يقترب الطفل ذو الثمانية أعوام من إحدى مشرفات مركز التعليم البديل في ريف دمشق القريب، وهي منكبّة على الآلة الناسخة تقوم بتصوير بعض الأوراق، ويقول لها دون سياقٍ سابق: «بتعرفي؟ نحنا طلعنا وكان بدّنا بشار يموت بس ما مشي الحال… أحسن شي نحنا نموت منروح عالجنة ومنرتاح منو»!

في صباح ذات اليوم، كانت المشرفة نفسها قد تلقت رسالة إلكترونية من إحدى المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال دعم الطفل في فترات النزاع والكوارث، يحثّونها فيها على طلب المساعدة، ويعرضون مروحة متنوعة من الدورات التدريبية والتأهيلات للمتطوعين، من بين التدريبات المقترحة دورة تؤهّل العاملين مع الطفل لـ«تقييم الحاجات». يُقصد بالحاجات حاجات الطفل في زمن الحرب.

فكّرت المشرفة بماذا يمكن أن تجيب على تلك الرسالة الالكترونية؟ يمكنها أن تنقل حاجة الطفل مباشرة، خام، كما هي، دون تشذيب: الطفل الفلاني بحاجة لأسرع طريقة موت على أن يكون مآل الرحلة مضموناً في الجنة. ثم استدركت فوراً، فبما أنّ المنظمة تعرض تأهيلاً في تقييم الحاجات، هذا يعني بالتالي أن تقييمها الأولي غير خبير وغير حكيم، والأمر يتطلب تأهيلاً للانتقال من الدرجة الأولى للغة إلى الدرجة الثانية فالثالثة فالرابعة… وهكذا حتى تصل إلى المغزى الأعمق لمقال الطفل. أمّا الدرّة الأفضل فهي أنّ المنظمة نفسها تطلب من العاملين مع الأطفال إنشاء سياسة حماية طفل في المراكز التي يعملون بها! نعم، سياسة حماية طفل في المناطق التي يعملون بها مع الأطفال، وهي غالباً مناطق تتعرض للصواريخ والقذائف والاستباحة بكل أشكالها، على الأقل الجوّية منها. سياسة حماية الطفل ليس القيّم عليها ممثّلين عن الدولة، ومع ذلك فعلى الناشطين والعاملين المتطوعين أن ينشئوا سياسة حماية طفل تتضمن بنوداً وتدابير تحمي الطفل من المخاطر المهددة لحياته.

قد يقول قائل إن المشكلة ببساطة هي أن المنظمة الأوربية تفترض أن النظام القائم له عقلانية الحكومة الهولندية أو الفرنسية أو البريطانية، ولكن بنسخة تنفيذية أقسى بقليل، لأن عقلها يقصر عن استيعاب لاعقلانية النظام القائم في سوريا.

المشكلة ليست هنا، وبعيداً عن السخرية العقيمة التي ندافع بها عن أنفسنا لا غير، في مواجهة هول ما نعيش في هذه البقعة من الكوكب، لا بد لنا أن نتوقف ونتساءل عن الدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية حالياً في سوريا، وأبعد من ذلك أن نتساءل عن الدور الذي ينبغي أن تقوم به من وجهة نظر إنسانية صرفة. ما سأقوله لا يطمح لإعادة النقد النظري المعروف لعمل المنظمات غير الحكومية، هو بكل بساطة شهادة طازجة بسياق سوري، شهادة أناس مستجدّين في عالم المنظمات غير الحكومية والجهات المانحة للعمل المدني، لأننا نعتقد أن أحد عناصر العمل الأصيل هو أولاً تثبيت الشهادات بلغة بريئة غير محنّكة.

المشكلة المعضلة التي لم تعد تخفى على أحد هي أن كافة مناطق سوريا، إلا استثناءات بسيطة، أصبحت حفرة لا قعر لها من الحاجات الإنسانية. التبرعات ذات الطابع الأهلي لم تعد كافية على الإطلاق لمواجهة الدمار الشامل في بنى الحياة المختلفة. إلى جانب ذلك، امتداد الثورة لأكثر من سنتين أفقر المجتمعات الأهلية التي كانت تتبرّع بعد أن فقدت عملها في معظم الأحيان. في مواجهة هكذا كارثة لم يكن أمام الشباب المنخرط بالثورة والملتفت إلى الجانب الإغاثي إلّا أن يعتبر التعاون مع المنظمات المموّلة فرصة ثمينة ينبغي انتهازها دون تردّد، للمساهمة في سداد جزء بسيط من الحاجات المهولة.

للحصول على التمويل، تصطدم المجموعات الناشطة قبل كل شيء بالمتطلبات المبدئية للجهة المانحة. الهيكلية وآليات العمل والتخطيط المسبق، فرض مقيّدات دقيقة لبنود الإنفاق، فرض معايير جودة عالية (غير مؤقلمة في غالب الأحيان مع السياق المحلي ومع عدم استقرار الأوضاع الأمنية)، كل تلك الأمور تعطي الانطباع بأن الحرب والنزاع مسلّمات بشرية لا يُستغنى عنها، ليست حالة طارئة تستدعي الغضب والاستنكار والتحرك العفوي لوقف القتل. التنظيم هو عكس التلقائية والعفوية، هو الدم البارد تعريفاً. والتنظيم يستدعي آليات عمل وآليات مراقبة وجمع قواعد بيانات دون توقف.

ولكن ما معنى آليات العمل والمراقبة أمام البراميل المتفجرة وصواريخ السكود؟ وما معنى التأهيلات والتنويعات على التأهيلات في فنون المواطنة، إذا كان نصف مواطني المتأهل سيموتون قبل إتمام دورته التدريبية؟ هذا يعني، حرفياً، أن تُخضع موتك لآلية تنظيمية، بالعمق هو عقلنة، وبالتالي تطبيع للحالة القائمة، أي عقلنة الموت باختصار. أما الاستنكار والغضب فيبقيان مندرجين تحت مسمّى الطارئ وغير العادي، وهو ما يليق حتماً بمُعاشنا غير العادي. كل ذلك في حال اعتبرنا الجهة المانحة نظيفة التمويل، ولا تبحث عن جمع معطيات لأهداف أخرى، كما يشير بعض الناشطين أحياناً.

غنيّ عن القول أن من يُجري الاتصال الأول بالجهات المانحة هو شخص يمتلك أدوات الاتصال ولغات أجنبية، ويتمثل بيسر الآليات ونماذج العمل والمفاهيم المستخدمة للتنظيمات الغربية، وسيقوم بدور الوسيط بين الجهات المانحة والمجتمعات المحلية. غالباً، يتكرّس عند المجتمعات المحلية (الشريحة المستفيدة نظرياً) انطباع باستحالة الاستغناء عن الوسيط، لعدم امتلاكهم بالضرورة نفس أدوات التواصل مع المنظمة المانحة، حتى يكاد يتماهى في ذهنهم الوسيط الحامل للمشروع مع الجهة المانحة للمال، فيُضاف إلى رأسماله الرمزي المال. جوهر القضية ليس أنّ المنظمات غير الحكومية تقيّم عمل المجموعات المدنية الإغاثية وتشرط استمرار التمويل بأداء تلك المجموعات دون أن تُخضع نفسها لتقييم متبادل فحسب، بل إن الشرائح المستفيدة مباشرةً من العمل المدني لن تفكر يوماً بتقييم عمل الجهات المانحة. على كلٍ لن يسألها أحد التقييم، فهي تتلقى الميرون المقدس حباً وطواعية، نظراً للدمار المحيط وانعدام أي شيء له علاقة بالحياة الإنسانية.

ينهمك الناشط المدني في العمل استجابة لآليات وأطر عمل المنظمة المانحة، عمل بوقت كامل لا يلهيه عن المتطلبات السياسية الأساسية التي قام من أجلها الشعب فحسب، ولكنّ العمل يخلق استيهاماً غريباً بالاستقرار (كل شيء نسبي طبعاً مع صواريخ السكود والقذائف)، استقرار على هامش الخراب وعلى مستوى حياته الفردية. هذا الاستيهام يجعله يذهب بعيداً في إرادته في التغيير والتنمية والإغاثة، حتى ينسى أحياناً أن منجل الموت ما زال يحصد الأرواح، وأن العمل المدني يبقى محدود الأثر في ظروف مماثلة. بهذا المعنى يصبح لمقولة «المال مفسد» بعداً عميقاً، أعمق من الفساد المباشر أو الاختلاس. المال مفسد بمعنى أنه يخلق شروطاً ومعطيات جديدة للعمل المدني أقل توتراً، ولكن على المدى البعيد أقل أصالة، يستنسخ تفاصيله وفق نماذج عالمية، ولا يتعلق دائماً بالحاجة المباشرة للناس. ذكر لي أحد أهم العاملين في مجال الإغاثة الغذائية في دمشق أن إحدى المنظمات كانت تعتمد نموذجاً موحداً للسلل الغذائية الإغاثية تتضمن عشرة كيلو من الرز كل شهر للأسرة الواحدة. ظل يتساءل أشهراً «لماذا؟» حتى فهم أن هذا النموذج عُمّم بعد تسونامي 2005 في آسيا. في كل الأحوال، انزياح غذاء السوريين الأساسي من الخبز إلى الرز ليس أسوأ ما مرّوا به.

ما العمل؟ هل يمكن حالياً لأي شخص لديه قليل من العقلانية أن يرفض التمويل، أي تمويل للتخفيف ولو قليلاً عن السوريين ؟ لا.

بعيداً عن الوعظ المباشر بضرورة تكريس أصالة العمل دون الانصياع الأعمى لإملاءات المنظمات، وبضرورة إشراك المستفيدين في تصور العمل المدني المصمم لصالحهم وضرورة إخضاع المنظمات لتقييم متعدد الجهات، بعيداً عن كل ذلك، نريد أن نتساءل عن بديهية يبدو أن لا أحد يشكك بها، مفادها أن كل ذلك الكم من المنظمات والجمعيات والهيئات لا تستطيع القيام بأي فعل سياسي لإدانة القتل. يبدو كلامي شديد السذاجة والطفولية، ولكنه مشروع.

إن كان أحد تعاريف الديمقراطية هو ممارسة الفرد للرقابة على المجتمع وممارسة المجتمع الرقابة على الفرد، فهذا المفهوم ينسحب على علاقة الفرد بالمجتمع الدولي. الثورة السورية أبرزت الحاجة لإعادة صياغة علاقة الفرد بالمجتمع الدولي. كفرنبل استوعبت المعادلة على ما يبدو وبأفضل الطرق، هي تخاطب المجتمع الدولي باسم الفرد السوري، تضعه أمام حقيقته، وتقول له: أوقف القتل قبل أن تقيم دورات في فنون المواطنة وفي تقييم الحاجات.

كفرنبل لا تحتاج لدورة في تقييم الحاجات، تحتاج رسّامها وشبابها االناطقين باللغات وصورتهم الجماعية مع بعض زيتونات من إدلب الخضراء في خلفية الصورة.