ليس المقصود أن النظام السوري يعاني أزمة، وإنما هو الأزمة بحد ذاتها. فأزمة النظام السوري يعني أنه المسؤول عن كل ما يحدث في سورية من تجاوزات تتجاوز اي انتماء لبني البشر وتعيد سورية إلى ما قبل عصر بناء الأوطان, عصر العصبيات والهويات الانتمائية العرقية والدينية، بل والمناطقية والعائلية الضيقة والتي تتجاوز بعد الانتماء الوطني, بل ربما نقول, تعيد سورية إلى عصر ما قبل الاجتماع البشري.
يذكر المؤرخون أنه، عشية خسارة حرب عام 1870 أمام القوات الألمانية، أو قوات مملكة «بروس» في ذلك الوقت, تباحث كبار صناع السياسة الفرنسية في أسباب هزيمة جيش بلدهم. كانت مجمل الاسئلة التي طُرحت تتعلق بالانتماء الوطني والمواطنة والدور الضعيف الذي كانت تلعبه المدرسة المدرسة هنا تكتب بحرف كبير في الفرنسية للدلالة ليس فقط على المدرسة كبناء أو مؤسسة وإنما جميع ما يمتّ لها ويرتبط بها من محتوى مناهج وطرائق وأدوات الخ، أي باختصار المنظومة المدرسية أو النظام التربوي. لما لاحظوه من تجاوزات أخلاقية خلال الحرب: كيف يمكن للمزارعين إيواء الجنود الالمان وتفضيلهم على الفرنسيين؟ كيف يمكن للخباز أن يبيع الخبز للجنود الألمان بدلاً من جنود بلاده؟ كيف يفضّل بعض السكان إيواء الجنود الألمان؟ كيف يمكن للبعض الآخر أن يقوم بدور «الدلال» للجنود الالمان؟ جميع الأسئلة من هذا النوع، المرتبطة كما نلاحظ بالبعد الانتمائي للوطن وبشكل اساسي بالبعد الاخلاقي، وُضعت للإجابة عن سبب الخسارة, وقادت جول فيري إلى تصحيح النظام التربوي بل وإصلاح النظام السياسي برمّته، وتأسيس فيما عرف فيما بعد بالجمهورية الثالثة.
ولذلك يمكن طرح العديد من الأسئلة من أمثلة: كيف يمكن زرع روح التضحية بالإنسان ليضحّي بنفسه في سبيل وطنه؟ كيف يمكن زرع قيم التضحية بالمصالح الذاتية للصالح العام, في ظل حتى غياب البعد الديني, إن اعتبرنا أن النظام السوري نظام «علماني» كما يتغنى دائماً, بما أن حل المشكلة في فرنسا كان باتخاذ العلمانية؟ أطرح هذه الاسئلة لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه الأسئلة وما يجري في سورية، رغم أن النظام السوري –الذي يتبجح بالعلمانية شعاراً له، ليس فقط إلا للتمثيل أمام الغرب– كان يسمح بالتعليم الديني في المدارس من جهة ويحارب الانتماءات الدينية من جهة أخرى، بل يصل به التدخل حتى في إعداد ائمة المساجد وفيما يجب أن يقولوه في خطب الجمع، كما يعلم الجميع. علمانية النظام السوري كانت باختصار تمثيلية أمام الغرب, من جهة لإبراز وجه متقدم له، وهو ما عبّر عنه بشار الأسد نفسه حين قال إن اشتراكنا بالمنظمات الدولية التي «ترعى» حقوق الانسان في العالم ليس إلا تمثيلية؛ ومن جهة أخرى للاستثمار في فهم للعلمانية يتمثل بمحاربة أي انتماء للإنسان إلا لأيديولوجيا «حزب البعث»، أو بألأحرى أيديولوجيا «القائد». النظام السوري فهم العلمانية بمحاربة القيم الدينية كما يبدو ظاهرياً، ولكن الممارسات المؤسساتية والتهميش المناطقي والمحسوبيات ترتكز بشكل أساسي على هذا البعد حتى لدرجة التطرف. فمن جهة تنكر أو تحرم حتى مجرد ذكر كلمة طائفة ومن جهة اخرى يعتمد عليها في الممارسات الحياتية. هذه التمثيلية قادت –كما نلاحظ من واقع الثورة– إلى رد فعل سلبي في الضمير الجمعي في الانتماء للوطن وغرس قيم التطرف الديني والقومي بأسلوب ربما كان مقصوداً كذخر للنظام لمثل هذه الأيام، وهذا ما تقوم به عملياً مجمل الأنظمة الشمولية, بالارتكاز إما على العائلة أو العشيرة أو الحزب، وإن كان النظام السوري قد جمع المجد من أطرافه جميعها باعتماده عليها في آن واحد. نلاحظ مما سبق، ومن نظرة لما آلت إليه الأوضاع بالبلد، أن أبعاد المواطنة الحديثة, التي ترتكز عليها كل الأمم, محطّمة بالمجمل في الواقع السوري وابتداءً من اللحظة الأولى للثورة، لأن البعض قد يقول إن عنف النظام اللامحدود، والبرود الدولي في التعاطي مع تجاوزاته، أعادا الشعب السوري لعصور «ما قبل الاجتماع» كما قلنا انفاً. لكن للحقيقة فإن هذه الأبعاد ظهرت بهشاشتها وتحطمها فجأة عند انطلاق الشرارة الأولى للثورة. لنأخذ بعضاً من هذه الأبعاد ونقارنها بالواقع السوري في بداية الثورة: تقوم المواطنة على أساس الانتماء للوطن، في مقابل ما نلاحظه من انتماء أعمى للطوائف الدينية أو العرقية أو القومية. تقوم المواطنة على أساس الانتماء الجغرافي للوطن بكامل ترابه، فيما نلاحظه من انتماء للمناطق. تقوم المواطنة على حل المشاكل بالحوار فيما نشاهد أن الحوار لا يكون إلا لفرض الآراء، حتى على مستوى كبار السياسيين والمعارضة. تقوم المواطنة على التفاعل مع قضايا الوطن والشعور انها مشكلة ذاتية خاصة لكل فرد، فيما نلاحظ غالبية صامتة يحاول الجميع أن يقول إنه يمثلها أو يحاول تحريكها… إلى ما هنالك من ابعاد تظهر بوضوح اضمحلال الانتماء للوطن.
أعود للحديث عن أن مشكلتنا هي أزمة أخلاق, أزمة النظام المسبب لها, أزمة سورية باختصار، في مؤيدين لعصابة أو صامتين عنها أو مستغلين لها باسم الثوار، أو ثوار ارتهنوا للخارج… الخ. كل هذا، النظام هو سببه. ومن هنا أقول بان هذا المقال هو رسائل، قبل أن يكون مقالاً إيضاحياً، لإثارة البعد الأخلاقي الغائب بشكل أساسي، والذي يرسم بوضوح إطار الأزمة السورية. أسميها أزمة ولو أنها ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لأن الكلام موجه للجميع كما أقول, جميع السوريين, معارضين, ثوار, صامتين ومؤيدين. سأحاول ان آتي مع وجهة نظر كل طرف و كيف يفكر لنقف على ابعاد هذه المشكلة.
لننظر إلى واقعنا السوري، بعد أن رأينا ما طرحه الفرنسيون على أنفسهم غداة أزمة خسارة، عسكرية في ظاهرها, تربوية سياسية اجتماعية انتمائية في جوهرها. هي باختصار فشل أيديولوجيا النظام القائم. نطرح مجموعة أسئلة مع العودة للتأكيد أن هذه الأسئلة تطرح في بداية الثورة لأن الكثيرين سيركزون على ما يحدث الآن من تجاوزات بعد سنتين من انطلاقها. لأنه الآن، الآن، وباختصار، عادت سورية, وخاصة من عانى ويعاني باستمرار من هذا الواقع, إلى البعد البدائي للمجتمع البشري الذي قاده النظام ومافياته وشبيحته بقصد تخويف الشعب من الثوار ووصمهم بالبربرية. حالة الثورة في هذا الوقت حالة طبيعية حسب الظروف الراهنة، التي لا تقتصر على الشعب السوري وحده بل خبرها جميع من مرّ بهذه التجارب, هذا إذا تجاهلنا أن النظام هو المسؤول عن كل هذا الأمر.
لو عدنا إلى اللحظات الأولى لانطلاق الثورة في شكلها السلمي لمدة ستة أشهر –كما اعترف رأس النظام بذلك– ثم ردِّ النظام الهمجي البربري عليها، لوجدنا المواقف المستمرة حتى الآن: مؤيدون بشكل أعمى («اضرب بيد من حديد», «نعم لتصفية الخونة»، الخ), صامتون لا رأي لهم (المشكلة وكأن ما يحدث هو فيلم جامد لم يحرك إنسانيتهم لسوء إخراج صور المذابح التي تتكرر بعيدا عن بلدهم), وثوار لازموا البعد السلمي الحضاري للدرجة الصوفية في ظل الهمجية التي لاقت المظاهرات، مما جعل أبطالها رموزاً للبشرية جمعاء (أطفال, حمزة وتامر وآخرون, وشباب، غياث مطر وأنس الشغري وآخرون، ورجال، أحمد الصياصنة وآخرون…).
كل من موقف المؤيدين والصامتين أخلاقياً (كنظرة ثورية) رهيب، وهو باختصار يوحي بأزمة الانتماء للوطن الذي يدفع أشخاصاً للقتل أو الترويج والفرح بالقتل أو الصمت عنه، من أجل قائد أثبت أنه مستعد لتدمير البلد كله في سبيل البقاء على الكرسي. بل حتى هم انفسهم أثبتوا وردّدوا ما كانوا يقولونه «الأسد أو نحرق البلد» متجاوزين أي انتماء له. هذا يقودنا إلى طرح العديد من الأسئلة: ما الذي يجعل جنوداً تربَّوا لحماية الشعب أن يطلقوا النار على على ناس عزل؟ ما الذي يجعل هؤلاء الأشخاص ينخرطون في القتل مقابل المال، كما حدث مع رفع رواتب الشبيحة؟ لماذا صمت الكثيرون؟ لماذا كانت مصالحهم أهم من مصلحة الوطن؟ وهل هم مدركون حقاً أن مصالحهم الذاتية يمكن أن تُبنى بعيداً عن مصلحة الوطن؟ كيف يمكن لطبقة «مثقفة» أن تؤثر الصمت –بأضعف الايمان, إن لم تؤيد وتبرّر وتحرّض على القتل– إن أدركنا أن البعد الثقافي هو الأساس الذي بنيت عليه جميع المواطنات الحديثة في الغرب بعد عصر التنوير؟ أليس المفروض أن يقوموا بتنوير الشعب لأنهم «متنوّرون»؟
لكن في المقابل، أضع نفسي من موقع المؤيدين لأطلب منهم أن يطرحوا على أنفسهم أسئلة من هذا النوع، كما طرح الفرنسيون:
إن كان هؤلاء الثوار عملاء وخونة ومتآمرين على البلد, فمن المسؤول؟ أليس النظام؟ أليست أيديولوجيا النظام؟ لم تحكم سورية منذ خميسن عاماً إلا أيديولوجيا حزب البعث.. كيف يمكن لشخص أن يبيع بلده مقابل حفنة دولارات، إلا اذا كان هناك خلل في تكوينه يتحمل النظام كامل المسؤولية عنها؟ لمَ لا, والمشاركون بالثورة هم من جيل البعث… أعمار الخونة كما تقولون هم من الميلاد –لأن الاطفال متآمرون مثلما عبّرتم شامتين في كثير من المجازر– الى الخمسين. حتى ابن الخمسين منذ تشكيله جنيناً في رحم أمه تربى ونشأ في عهد البعث. أليس، إذن، البعث هو الذي يتحمل مسؤولية أن يكون هناك خونة للوطن، كما تحملت الدولة في فرنسا؟
إذن مجمل ما يحدث باختصار يتحمل النظام المسؤولية عنه، على مدى عقود وليس فقط نقصد ما يحدث الآن. أتابع لأطرح أسئلة جديدة في حال أقررتم بالموافقة على تلك الأسئلة: كيف يمكن لعاقل أن يدافع أو يصمت على هكذا نظام؟ بل الأهم من ذلك كله, هل لديكم القدرة إن انتصر النظام أن تعودوا لامتهان الكرامة وسلب الحريات, وأنتم مدركون لهذا الأمر حتى لو لم تصرّحوا, وأن تتحملوا خسائر جديدة بعد بضعة عقود؟ إن حمّلتم النظام –آخذين بوجهة نظر الثوار– مسؤلية كل ما حدث, أتضمنون الا تتكرر حوادث خونة من جديد بعد بضع سنين، لأن النظام سيبقى كما هو عليه وكما تدافعون عنه؟ من يعاني الآن ليس من يموت فقط، وإنما المعاناة الأكبر تقع للرجال والأمهات والإخوة والأبناء الذين فقدوا الأحباب. هؤلاء هم الذين يعانون الآن, صمتوا وأيدوا النظام سابقاً فعانوا الآن, ألديكم القدرة إن انتصرتم أن تتحملوا هذه الصعوبات بعد سنين، وتفقدوا أولادكم وإخوتكم مع خونة جدد، لأنكم تريدون أن تحافظوا على نفس الأيديولوجيا الحاكمة؟ انظروا إلى واقع آباء وأمهات الشهداء (الجيش والأمن) واسألوا إن كان لديكم القدرة أن تضحّوا بأبنائكم، من جديد، للدفاع عن النظام، أو أن تصمتوا على قتل أبنائكم عندما يظهر خونة جدد؟
اما من جهة أخرى, ولو وضعنا أنفسنا كثوار وسألنا عن سبب «تأخر النصر» أو بالأحرى عن سبب هذه التجاوزات التي تحدث بالثورة: ما الذي يجعل البعض الذي ضحّى بالكثير أن يعود للارتقاء بحضن المموّلين وبيع الولاء؟ ما الذي يجعل أشخاص يفككون المعامل ويبيعونها بقيم لا تتجاوز أخماس أثمانها، إن لم ننكر الفعل بشكل كامل؟ ما الذي يجعل أشخاصاً يخزنون سلاح وإخوتهم بحاجة له؟ هل يدركون أن حريتهم لا تكتمل بحرية المناطق, بل بحرية كامل الوطن؟ لماذا كل هذا التخوين في صفوف الثورة؟ لماذا –وهنا أهم سؤال– هذا الخطاب الطائفي، رغم تأكيدنا على وحدة الشعب السوري؟ لماذا لا نميّز بين من يرتكب المجازر وبين أناس مغلوبين على أمرهم؟ كيف يمكن لمن ثار على الفساد والبربرية التشبيحية أن يمارس هذه الأمور وأن يتباهى بها؟ الجميع سيحمّل النظام المسؤولية –وأنا موافق– ولكن لننظر من الجهة الأخرى ونفكر بموضوعية. الخطاب الترهيبي الذي مارسه البعض عزّز من خوف الكثيرين، وأعطى لدعاية النظام مصداقية. كيف يمكن لنا أن ننجرّ خلف النظام لنثبت وجهة نظره؟
النظام يتحمل معظم المسؤولية بما اعتمده، ولكنه كان يهدف لما أوصلنا اليه… فكيف سمحنا لأنفسنا بالانجرار وراءه؟ قد يقول البعض إن معظم «التجاوزات», وهنا أتحدث عن المجازر, كانت تحمل بعداً طائفياً، وهذا صحيح, وكان يريد النظام أن يقول ذلك، ولكن كان لا بد من أن نقول إعلامياً إن النظام يرتكب المجازر باسم طائفي ولكن نحن سوف نعاقب فقط من يقوم بها، لا نقول بأن الطائفة كلها قامت بهذا الفعل. هنا نميز بين الفعل وبين الانتماء. أن نسوق خطاباً طائفياً بأننا سنقتل ونعمل فهذا يزيد من مخاوف الصامت ويعطي مبرراً للمؤيد، ويعرّي الثورة إعلامياً أمام العالم؟ بالمختصر، كان هناك تحول في خطاب الثورة في بعض الأوقات نحو خطاب طائفي.
يصر البعض على القول إننا لسنا طائفة وإنما «أمة»، وهم يستذكرون ما كان عليه الإسلام واحتضانه لجميع الاقليات. أن نكون أمة يجب أن نسوق لمبادئ الأمة. لا أن نتحول لأقلية كما يريدنا النظام. مجمل ما حدث من سلوكيات وتجاوزات يتحملها النظام. إذا اعتقدنا بصحة الفرضة السابقة في تحميل النظام جميع ما آلت اليه سورية، والثوار هم أيضاً أبناء النظام رغم أنهم ثاروا عليه، ولكن المكون الشخصي لتنشئة النظام, من تخوين وأنانية ووو –الخ– ما تزال تلعب دوراً كبيراً في تحديد سلوكيات الكثير. هنا أحمّل المسؤولية، كما قلت، للنظام من جهة ولنا جميعاً من جهة أخرى.
إن أعجب البعض أم لم يعجبه, فالحق يقال أن جذوة الثورة وجمرها ومحركها مع الناشطين السلميين كانوا أئمة المساجد، حيث كانت تخرج المظاهرات. وهذا ما جعل الكثير يتهكم على الثورة لأنها انطلقت من المساجد. وحاولوا القول بـ«أسلمة الثورة»، بما تغمز إليه هذه الكلمة من نسب الثورة إلى متطرفين إسلامين طائفيين، رغم التأكيد الشديد في المظاهرات وهي خارجة من أبواب المساجد على وحدة الشعب السوري بتنوّعه دينياً وقومياً. هو ليس عيباً كما يروج له البعض, هو الفخر بذاته أن عاد للدين دوره الحقيقي على يد هؤلاء القلة, مع إعطائهم صفة الأئمة في إصلاح الواقع الاجتماعي والسياسي، وألا يقتصر دورهم على تمجيد السلطان كما يفعل علماؤه. لنكن صريحين, حتى لو اكتسبت الثورة الصفة الاسلامية (وهنا نميّز بين النوع الذي يغمز له بالإعلام بهذه الكلمة وكأن حزباً سياسياً معيناً يقود الثورة وبين الواقع الذي يقول بخروج المظاهرات من الجامع وبقيادة ناشطين ومشايخ ينادون بأخوة الوطن) بما أن الأكثرية هي التي تقود الثورة، ربما بحكم كونها أكثرية أعطتها هذه الصبغة. ولكن بعد الفظاعات التي مارسها النظام وبعد ان ألبسها لبوساً طائفياً، فقد الكثير من قدرته على الضبط الانفعالي, والحق يقال أن أحداً لا يمكن أن يظل صابراً على ما حدث من مجازر, فظهر خطاب تحريضي حتى على من يفترض أنهم ضابطو البعد الأخلاقي للثورة باسم الدين. للآن لم ترتكب الثورة كمكوّن اجمالي أي عمل مما ارتكبه النظام، وإن وجدت بعض التجاوزات الفردية هنا وهناك، ولكن المزعج هو فقط الخطاب، أي خطاب أثر على سمعة الثورة حتى ولو لم يترافق بفعل.
إجمالاً, لسنا هنا للوقوف عند هذا البعد الطائفي للخطاب فقط، وإنما ابتعادنا كأفراد ومشايخ بالأخص عن تحمّل مسؤولية حمْل خطاب إسلامي صحيح قادر أولاً على تعديل رواسب النظام في شخصيات المقاتلين، قبل أن يميل الآخرون لصف الثورة.
هذه الأسئلة التي نطرحها، من مثل التخوين وبيع الولاء وبيع المصلحة العامة بشكل عام مقابل مصالح فردية لا تضمن البقاء دون الصالح العام، كلها أسئلة نتحمل نحن الإجابة عنها، لأنها مسؤليتنا… أعود للأقول بأن تحميل المسؤولية للمشايخ لأن مجتمعنا بقي ذلك المجتمع المتدين الذي يولي قدسية خاصة لكلام المشايخ، ولأننا بعد عامين فشلنا في زرع قيم التسامح والتضحية في نفوس بعض المقاتلين، فيما نجح الاسلام في إقامته في نفوس خارجة من الجاهلية وليس فقط في نفوس مريضة من ثقافة نظام لم يمنع بشكل مطلق الدين ودوره في بناء الأخلاق. لم نستطع إصلاح تلك القيم بسبب خطابات غير مسؤولة. نجح الاسلام في زرع قيم, بنت بدورها أمة, بينما نحن نسوق خطاباً هداماً حتى ضمن صفوف الثورة. تنادي الأكثرية بأنها ليست طائفة وإنما أمة.. الأمة يا سادة تستوعب الجميع, ترسي المبادىء والقيم التي تحتضن الجميع، وتعطيها الأمان، ولا تحول نفسها لأقلية بالعصبيات والخوف الذي يعتريها، فتصبح بذلك رهن الانتماء والولاءات لأنها رضيت ان تكون سلوكياتها كأقلية (حسب تعبير عزمي بشارة).
الخطاب الطائفي التحريضي، ابتداءً من بعض المشايخ وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي, وخاصة –للأسف– أصحاب الأسماء الوهمية الذين يرفضون حتى الانتماء لشخصهم, فيضعون أنفسهم بانفصام مصطنع يساعدهم على التهرب من المسؤولية الأخلاقية والسلوكية لتصرفاتهم وكلامهم.
ولكن الأهم هم «المشايخ»، لما لكلامهم من صدى لدى الشعب، وما وصلت إليه بعض خطاباتهم، وما يُحدثه خطابهم من ردود في الضمير الجمعي. لذلك كما أخرج الاسلام خير امة, لا بد أن يتحملوا هم عاتق ومسؤولية بناء الامة, لا بد من العودة والامتثال لمبادىء الإسلام وقيمه، لكي نكون «أمة» لا أن ننقاد خلف عصبيات ورهانات على الأعداد والكثرة. رغم الظروف التي وصلت اليها الأوضاع في سورية، وتفكك جميع العقود الاجتماعية إلى تبعيات جاهلية، يقع العاتق الكبير في الخروج من هذا المعضل على الأكثرية قبل غيرها، لا أن تضع نفسها بموضع الأقليات. هذه الظروف ليست أشد صعوبة من أيام بزوغ الإسلام، فلنعد إلى القيم، لا ننادِ بشعارات ونرتهن لكثرتنا، وليكن الهدف بناء وطن كما نريد لا كما يريد من نرتهن لهم. هذه المبادىء هي التي عدلت سلوك وشخصيات الجاهلية فصبروا على الضيم والشدائد بعد شهور فقط من دخولهم بالاسلام، ملقين بعباءة عصور الجهل ورسوبيات آلاف السنين. علمهم الإسملا الصبر فكان لهم موعد مع رسول الله في الجنة، كآل ياسر. هذا الإسلام الذي هذب همجيّة عُمر وضبط بطشه بمجرد دخوله الإسملا، فكان عزاً له وحاكماً عادلاً تغنى بعدله أجيال وأجيال. هذا الإسلام الذي لم يتهكم على خالد لتأخر «انشقاقه» ولم يحمّله تبعات أول خسارة فادحة كادت تقصم ظهر دولة الإسلام وهي في طور نشوئها, بل اعترف بكفاءته رغم هذا التأخر، فكان سيف الله المسلول.
كيف نبني أمة ونقول عن أنفسنا إننا أمة، ونحن لم نستطع التحلي بقيم ومبادىء الأمة ولا ضبط تجاوزات تُنسب للثورة، وما زلنا نحمل هذا الخطاب التحريضي؟ أن نكون أمة، أن نعمل لبناء أمة تتمثل قيم الإسلام، الإسلام الذي استوعب اليهود كجزء من الأمة، «لكم دينكم ولي دين», إلى إن خالفوا عهدهم ونقضوا مبادىء المواطنة في دولة الأمة، الإسلام الذي فتحت له النصارى أبواب دمشق والإسكندرية، مفضّلين أن يكونوا جزءاً من الأمة ويرتبط مصيرهم بها على أن يكونوا أقلية تربط مصيرها بعاصمة الانتماء الديني (روما آنذاك)، هذا الإسلام الذي نادى –في غمرة واشتداد القتال– ألا يُقتل طفل أو شيخ أو امراة, ألا تُقطع شجرة أو تُذبح شاة إلا لمصلحة، هذا الاسلام الذي أعطى لمن يلقي السلاح الأمان، ولمن لزم داره –بما يعنيه باطنياً باحترام خصوصية حتى الدخول للبيوت والمحافظة على مكانة وجهاء الأعداء– أعطاه الأمان. هذا الإسلام الذي ميّز في غمرة ذلك بين الانتماء لعشيرة ولطائفة وبين ارتكاب المجازر والقتل، فكان لمن فعل ذلك القصاص حتى لو تعلق بأسوار الكعبة… هذه بعض من قيم بناء الأمة التي نادى بها الإسلام، فلا تنخدعوا بكثرتكم وتُنادوا بها فتصبحوا بعصبيتكم أقلية مرتهنة لعاصمة الانتماء، فنشجّع بذلك الأقليات على اتباع هذا السلوك، فيكون ارتباط الجميع بعواصم, ولو بمعنى مجازي, انتماءاتهم الدينية، فنهدم وطناً ولا نبني أمة… وما لبنان عنكم ببعيد.