً عن الأنظمة القمعية في الدول العربية بوصفها حاضناً يحمي المجتمعات العربية من التفكك والانحلال ريثما «تنضج» هذه الشعوب وتستوعب نظم حكم ديمقراطية.

إن كانت المقاربة الأولى تتأتى من مناخات الحرب الباردة التي وضعت أوزارها قبل عقدين من الزمن، فإن المقاربة الثانية تنبثق عن رحم الثورات الديمقراطية في العالم العربي، حيث يرى أصحابها أن المقاربة الأولى تبسيطية، وذلك من خلال التمييز بين نمطين من الاستقرار: الاستقرار القلق، وهو الذي يستند إلى أنظمة قمعية تقدم حلولاً مصطنعة لركام التأزم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة؛ والاستقرار المتزن الذي يستند إلى أنظمة حكم ديمقراطية تعبّر عن الإرادة الجمعية للأوساط المُنبثقة عنها. وترى المقاربة الثانية أنه على الرغم من الاستسهال التبسيطي هذا الذي دفع البعض في الغرب إلى تبني مقاربة الاستقرار القلق، من خلال حصر التفاوض تاريخياً مع شخوصٍ بدلاً عن أمم، ومع أسر بدلاً عن شعوب؛ فإن هذا التوازن القلق قد قاد إلى نتائج كارثية من وجهة النظر المصلحية الغربية، تبدأ هذه النتائج من تعاظم موجات التطرف والعداء الإلغائي للغرب في المنطقة، ولا تنتهي عند تعاظم موجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى دول الغرب، مع ما يترتب عليه من إثقال جهود التنمية والرفاه الاجتماعي في تلك الدول.

ثمة إدراكٌ معرفي يتطوّر بحكم التراكم التاريخي في الغرب، وهذا التراكم يقع في صلب المقاربة الثانية، وهنا تأتي النجاعة البراغماتية والقدرة المميزة على التعامل مع المعضلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي أبدتها حكوماتٌ مُنتخبة ذات صبغة إسلامية، كما هو عليه الحال في ماليزيا وحكومة السيد مهاتير محمد، وتركيا وحكومة السيد رجب طيب أردوغان، لتبيّن أن الإسلام كمُعتقد تدين به القطاعات المجتمعية العربية ليس عائقاً مُستداماً أمام النهضة والديمقراطية، لا بل على العكس، ترى المقاربة الثانية أن الوقت قد حان للانتقال في التعامل مع الإسلام من منطق العداء الاستراتيجي إلى منطق الشراكة الإستراتيجية، وهذه الشراكة بطبيعة الحال لن تكون مُطلقة الندّيّة على ما يراه أصحاب المقاربة الثانية، لكنها على الأقل بمثابة عَقد إنساني جديد يؤمّن شروطاً أفضل للتفاوض المنفعي بين الأمم، وهي تحقق بالتالي قطيعة ثقافية مع عهودٍ خلت، كان السبق فيها لدوغمائية عقائدية، وأفكار مسبقة تضع الغرب من ناحية والعرب من ناحية ثانية أمام الخيار الكارثي: إما العداء المطلق أو التبعية المطلقة.

نخوض اليوم ويخوض معنا أصحاب المقاربة الثانية في الغرب أرضاً جديدة، ونحن وهم مُثقلون بإرث ثقافي ومعرفي ثقيل، يحول دون عبورٍ سلس نحو فضاءات وعوالم جديدة تسودها الثقة والمنفعة المتبادلة. على أي حال، نحن اليوم كعرب وكمسلمين نتغير، وكذلك يتغير الغرب، في إحصاءات نُشرت في الولايات المتحدة، عقب الثورة المصرية، ارتفعت شعبية الشعب المصري بين الأمريكيين، وساوت لأول مرة شعبية «الشعب الإسرائيلي»، هذا كان مؤشراً هاماً، مرّ علينا مرور الكرام دون تأمل.

إن متابعة التعامل من قبل البعض مع التوجه المنفعي الغربي على أنه شرّ مطلق، ومن ثم المناداة بالطلاق البائن مع الغرب، بحجة أنه منفعي أو أنه يبتغي مصالحه الذاتية، هو سلوكٌ غير عقلاني، وقد ثبت من خلال هذا العراك الطويل أنه غير نافع. في هذا السياق، إن العديد من الأمم والدول الناهضة، كدول جنوب شرق أسيا فضلاً عن الهند ودول في أمريكا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين، قد توصلت إلى معادلاتٍ حضارية مشابهة لما نصبو بلوغه مع الغرب، ولكم هو رائعٌ وبنّاء هذا النموذج الكوري الجنوبي المُتصالح أولاً مع الذات وثانياً مع الغرب، مقارنةً مع النموذج الكوري الشمالي الكارثي والمدمّر. كوريا الجنوبية التي كان متوسط دخل الفرد فيها معادلاً لمتوسط دخل الفرد في السودان عام ١٩٦٣، تقف اليوم في مصاف الدول الرائدة صناعياً في العالم، وهي الدولة الأولى عالمياً في صناعة السفن، والثالثة في صناعة السيارات. لقد وظفت كوريا الجنوبية الحداثة الغربية في النهضة الوطنية، وأحالت جدلية العداء للغرب إلى علاقة منفعية واقعية، بعيدة عن منظومات التفكير القطعية وغير الناجعة.

إن الثورة هي إعادة صَوغ ذاتية، وتنحية لأنماط الوعي الرثّة، وهي لا تكون ثورةً إن هي لم تُخرج أبناءها من رحم اللاممكن إلى فضاء الممكن، ومن اللامسموح إلى المسموح، ومن الرفض العقائدي، هذا الذي تعبق به بلادنا، إلى التلاقي المنفعي مع الغرب.