كان نائماً حين ضرب صاروخ منطقة عين ترما، التي يقطن فيها حالياً. قام فزعاً وركض إلى الشرفة، نظر إلى الشارع ورأى أشلاء الأطفال متناثرة هنا وهناك، صرخ بصوت عالٍ: «الله أكبر». نزل مسرعاً، أدار سيارته، المرسوم عليها شعارٌ للجيش الحر، والمكتوب تحتها «أحرار حي الميدان المجاهد»، أسعف بعض الجرحى إلى أقرب نقطة طبية.

هو أبو فهد، قنّاص أحد ألوية الشمال، خدم في حلب سبعة شهور، عاد «للجهاد» في مدينته «دمشق»، لأنها أولى به، حسب قوله. أراد مع أخيه وبعض أصدقائه تشكيل كتيبة مستقلة، لكن قلة الدعم حالت بينهم وبين تشكيل الكتيبة. كان قد نشأ في بيئة محافظة، ضمن أحد الأحياء الدمشقية القديمة. والده شيخ الجامع، لذا كبر في خدمة الجامع والناس، وهذا ما أثر على شخصيته وعلاقته بالكتائب المقاتلة. كنت تراه عند قائد كتيبة ما يخدمه بكل ما أوتي من محبة، ومن ثم عند مجموعة أخرى يَصِلها بأحدٍ ما لجلب السلاح اللازم لمعارك الجبهات، أو كنت تراه في سهرات ثورية يغنّي لهم ويُنشد بصوته العذب. هو من أتباع الطريقة الصوفية، لذا تراه يحفظ العديد من الرباعيات والسباعيات، يحوّر معظم كلامها لتصبح أغاني ثورية، حتى أنّه كان يتغنى بالحب والنساء رغم تديّنه الظاهري.

يذكر لي تفاصيل انضمامه للثورة، وكيفية اعتقاله في المرات الخمس من العام 2011 (أطولها كان عشرين يوماً)، وأنّ حمله السلاح كان رد فعل على الظلم الذي طاله رغم عمره الصغير نسبياً (كان يبلغ السابعة عشرة حين بدأت الثورة في آذار 2011). رغم سنوات عمره القصيرة وتجربته الصغيرة في الحياة، كنت تراه يقود مجموعته بحزم، ويمارس المهمات القيادية بشجاعة، يتصدّى للمصاعب، ويتحمل مسؤولية «رجاله» وعائلته حين نزحت من حي الميدان الدمشقي إلى حيث «يجاهد» في إحدى بلدات الغوطة الشرقية.

والدته أمرأة طيبة، وأخته صغيرة، كانت تختلس النظر إلى الرجال وهم يهمّون بالخروج، وتتعلق نظراتها بأخيها، تراه أحد أبطال الأفلام ربما. والده شيخ جليل، من أشدّ الأوفياء للطريقة الصوفية، وللثورة السورية. ضحّى بولدين يخدمان في صفوف الجيش الحر، والآخر يعيش خارج سوريا منذ فترة طويلة. «كان الشيخ يدعو لنا طوال الوقت، لم يكن يستطيع فعل شيء آخر، بسبب جلطتين أصابتاه أثناء اعتقالين لابنه الصغير، كما كان يردد بعض الأشعار لشيخه الرفاعي، وأُخرى ألفها هو ’لم تُنشر وسمعها القليل من الناس‘، استطعت نقل بعضاً من هذه الأبيات إلى دفتري:

أسْتودعُ الله أولادي وأُمهمُ .. وَجيشِنا الحرّ وَالثُوارَ وَالبلدا

أستودعُ الله قوماً كنْتُ آلفهم .. وَالدينَ وَالمالَ وَالإخوانَ والجسدا

أستودعُ الله قُرآناً رُزقتُ بِهِ .. فهو الحفيظُ ما استودعتُه أبدا

أبو فهد ليلاً ليس كما هو نهاراً، كان يعيش قصة حبّ مستترة لم يكن يجرأ على البوح بها لأحد. كان يلج الشبكة العنكبوتية من هاتفه المحمول، ويدخل إلى إحدى شبكات التواصل الإجتماعية ليحدث حبيبته النازحة إلى منطقة سورية أُخرى. كان يستشيرني كل مساء عن الطريقة التي يتوجب عليه الحديث معها، كوني الأخبر في هذه الأمور كما كان يظنّ. حبّه كان عذرياً. وفي مساءات أُخرى كنا نلعب مع بعض عناصر المجموعة بأوراق اللعب «تريكس»، كان ينفض غضباً حين يخطئ شريكه، وكان يخفي الأوراق حين يشعر بأن والده قد اقترب «لأنو لعب الشدة حرام».

أبو فهد ليس مقاتلاً فحسب، لم يخرج ليقتل، ولم تكن الحرب هوايته. هو شاب سوري كغيره من الشباب، تتحكم مشاعره وعواطفه بأفعاله، لا أهداف واضحة لقتاله، سوى دفع الظلم، ينساق مع الأحداث، لا يستطيع الرجوع إلى بيته الآن، ينتظر سقوط النظام كمعظم السوريين، ويناضل ليستمر بالعيش رغم قوله المتكرر: «الله يطعمنا الشهادة».