تصلح قصة «صعود» العلويين (وقصة «سقوطهم» ربما أيضاً) كحكاية درامية أصيلة للبعض، أو كفيلم ميلودرامي رخيص للبعض الآخر، ولكن الانتقال من الفقر إلى الغنى، أو من الهامشية إلى الشهرة أو من التبعية إلى السلطة أو من الجهل إلى العلم، كان دائماً مثيراً لاهتمام البشر.

هي أيضاً حكاية تعني كل السوريين عبر ثلاثة أجيال: هجرة الريف إلى المدينة بشكل أساسي وتطور المجتمع السوري بشكل عام. العلويون كانوا مرئيين أكثر من غيرهم، خاصة منذ عام 1970 أو خلال آخر جيلين.

مع صعود الأسدية السياسية، وفي ظل نظام ديكتاتوري عسكري مخابراتي كرّس عبادة الفرد الحاكم، وعبر قطاع دولة رأسمالي تضخّمَ باستمرار، ومن خلال عقيدة بعثية شمولية، طبع العلويون سوريا جزئياً بطابعهم، وحازوا بواسطة الطابع الطائفي للنظام الأسدي على قسم كبير ومهم من المجال العام في سوريا، فبرز منهم مثقفون وفنانون وضباط جيش ورجال مخابرات ولصوص ورجال أعمال وشبيحة… ومعارضون سياسيون أيضاً.

لا شك أن العلويين أثاروا فضول السوريين في البداية (وخاصة من أبناء الأرياف الأخرى بكل تنوعها الإثني والديني) مما جعلهم يسعون للتعرّف عليهم أكثر والتقرب منهم ومصاهرتهم في كثير من الأحيان، وفي أحيان أخرى التماهي بهم. كان العلويون من موقعهم الجديد منفتحين تجاه الآخرين خصوصاً مع شعورهم الجديد بالقوة والثقة بالنفس والجدارة.

أما أهل المدن (وخاصة الكبيرة) فكان شعورهم منذ البداية مليئاً بالتوجس، مثله مثل شعورهم تجاه أي ريفي آخر «غير متمدن» قادم بالقوة إليهم، ومع ذلك كان على أهل المدن الكبيرة أن يخضعوا للقوة ويكتموا مشاعرهم ويلتفتوا إلى مصالحهم وحياتهم اليومية.

لم يكن من الصعب على السوريين بمختلف بيئاتهم وثقافاتهم المتنوعة التعثّر بالعلويين، فهم موجودون بكثرة في أكثر ثلاث مناسبات يلتقي فيها السوريون في حياتهم: الجامعة والخدمة العسكرية الإلزامية وأماكن العمل (خاصة في القطاع الحكومي الضخم)، فقد اندفع العلويون بأعداد كبيرة إلى هذه القطاعات الثلاث وكانوا يعتقدون بصدق وحسن نية أن اندماجهم في «الدولة» يعني بالضرورة اندماجهم في المجتمع السوري، ولكن التغيرات الكبيرة التي حدثت في «الدولة» السورية بفعل النظام الأسدي أثبتت لهم وللآخرين فيما بعد أن الاندماج بالدولة لا يقود بالضرورة إلى الاندماج في المجتمع، خاصة في «الدولة» التي بناها الأسديون في سوريا الأسد.

مع توريث الجمهورية ضمن العائلة الأسدية، أدرك السوريون أن هناك علوية سياسية حاكمة في سوريا ولها مفاهيمها ورؤاها وقيمها ورسالتها في الشأن السوري المحلي والعربي والإقليمي والدولي، ومع اندلاع الثورة السورية أدرك السوريون أن هناك طائفة علوية سياسية في سوريا تقودها العائلة الأسدية، بعد أن سقطت خلال الثورة كل الأقنعة الأيدلوجية البعثية واليسارية والممانعة… (الخ) للنظام الأسدي.

لا يمكن تفسير بعض الكراهية المتزايدة تجاه العلويين في سوريا بمعزل عن خيبة الأمل والمرارة عند بعض من كان يحبّهم بصدق، وإن كان يخفي الآن مشاعره السابقة (تكرّر ما يشبه هذه الحالة عند السوريين تجاه حزب الله وحسن نصر الله).

فرضت العائلة الأسدية نفسها على سوريا بقوة الديكتاتور الأب الذي حكم سوريا 30 سنة، مدعوماً دولياً من الشرق والغرب في أكثر فترات انقسام العالم كله بين معسكرين على الأقل، اشتراكي ورأسمالي. أصبح حافظ الأسد في سوريا واقعاً له سطوة قوة الأشياء وخارجاً عن معادلة الحب والكراهية، حيث اكتفت أجهزة مخابراته بـ«تظاهر» السورييين بحبّه علناً في استعراضات يومية، كما لم تستطع بروباغاندا النظام الأسدي «منحبك» في عهد الوريث الابن الصمود أكثر من عشر سنوات حتى انقلب الحب إلى كراهية بمفعول رجعي انصبّ كثير منه أيضاً على «روح» الأب المؤسس.

نعم فرضت العائلة الأسدية نفسها، على القرى والمدن الساحلية أولاً وعلى سوريا ثانياً، بقوة التشبيح الصرف، ولا يمكن لأحد أن يدافع عن فكرة وجود سوري واحد يحب هذه العائلة إلا حبّ العبد لسيده. كما لا يمكن أيضاً تصوّر وجود سوري واحد يحب رجال الأمن العلويين إلا حبّ الضحية المازوشي لجلادها.

أما بخصوص رموز العلويين المشهورين من المثقفين والفنانين فقد بقي موضوع الحب والكراهية هنا الأكثر جدلاً وإثارة للتناقض بسبب تراوح مواقف هؤلاء ظاهرياً على الأقل من النظام الأسدي والثورة السورية، وهذا ناجم عن كونهم الأكثر قدرة على تمويه أنفسهم، وعن كونهم الأكثر قابلية لتعبير الآخرين عن مشاعرهم تجاههم دون خوف.

ولكن الأكثر أهمية بما لا يقاس هو مشاعر السوريين تجاه العلويين الآخرين، «العاديين»، الذين يحتكون بهم يومياً في الجامعة وأماكن العمل والجيش وأماكن السكن، والأماكن الافتراضية أيضاً مثل الفيسبوك.

أظهر الكثير من عامة العلويين منذ اندلاع الثورة السورية (وبصرف النظر عن موقفهم السياسي) فشلاً واضحاً في التعاطف الأخلاقي والإنساني مع ضحايا النظام الأسدي من الثوار، كما أظهر الكثير منهم خوفاً من المساجد ومن كل ما يخرج منها ومن يخرج منها للتظاهر، مع عدم تمييز بين التيارات الإسلامية المختلفة، وأظهر الكثير منهم تعاوناً واضحاً مع الأجهزة الأمنية والعسكرية في قمع الثورة السورية في كافّة مظاهرها السِلمية والعُنفية، كما انخرط الكثير منهم بنشاط في مجموعات الشبيحة و«جيش الدفاع الوطني» فيما بعد، إضافة إلى استمرار اندفاعهم للتعبئة في الجيش النظامي كخدمة إلزامية وكاحتياط وكمتطوعين.

كذلك أظهر الكثير من العلويين خيانة لحقوق الجار في السكن وحقوق الزمالة في الجامعة وفي مكان العمل (ومن ضمنها أماكن الخدمات الصحية كافة!) وحقوق أخوّة السلاح في الجيش، وضرب أولئك بعُرض الحائط كل الأخلاقيات المهنية التي يمكن تصوّرها. ومارس البعض منهم كراهية واضحة، عندما كانت أجهزة الأمن والجيش تعرض المعتقلين أثناء سوقهم لمكان اعتقالهم على التجمعات العلوية في القرى والمدن، بإهانة المعتقلين بشتى الوسائل المعروفة.

كل هذه الأحداث اليومية لم يتم تصويرها ونشر أفلامها في وسائل الإعلام (خلافاً للأفلام العنيفة «المسربة»)، ولكنها فعلت فعلها التراكمي اليومي بآثار أقوى من تلك الأفلام «المسربة».

أبقى النظام الأسدي عنف بعض العلويين الطائفي بلباس الجيش «الوطني» و«الدولة» و«الوطن»، ولكن مجازر البيضا وبانياس الأخيرة أوحت بإمكانية بروز علوية عارية مقاتلة عند الضرورة في المستقبل إبان سقوط النظام. ينتقل عنف بعض العلويين أحياناً وفي بعض الأماكن من عنف «الضحية الأبدية» كرد فعل، عندما تتاح الفرصة لها بالرد،ّ إلى عنف القادر «الفاعل» وهذا أمر يجب رصده باستمرار في تطور الأحداث في سوريا.

لقد نجح النظام الأسدي عبر تقطيعه للقرى والبلدات والمدن بالحواجز، نجح بصورة خاصة في عزل العلويين عن الشعب الثائر بجدار فصل عنصري ينمّي وراءه مشاعر الكراهية والحقد مع الفعل القوي التأثير لأجهزة إعلامه برسائلها المسمومة.

الأمر الرهيب الذي بقي هو صمت العلويين عن المجازر الطائفية للنظام الأسدي، هذا الصمت مختلف كثيراً عن كل أنواع صمت السوريين الآخرين «الصامتين» خلال الثورة السورية، فهو ليس مجرد صمت الحملان أثناء ذبح أحدها، إنه أكثر من هذا، فمنه تفوح رائحة التواطؤ السلبي أكثر من رائحة الخوف..

الحب (إذا افترضنا وجوده) يتوقف في هذا الشرط الإنساني، ثم ينقلب إلى كراهية، وقد ينقلب إلى احتقار، وقد يمهِّد في المستقبل إلى جرائم الكراهية.

الواقع الافتراضي مؤشر من مؤشرات هذه التحولات في المشاعر، ففي تفاعل السوريين في الفيسبوك يتم التعبير صراحة ودون مواربة (ربما بطريقة أسهل مما يحدث في الحياة الواقعية) عن كل هذه المشاعر المتقلبة. هنا تظهر عتبات التحمل بين «الأصدقاء» الافتراضيين والقدرة على التسامح (tolerance) وعلى رحابة الصدر وسعة الأفق.

كذلك الأمر تصلح مراقبة سلوك السوريين تجاه العلويين المنخرطين في الثورة السورية، على قلتهم، كمؤشر على مشاعر الكراهية المتفشية في المعارضة والثورة. بناء الثقة شيء صعب دائماً ويحتاج إلى وقت طويل وتجارب مختلفة، وهو أصعب في النشاط المسلح منه في النشاط السلمي. كما أن بناء الثقة أصعب في الميدان داخل سوريا منه في الخارج في أروقة المعارضة المتشعبة وفي المغتربات السورية.

لماذا كان النظام الأسدي بحاجة إذن إلى تسريب كل تلك الأفلام العنيفة المتطرفة بقصد الشحن الطائفي؟ لأنه لا يوجد احتقان طائفي في كل سوريا مثلما هو موجود في الساحل السوري أو في حمص أو ريف حماه أو في بعض الأحياء في دمشق… هناك مناطق كثيرة في سوريا ليس عندها «عقدة العلويين»، وأشهرها وأكبرها حلب. ولا ننسى حاجة الآخرين أيضاً الذين يدفعون بالاستقطاب السنّي العلوي للأمام دائماً إلى هذا التحريض والتجييش والطائفي من حين لآخر في محاولتهم اختراع طائفة سنية سياسية في سوريا في مقابل الطائفة العلوية السياسية.

الطائفية كانت دوماً مفهوماً سياسياً، ومشاعر الحب والكراهية في السياسة موجودة دائماً، ولكن مايهمّنا هنا هو تلك المشاعر الاجتماعية لا السياسية، تلك المشاعر الشخصية الذاتية لا الموضوعية؛ كيف نتقّي المجازر الطائفية «غير السياسية» وكيف نحول دون وقوع جرائم الكراهية؟

فيما عدا ذلك كلنا أصبح يعرف في الثورة السورية والصراع السياسي الحالي أن أقصر الطرق للخلاص من الطائفية السياسية هي بإسقاط النظام الأسدي، أسّ العنف السياسي والمجازر السياسية في المجتمع السوري.