للوهلة الأولى، يبدو الإسلاميون أقوياء، اللحى تعمّ البلاد، وهيئاتٌ «شرعية» تحكم المناطق المحرّرة من شريعة البعث التي تبدو إلى أفول، وأعلامٌ سوداءٌ ما فتئت تتراءى للمرّة الأولى في بلادنا، وإعادة تفسيرٍ ممنهجة لكل هذا الذي حدث: «من قال أنّ الثورة لم تكن منذ البدء إسلامية؟!»، هكذا وبكل بساطة يُختزل السوريون، مرةً أخرى، في نظرةٍ متحجّرة لجامعٍ خرجوا منه، وفي رؤيةٍ قاصرةٍ لبُعدهم الحضاري كمسلمين، هذا الممتدّ أبعد كثيراً مما تعجز مخيلة البعض عن اختراقه… منطوق الطاغية ذاته ولكن من الناحية الأخرى، والفهم المسطّح ذاته للسوريين ككائناتٍ تاريخية، لا فِكاك لها عن ماضيها، أو عن انطباع الطغاة عن ماضيها على أقلّ تقدير.
لكنّ الإسلاميين خائفون؛ يُخيفهم السوريون ونزَقهم، هذا العصيّ أبداً على التأطير، نزقٌ على كل شيء، وسُخطٌ أرعنٌ لا يعترف بالتراتبية، وإسلامٌ سوريٌ فريد اعتنق سوريته بقدر ما اعتنقته، معقّدٌ حضاريٌ يخيف الإسلاميين ويؤرّق بناهم الثيوقراطية المُزمعة، يجعلها بنىً فوقية بقدر ما كان البعث، منفصلةً عن واقع البشر تحتها، وتحتاج أبداً إلى العنف كي تسود، كي تبقى، وكي تنجو من هذا الفيض القادم ليبتلع الجميع… الحرية، ومحكومية البشر بها. لقد غيّر السوريون الإسلام مراراً، طوّعوه لهم وفتحوا له آفاقاً لم يعهدها قبلاً… أمرٌ آخر يُخيف الإسلاميين، يجعل بنادقهم دائماً ظاهرة ووجوههم من وراء حجاب. أمرٌ لم يرُقْ للسوريين قط أن يتخفّى الرجال عن الرجال، ليس بعد كل هذا الذي دفعوه ثمناً للكشف على أي حال.
يخيف هؤلاء أنّ يعلموا أنّ عمق السوريين في الإسلام لا يقلّ عن عمق الإسلام فيهم، غِيلان الدمشقي يُخيفهم، وعادةٌ سوريةٌ متأصلة… إتْباع النصّ للعقل ولحوائج الناس، وتَوقهم اللامتناهي إلى التغيير، وإلى مقارعة العالم وإثبات حقيقة أنّه يمكن لنا أنّ نكون أفضل… التقشّف المعرفي ليس خصلةً سوريةً على أي حال، وكذلك الاكتفاء بالمراتب الدنيا؛ تعصف بهذه المجموعة البشرية روح المنافسة، ونزعةٌ أخّاذة إلى النموّ، العمران، وحتى التفوق… عاداتٌ سورية عتيقة تتلاقح في أتونٍ قديم، يدعونه «الحضارة»، الحضارة لم تكن يوماً إلا عادةً للسوريين.
يعصّ الإسلاميون السوريين بفقرهم اليوم، فَعَلَها البعث قبلاً، يشغلون تلك الهوّة السحيقة بين نخب السوريين ومهمّشيهم. لقد تُرك المهمّشون في بلادنا هناك على قوارع الطرق وفي الساحات ليلقَوا مصيرهم، تُركوا لتأكلهم الوحوش الضارية، وتُغتصب نساؤهم، وتُسحق رؤوس أطفالهم بالحجارة. النخب السورية كعادتها أبداً، كانت في أماكن أخرى قصيّة، أرّقها همّ السيادة، ولم تؤرّقها دماء هؤلاء الذين يُقتلون، وكأن الأوطان ترابٌ وسماءٌ وحدود. لقد أسقط السوريون الأوطان دائماً، كانت عقودهم المدينية الصغيرة أكثر عمقاً في ذواتهم الجمعية من سواها، عادةٌ أخذها الإغريق عنّا… «المدينة»، أيضاً، سفّهتها نخبنا المدينية بإسقاطها لعلّتها الأصيلة: «الحرمة»، حُرمة الفرد على الفرد، وحُرمة الفرد على الجماعة… ربّما لأنّ حرمةً الأوطان المُتخيلة كانت ماثلةً هناك، ربّما لأنّ نخبنا السورية كانت مسحورةً دوماً بالعقائد، وربّما لأنّها أسقطت دوماً حرمة الإنسان أمامها، هكذا كان سقوط السوريين نخبوياً بعدم الاكتراث، واللامبالاة المقيتة بحياة الناس وحرياتهم.
لكن شغف السوريين بالحياة أسقط آلهة قبلاً، وقبلها نخباً لم تنحز إلى مهمّشيها، وآلهةً أخرى آيلةً للسقوط، وكلٌ في حينه، فليأخذ الإسلاميون حذرهم، ثم فليغرفوا من الزمن السوري ما استطاعوا، ربّما لأن وقت رحيلهم لم يحن بعد، السوريون اليوم مشغولون بأشياء أخرى: إسقاط الإله القديم، إطعام أطفالهم، ملجأ يقيهم مطر الشتاء القادم، وربّما التأمّل قليلاً في هذا الركام اللامتناهي من البؤس الذي تركه لنا آباؤنا. لكن السوريين المتعبين يعلمون أنّهم محكمون بالخلاص، محكومون في نهاية الأمر بالحرية، إلى هذا الحدّ نحن طموحون، وليس في هذا ما يبعث على الشفقة. ما يثير الشفقة حقاً ملتحون يخفون رعبهم منا خلف بندقية.