مقارنة السياق كثيراً ما تحيل إلى نتائج وعوامل اجتماعية وتاريخية وسياسية متشابهة، على خلاف مقارنة التوازي التي تحيل إلى الشيء ونقيضه. كثير من الصحافيين والمثقفين السوريين والعرب يركنون إلى مسلّمة شعبية، ليست صحيحة،  ألا وهي تشابه سياقات الظرف الاجتماعي والتاريخي والسياسي والاقتصادي بين سوريا ومصر. وهذه المقدمة غير السليمة تقود إلى نتائج غير سليمة، بالضرورة.

إن العلاقة السابقة لتأسيس الثورة في كلا البلدين ليست علاقة سياق متشابه بقدر ما هي علاقة توازي متناقض، طبعاً إذا استثنيا «الاستبداد» بما هو مائزة للمجتمع العربي ككلية، والمثالان هنا لا يستثنيان.

أزعم أن هذا التوازي الظرفي المتناقض هو ما عجل بنصر الثورة المصرية خلال فترة قياسية، وأجل نصر الثورة السورية الحتمي، وجعل الثانية تأخذ سيناريوهات تغرّد بها خارج منظومة الربيع العربي، ليس في مصر فقط وإنما في باقي البلدان:

الدولة في مصر أكثر تطوراً وتغريباً وحداثةً عنها قي سوريا. على الرغم من الأنظمة الشمولية التي حكمتها، مصر لم تمرّ بمشكلات مشابهة لسوريا، وذلك لما للمؤسسات والنخب الثقافية في مصر من ماضٍ وتقاليد تفوق مثيلاتها في سوريا، مما أتاح لها التمكن والصمود أمام الضربات المتتالية من قبل هذه الأنظمة.

أما في سوريا فإن النخبة العسكرية الحاكمة، وبعد التحديثات الأمنية الملحقة بها، تمكنت من توجيه ضربات قاصمة وقوية للمؤسسات والنخبة الثقافية، مما أتاح للدولة العميقة التبلور نحو تشكيل نظام لا يمكن أن تجد له شبيه في الأنظمة والمنظومات السياسية والعسكرية التي عرفها التاريخ، القديم والحديث على حداء سواء.

إذا ما نظرنا إلى تجربة مصر خلال الحقب التاريخية الفائتة، وخاصةً ما بعد الناصرية والساداتية، نجد أن فرص الاحتكاك بالحداثة والتفاعل معها هي أكبر من مثيلاتها في سوريا، وخاصةً بالصفحتين الأسديتين، الأولى الأب حافظ والثانية الابن بشار، حيث أن فرصة الاحتكاك بالحداثة والتفاعل معها كادت أن تكون معدومة، والنادرة منها تُمنح للطبقة الحاكمة وزبانيتها. وحداثة الابتعاث الدراسي الخارجي الأولى، حينما كان رفعت الأسد عضو قيادة قطرية، رئيساً لمكتب التربية والتعليم وتم ابتعاث 197 طالباً للدراسة خارج القطر، ثم تبين فيما بعد أن 195 طالباً هم من المكون العلوي وتحديداً من طرطوس واللاذقية والطالبان الآخران كانا مناصفةً بين المكون السني والمسيحي، ذلك خير ما يمكن أن يدرج مثالاً هنا.

مصر، على الرغم من كل مساوئها السياسة، استطاعت أن تشكّل، ولو بالحد الأدنى، نموذجاً حاضناً للثقافة والفن والتاريخ. ولكن سوريا خلال صفحتي الحكم الأسدي شكلت أسوأ ما يمكن أن تصل إليه دولة في نموذج الفشل، لذلك، الثورة بمعناها الحالي انتصار خالص لن يسبّب أي ضرر، كبُر أم صغُر.

من ناحية التداخل السياسي، تميزت السياسات المصرية، وخاصةً في حقبة مبارك، في عدم التقارب مع النموذج السياسي السوري، الذي كان أقرب منه لقرصان يبتزّ وليس له صديق. استطاع مبارك أن يتملص من الفخاخ السياسية الني نُصبت لمصر في الحقبة الناصرية والساداتية، حيث ساد نمط من حبك المؤامرات السياسية والعسكرية لمصر، ودفعها إلى حروب معلومة النتائج سلفاً، بالمزايدة عليها عبر القضة الفلسطينية، وما حصل من تحريض قامت به إذاعة دمشق وجريدة «البعث» التابع للحزب السوري الحاكم ومن اتهام للسادات بالتقاعس بالحرب مع إسرائيل هو أكبر مثال يمكن أن يساق.

الثورة في مصر، على الرغم من الـ460 شهيداً الذين سقطوا، حافظت على نسق متوازن، بفضل المؤسسة العسكرية الوطنية ذات التقاليد، على عكس المؤسسة العسكرية الضيقة، وأعني القوات الخاصة والفروع الأمنية وبالأخص المخابرات الجوية التي أسسها الأسد الأب والتي قتلت حتى الآن ما يقارب الـ100 ألف سوري، وهجرت 6ملايين مابين دوار الجوار وما بعد الجوار، وأدخلت أكثر من 750 ألفاً إلى المعتقلات والأقبية الأمنية، مازال نصفهم في غياهب السجون. ناهيك عن اقتصاد هو بالأصل مترسمل لحساب الدولة العميقة في الظرف العادي، فما بلك بالظرف الاستثنائي؟ يضاف لما أسلفت ثروة تاريخية وحضارية دُكّت بالمدافع على طول وعرض التراب السوري، لا يُستثنى من هذا الدمار والفتك سوى خط الشريط الساحلي، وهذا ما جعل الثورة تأخذ سياقات الدفاع الشرعي والمشرعن الذي لا يتناقض مع أدبيات سِلميات الثورات، والتي دعمها كافة اليسار في العالم.

بنية مصر السياسية لم تدع مجال للعالم أن تأخذ الثورة فيها سياقات ظرفية خارج النموذجي والمألوف، بما هي قائمة على توازنات سياسية محلية وإقليمية ودولية تسترعي الحد الأدنى من شرعية المصلحة والشأن العام، على نقيض توازنات نظام الأسد الذي أقامها على الارتهان لأجندة دولية (روسية) وإقليمية (بما يجسده الحرس الثوري الإيراني وحزب الله من أصوليات إرهابية)، ناهيك عن الترامي في أحايين بحضن المملكة العربية السعودية ومنظومة البترودولار وفي أحايين أخرى في أحضان إسرائيلية، مما جعل توازناتها معقدة تراعي كل مصالح سالفي الذكر، وتجعل من المصلحة الوطنية شيئاً مستثنىً من الحسابات.

أزعم أن هذه المقارنة المتوازية تظهر الشيء ونقيضه في اللحظة السابقة للحظة تأسيس الفعل الثوري في كلا البلدين، وربما الشيء الذي يجمع النموذجين هو التعبئة الجماهيرية الراغبة في التحديث واقتلاع الاستبداد والفساد من جذوره.