كما في كلّ منعطفٍ ولحظة مفصليّة مرّت بها الثورة السوريّة، كان الرأي العام السوري، والعالم أجمع، على موعدٍ متجدّد مع علامات مراهقة المعارضة السياسيّة السوريّة واكتفائها بالبؤس، بل وإعجابها بنفسها وهي تجسّده. في الميدان تتلاقى كلّ الخطوط البيانيّة وغير البيانيّة عند معركة القصير؛ وفي السياسة تتداعى القوى الإقليميّة والدوليّة إلى مؤتمر جنيف؛ وفي المناطق الشماليّة المحرّرة تتكاثر مصاعب الحياة اليوميّة لمن تبقى من سكانها، بين عوزٍ كبير في كلّ الاحتياجات الضروريّة وانفلاتٍ مخزٍ لعدد كبير من الكتائب المُسلّحة المُتسابقة على السلب والنهب وإعادة إحياء موبقات النظام وجرائمه… وفي هذه الأثناء تنشغل المعارضة السوريّة بمناقشة توسعة الائتلاف الوطني بطريقة مُخجلة ﻻ تختلف بشيء عن الطرق التي نوقشت بها توسعات المجلس الوطني قبلها. اتهامات متبادلة بالتبعيّة، تهديدات بـ«فضح المستور» تجيب عليها مزايداتٌ وصراخٌ يرفع منسوب الفضيحة إلى درجات أعلى فأعلى.

كيف يمكن أن ننتظر من هؤﻻء موقفاً متماسكاً بالحدّ الأدنى، وهم الذين لم يتفقوا حتى على اﻻمتناع عن رفد إعلام النظام السوري وحلفائه، الشامت والفرح، بأدلّة متجددة باستمرار عن بؤسهم وقلّة أفقهم؟ كيف يمكن أن نشمئز من كلام سيرغي ﻻفروف المقيت عن المعارضة السوريّة، دون أن نتألم ﻷن أول حليفٍ لكلام وزير الخارجيّة الروسي ليس إﻻ سلوك المعارضة السوريّة نفسها؟ أليس استمرار تحمّل هذه المعارضة السياسيّة على أمل تغيّر سلوكهم دليلٌ على «تفاؤل ثوري» أخرق ﻻ يرى الجدران الفولاذيّة المنتصبة أمامه على شكل غرورٍ شخصيّ متفجّر، ومصالح حزبيّة وفئوية رخيصة، وضيق أفق سياسي وأخلاقي كبيرين؟ لماذا تفجّرت الثورة السوريّة إبداعاً في كلّ المجالات، من التعبير الفنّي وحتّى اختراع أنماط مقاومة مسلّحة وغير مسلّحة، مُذهلة في روحها الابتكاريّة، في حين بقيت عقيمة سياسيّاً؟ إنها أسئلة متأخرة دون شك، لكن الإجابة عليها ممرّ إجباري ﻻ مهرب منه.

جنيف اليوم في القصير، حيث يشنّ جيش النظام السوري، مدعوماً بمقاتلي حزب الله، حرباً يريدها قلباً للطاولة فوق رؤوس الجميع. إنها جوهرة تاج الهجمة التي يشنّها منذ أسابيع طويلة في مناطق عدّة من البلاد، وأدّت لتقدّمات عديدة على عدّة محاور، ﻻ سيما في ريفي حلب ودمشق. مقابل ذلك، شحّ في السلاح بسبب الحظر على توريده (مستمرّ حتى أوائل آب المقبل على الأقل، حسب ما أعلنه الاتحاد الأوروبي أمس) وعجزٌ عن التصدّي لتفوّق النظام جوّاً، لكن أيضاً حالة تخبّط ميداني، بين نماذج مقاومة أسطوريّة كتلك التي تقدّم في القصير وبين كتائب متفرّغة بالكامل للنهب والسلب في مناطق محررة تبعد عشرات بل ومئات الكيلومترات عن أقرب نقطة لجيش النظام السوري. بين اتهامات للإخوان المسلمين بتخزين السلاح والامتناع عن إرساله للمناطق المُحتاجة وردودٌ على هذه اﻻتهامات تشبهها كثيراً.. وسط هذا التحالف من العدوانيّة والبؤس، ﻻ يمكن للمرء إﻻ أن يستغرب الملحمة الأسطوريّة المتمثلة بالمقاومة التي ما زالت، رغم كلّ الصعوبات، صامدة.

جنيف اليوم في القصير ليست سوريّة فحسب، فدعوة حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، خصومه المحليين لتحييد لبنان والذهاب للتعارك معه في سوريا ليست فقط مثالاً يكاد يُبكي في هزليته عن تحوّل سوريا إلى ساحة تصفية حسابات بين خصوم لبنان، الساحة الإقليمية والدولية الأبرز على مدى عقود؛ بل هو أيضاً طريق إيران لفرض نفسها ﻻعباً أساسياً في جنيف، باعتبارها ليست فقط حليفاً استراتيجياً للنظام الفاشيّ في دمشق، بل أيضاً بوصفها أمّ التشكيل الميليشياوي الذي وَجد في معركة القصير فرصة فرض نفسه رقماً في المعادلة السوريّة المليئة بالمجاهيل.

جنيف لن تكون حلّاً، ويستغرب المرء كيف يمكن للبعض أن يُبالغ بالاحتفاء بـ«التفاهم» الروسي-الأمريكي، وكأن الثورة السوريّة إنما قامت بسبب اختلاف الأمريكان والروس. ليست حلّاً، لكنها استحقاق مُهم، على الأقل من جهة تبلور موقف دولي أكثر وضوحاً في سوريا، واستفهام إن كان الغرب فعلاً بات يرجّح إمكانيّة المُسايسة مع بشار الأسد، مباشرةً أو لا، على دعم هُلامٍ غير واضح المعالم على شكل معارضة سياسيّة بائسة ومُتعاركة وقوى مُسلّحة ﻻ مركزيّة بالكامل في قرارها وتسلّحها وإيديولوجيتها ومنطلقاتها. يُضاف إلى المشهد تواجد قوى متطرّفة دينياً، كجبهة النصرة، تنفع كفزّاعة يتقن أصدقاء النظام السوري اللعب بما تسببه من رعب. ما نُشر حتى الآن من بنودٍ تمهيديّة ﻻ يُبشّر حتى بالحد الأدنى من متطلبات السوريين أمام نظامٍ مجرمٍ قاتل، وهل نتأمل من المتعاركين في اسطنبول تغيير هذا الميزان السياسي؟ كيف؟ ربما يُعد ترفاً في غير محلّه أن نأمل –فقط!– أﻻ يتعاركوا فيما بينهم أمام العالم أجمع.

جنيف اليوم في القصير، وأخوات القصير. ليس اليوم فقط: غداً، بعد أسبوع، بعد شهر، أو بعد ستة أشهر أيضاً.

لا نستطيع حلّ مشكلة التمثيل السياسي للمعارضة السوريّة في أسبوعٍ أو شهر، لكننا نحتاج، لو كان فقط كطريقة لـ«فش الخلق»، أن نعبّر عن الغضب تجاه شرذمة تجمعات، بعضُها حقيقيّ ووهميّ أغلبها، ﻻ تستحق شرف تمثيل أسطورة الثورة السوريّة ضد نظام الطاغية الفاشي، وليس قاسياً بتاتاً القول بأنهم عبء على السوريين وثورتهم منذ اللحظات الأولى. ﻻ حلّ سحري للمأزق السياسي اليوم، كما ﻻ حلّ سريع لذلك… وهنا المأساة: الوقت لم يعد يجري لمصلحة الثورة، وعلى السوريين، فوق كلّ ما يعانونه من إجرام النظام وصعوبة الحياة في البلد، أن يضيفوا معارك الهزل المؤتمِر في اسطنبول إلى قائمة همومهم التي ﻻ تنتهي.