يصعب أن نصدّق أن الإسلاميين هم زهور الربيع العربي، ولا يمكن لتلك المقولات السمجة والساذجة، الماهوية والتبسيطية التي تختصر الربيع العربي في نوايا شبابية طيبة ومؤامرات خارجية، أن تقنعنا، ولن نستطيع أن نقيّم مآلات هكذا حدث تاريخي ونحن في خضمّه، ولكن لا بد لنا من التساؤل عن سبب هذه السوداوية التي تحتلنا.
فقد تمكن «الإسلاميون»، بسبب الفراغ الاديولوجي الذي يعيشه العالم العربي وتغلغلهم في المجتمعات الأهلية والمال السياسي الذي يتلقونه من قوى إقليمية وازنة، من الوصول إلى السلطة، فاستأثروا بمقاليدها، محاوِلين إعادة انتاج سلطوية النظم السابقة وتدعيمها بمشروعية دينية وبظهير اجتماعي واسع سعة المجتمعات الأهلية العربية، في ظلّ غياب أي رؤية سياسية متماسكة.
ما يفاقم الحالة هو هزالة هؤلاء «الإسلاميين»، فلا هم قادرون على إعادة انتاج لحظة الاستبداد باستقرارها وأمنها وعدميتها، ولا هم راغبون بالتعاون مع باقي القوى الديموقراطية لبناء دولة وطنية عصرية قادرة على فرض مشروعيتها والمضي بشعوبها نحو ما تتوق إليه من حرية وكرامة وعدالة. لترواح مجتمعات «الربيع العربي» في حالة من الفوضى البائسة تتفجر في سياقها مشكلات هذه المجتمعات، التي خلّفها التأخر الحضاري وكرّسها الاستبداد العسكري، لتتحول في هذا السياق إلى ألغام تستحوذ عليها نخب المجتمع السياسي التي تميل يوماً تلو الآخر للتحول إلى أمراء حرب.
تدرج اليوم لمواجهة هذه الحصيلة السياسية البائسة أطروحة ترى أن المخرج الوحيد من هذا المستنقع يتكون من تحالف كافة القوى العقلانية، الديموقراطية والليبرالية والتنويرية والإسلامية المعتدلة واليسارية، لمواجهة هذا «الاستقطاب الإسلامي» البائس باستقطاب «مدني» يعمل على ترشيد العملية السياسية ومنع هذا الانحدار السياسي من الوصول إلى قاع الثيوقراطية.
تنطلق تلك الأطروحة من اعتبار «الإسلاميين» جهازاً مجتمعياً متكاملاً، قادراً على التلاعب بمجتمعاته وإعادة هندستها على إيقاع الثيوقراطية، ويساعد الدعم الذي تقدمه قوى اقليمية وازنة للإسلاميين على تكريس هذا التصور وتضخيم الكوابيس المنبعثة منه، إلا أن «الإسلاميين» وداعميهم الإقليميين، وبسببهم، يفتقدون المشروع السياسي المتكامل، وهو ما سيمنعهم من التوجه إلى الثيوقراطية ويجبرهم على الاندراج في معادلات السياسة الراهنة ليُراوحوا في وحلها الإجرائي والسلطوي، بحثاً عن بعض المكتسبات التي لا أعتقد أنها ستقنع شعوباً دفعت ثمناً باهظاً كهذا الذي تدفعه حالياً. إذ سرعان ما أثبت السلفيون أنهم مستعدون للتعرّي في أي بازار سياسي بطريقة مثيرة للسخرية، في حين استعاد الإخوان المسلمون خطاب النظم السابقة وسلطويتها فأخذوا يؤكدون للغرب على أنهم القوة الوحيدة القادرة على احتواء التطرف وأنهم الأقدر على تمرير الأجندات الغربية على الصعيد السياسي والاقتصادي، إنهم يقولون اليوم للغرب بوضوح: نحن أفضل من يستطيع ابتلاع مفاعيل «الربيع العربي».
هذا على صعيد نظرة هذه الأطروحة للآخر، «الإسلامي». أما على صعيد نظرتها لذاتها تبرز مشكلات أعمق، فلا وجود لتيار مدني ذي مشروع ورؤية متكاملة، حاله حال الإسلاميين، و«التيار المدني» الذي تشير إليه هذه الأطروحة يتكون من شرائح متعددة من النخب السياسية تنطلق من تنويعات فكرية متباينة، أفرزها مجتمع مدني مهلهل وفاقد لأي إيقاع قادر على جمعها وتأهيلها. فكيف يمكن أن يجتمع الديموقراطيون مع أولئك التنويريين الذين أظهر صعودُ الإسلاميين حجمَهم الكبير ونزوعَهم العنصري وعضويتهم في العديد من التشكيلات العصبوية؟ وكيف يمكن لليساريين أن يصوغوا مع الليبراليين خطوط مشروع سياسي، ومن لم يُلوَّث منهم بالنفط الخليجي تلوَّث بالنفط الإيراني؟
الخلل النظري الأساسي الذي تنطلق منه الأطروحة هو أنها تقارب هذا الواقع المعقّد بلغة معوّمة وإعلامية، فاقدة للطاقة المعرفية القادرة على تمثّله، فمنذ اندلاع الانتفاضات العربية لم تعد مقولة «الإسلاميين» قادرة على مقاربة الواقع إلا بطريقة سرير بروكست. احتفظ أصحاب هذه الأطروحة بنفس الدلالات التي تحملها مقولة «الإسلاميين» في زمن ما قبل «الربيع العربي». إنهم لايرون أن «الربيع العربي» استطاع «توطين نقد الإسلام السياسي وتسييسه» على حد تعبير سامر فرنجية، فحافظوا على عدائهم لذلك الكائن الهُلامي بالاعتماد على مقاربة إعلامية كالتي حجّمته.
الخلل العملي، الذي يحافظ على بقاء هذه الأطروحة رهينة المقالات والآراء ويمنعها من الاندراج في إطار دينامية سياسية غائبة، يكمن في اعتمادها على تحالف نخب قُبالةَ أخرى، إنها لا ترى أن المأساة الحقيقية لا تكمن في شريحة معينة من هذه النخب التي تتصدّر المشهد السياسي والإعلامي وإنما بها جميعاً، بل وفي الآليات المهلهلة التي أنتجتها، فقد افتقدت المجتمعات العربية منظومةً إنتاجية متكاملة تعبّر عن نفسها عبر مجتمع مدني قوي، بما يضمن تشرّبها للعقلانية الصناعية وتبلور أدواتها السياسية من أحزاب قوية ورؤى سياسية متماسكة وتطلعات أيديولوجية غنية. كما لم تحظَ بمشروع مارشال غربي يساعد على تذليل عقبات الانتقال الديموقراطي وتأهيل هذه النخب التي أنتجتها جامعات بائسة وصقلتها مؤسسات مجتمع رَيعي وأجبرتها أجهزة المخابرات على التنفّس من منخر ضباطها.
بؤس هذه النخب وهزالتُها سيكون سبباً في حتمية استمرار الصراع وعدم قدرة أي تيار على اختطاف بلده وإعادة إنتاج الاستبداد، لتقع الشعوب المنتفضة أمام خيارين: فوضى التذرّر أو فوضى الحرية، ولعل التيار الديموقراطي الوطني هو الأقدر على تكريس فوضى الحرية وتأطيرها، ولا بد له من أجل ذلك من الدخول في الصراع على السلطة ليكون حلقة الوصل بين بقية التيارات السلطوية بغية دمقرطتها وتهذيب نزعتها السلطوية التي قد تتسبب في جرّ بلدان الانتفاضات إلى فوضى التذرّر.
بالمحصلة، لا يبدو لي أن زهوراً قريبة ستعبق في عالمنا، بل ولا يبدو لي ربيعاً، ولعله، إن حافظنا على مجازات الفصول، شتاءٌ ممطر طويل يحمل ما يحمل من سيول ووحل، ويحمل ما يحمل من مطر يسقي التربة ويتسلّل إلى أعماقها. ويبقى العزاء أن الشتاء أول فصول الحياة، وأن شمس التاريخ قد فسّخت تلك الصناديق السوداء التي لطالما كانت قبر أوطاننا.