في الثالثة والثلاثين من عمره اليوم، كان أبو قصي يعمل خياطًا ونجارًا في بلدته الغزلانية قبل الثورة. حين يكسد سوق الخياطة يعمل الرجل الممتلئ الجسم والقويّ البنية بالنجارة، والعكس بالعكس. لكن عمله بالكاد يدرّ عليه ما بين 15 و20 ألف ليرة (300-400$) في الشهر. لا يكاد يكفي لعائلة فيها 4 أطفال صغار، ولا مورد إضافيًا لها، لكن «المولى كافيها».

وقت صارت الثورة في تونس تمنيت أن تصير عندنا، بدنا نغيّر الحكم والنظام وكل شي عايشينو للأحسن. الدولة فاسدة، عناصرها، الموظفون، الضباط، القضاة، الرئيس. بشار يتحمل المسؤولية عن الوضع، وهو مسؤول عن جماعته لأنه رأس هرم السلطة.

قبل الثورة حلمت في منامي بمظاهرة، وأني أهتف في الشام ضد النظام.

شاركت بأول مظاهرة من الجامع الأموي، وكان هتافنا: «حرية! حرية!». لكن لم ننجح وضربونا بالعضي و«دمّونا» (سالت دماؤنا).

في الأسبوع التالي نزلنا أيضًا، كانت المظاهرة كبيرة هذه المرة، 800–1000، كان «الأمن» موزّعين على مجموعات، وما قدروا يفرطونا. وصلنا إلى ساحة المرجة، كان بيننا شاب رفع مصحفًا بيد وصليبًا بيد، وكنا نهتف: «حرية، حرية، إسلام ومسيحية!»

بعد ذلك صرنا نشارك في مظاهرات دوما، كنا مجموعة من الشباب نأتي من الغزلانية ومن زملكا والغوطة. ولم يكن لأحد منا نشاط سياسي سابق، وكنا نؤنّب من يضرب حجرًا أو يحمل سكينًا، ونقول لهم: النظام يريد هذا من الله!

حاولنا أيضًا أن نعمل مظاهرات في الشام من جديد. وصرنا نركز على الميدان يوميًا: جامع الحسن، جامع المنصور، جامع الماجد، جامع الدقاق… نطلع من الجوامع لأنو صار هالشي عادة، ولأن تجمع الناس بالشوارع صعب.

بعد رمضان وبعد المظاهرات الكبيرة بحماه، وكان النظام قتل كثيرين، شكلنا «كتيبة أبو عبيدة بن الجراح» بسرية تامة، وكان عناصرها من جميع بلدات الغوطة: دوما، سقبا، جسرين، حمورية، رنكوس، الغزلانية…وكان قائد الكتيبة هو أبو محمد، عقيد كردي متقاعد من ركن الدين.

كان شغلنا خفيف، وهو أساسا دفاع عن المتظاهرين، الناس يخرجون بأعداد أكبر لمّا يعرفوا أن المظاهرة محمية، وكنا نقوم بالحماية عن بُعد، نضرب الأمن لما يحاولوا يهجموا على المظاهرة.

يوم وقفة عيد الأضحى، الشهر 11/2011، ضربنا كتيبة هجانة في رنكوس، استولينا على قدر مليح من الأسلحة: قواذف، بواريد، رشاشات، حشوات… ثم رجعنا إلى دوما وضربنا تجمعًا للشبيحة فيها، وكذلك في سقبا وحمورية.

هنا كبرت الكتيبة، صرنا فوق 200 فشكلنا سَرية مؤازرة مستقلة في دير العصافير، أنا وأبو خالد (الغزلاني). انفصلنا عن «كتيبة أبو عبيدة بن الجراح» لنخفف عنهم عبئًا، ولم يكن هناك أي خلاف، بالعكس، بقينا على ارتباط بالكتيبة، لكن حاولنا أن نكبر.

صرنا نضرب دوريات أمنية، مخفر شرطة، ونصطاد ضباط أمن على طريق المطار. صرنا أيضًا نخطط لضرب حواجز وكتائب، مثلا ضربنا حاجز جسرين كذا مرة. كنا نضرب ونهرب، نقاوم وقتا قليلا وننسحب، ما كان لدينا مضاد دروع وقتها ولا ذخيرة كافية، ولا نستطيع الحفاظ على أي أرض.

وصلتنا مساعدات من أهالي بلد سوريين، عايشين بالبلد. صرفناها على شراء بواريد.

ضربنا أيضًا كتيبة عين التينة في دير العصافير، واستولينا على قنابل ومضاد طيران مدفع 23، وضربنا كتيبة في نولة واستولينا على سلاحها.

ما كان عندنا خيار آخر، ولم يكن هذا الشيء كله في بالنا، لكنها حرب فرضت علينا، لا بد أن نكمل. يهمنا أن ننتهي بأقل خسائر بشرية وعمرانية.. البلد بلدنا، وأحب على قلبي أن ننتهي اليوم.

لكن لا نثق بعروض النظام. لا كلمة له ولا عهد. مستحيل أن نقبل به.

شكلنا «كتائب أمهات المؤمنين» في ربيع 2012، وهي تغطي المليحة ودير العصافير وحتيتة التركمان وشبعا والغزلانية، كان عددنا حوالي 300، أولاد منطقة واحدة، أعمارنا عشرينيون وثلاثينيون، وهناك أصغر من العشرين، وبيننا عساكر منشقون، وليس ضباط. الضباط المنشقون لم يقيموا بيننا، يعودون إلى مواطنهم، أو يخرجون إلى الأردن وتركيا، هم خائفون من النظام، ويفكرون أنه سيدوم.

بعد شهور، 4 أو 5، شكلنا «لواء أمهات المؤمنين»، أنا أقود كتيبة فيه. بصراحة سمّيناه هكذا من أجل الدعم، الداعم يسألك من أنت وماذا فعلت، فإذا كنت أنجزت شيئًا تنال دعمًا، وإلا فلا. وأكثر الدعم عمومًا سوري، ونحن لم نأخذ إلا من سوريين فقط، وأنا مسؤول عن كلامي.

اللواء اليوم بقيادة الملازم أول أبو عدي، هو حمصي وانشقّ من حاجز في حمورية.

شاركنا في معركة الميدان، كان معي 150 مقاتلًا. وقتها كانت الغوطة محاصرة ودوما محتلة. قررنا النزلة إلى الشام، واخترنا البداية من الميدان لأن فيها حاضنة شعبية، شارك معنا في المعركة كتاب شهدء دوما، 200 منهم. وكان يفترض أن نلقى مؤازرة من الغوطة ومن محافظات ثانية، لكن هذا لم يحصل. استطعنا توقيف عناصر مخابرات وجيش كثيرين هناك، واستولينا على مصفحات ورشاشات دوشكا، لكن النظام هبّط الميدان فوق رؤوسنا، ولم نتلقّ نجدات. فقررنا الانسحاب في اليوم الخامس.

أذكر أني سألت ميدانيًا عن طريق للخروج وقتها، فقال: ما في طريق غير الأرض تنشقّ وتبلعكم!
انسحبنا بفتح «طلّاقيات» عبر الجدران من بيت إلى بيت. خرجنا فقط بجرحانا وسلاحنا الخفيف.

اشتغلنا بعدها في يلدا والحجر والمخيم ببيلا بيت سحم وعقربا، والمقاتلون في هذه المناطق اشتغلوا اأثناء وجودنا في الميدان وحرّروا مناطقهم.

حاولنا أيضا العمل في حي العمارة. وبالفعل أخذنا بيوتًا هناك، كنا 40 شخصًا. لكن انكشفنا بعد 3 أو 4 أيام، واستشهد 14 من رفاقنا. كان يمكن أن يقتل الجميع، لكن نزلنا أنا وأبو خالد ومعنا مقاتلين إلى ساحة باب توما، وسكّرنا الطريق بالسيارات واشتبكنا مع الجيش والمخابرات لتخفيف الحصار. ونجحنا بالفعل في إنقاذ الآخرين من رفاقنا. لكن خسرنا سياراتنا.

ثم بدأت عملية تحرير الغوطة. كان أهم ما عملناه هو ضرب طواحين الغزلانية التي كان النظام يستخدمها مخازن للذخائر. هذا ليلة وقفة عيد الأضحى 2012. استولينا على ما لا يحصى من ذخائر، ثم بعد ذلك بأسبوع ضربنا كتيبة حرستا القنطرة، واستولينا على ما فيها من سلاح أيضًا. خلال عشرة أيام ضربنا كل كتائب الغوطة تبع النظام واستولينا عليها. انهار جيش النظام في المنطقة، وقويت همة الشباب بفضل النصر.

لكن حدودنا طالت، وجبهتنا صارت واسعة، وبعضنا استرخى، وظن بعضنا أن النظام سقط… وفي هذا الوقت ضربنا مطار دمشق وقصر تشرين ومبنى أمن الدولة، وصار في ناس تسافر إلى الأردن ولا أحد يوقفهم. نحن لم نذهب إلى أي مكان خارج البلد.

لكن الوضع تجمد منذ بداية هذا العام. صارت الناس تركض على الشعار والاسم والدعم، وصار الشاطر بدو يكبر حالو ويعمل اسم لحالو، ونسي الناس أن بشار لم يسقط بعد. وطولت الشغلة وتشرشرت، وارتفع المصروف، كلفة الطعام وكلفة الذخيرة، وصار هناك ولاءات خارجية من قبل بعض المجموعات، للسعودية ولقطر وللكويت.

حاليا نعمل على تأمين ذخيرة كافية. إذا استطعنا فعل ذلك، كل شيء آخر سهل، ونستعيد زخم عملنا. حصار النظام للغوطة لا يقلقني، إذا تأمنت الذخيرة نكسر الحصار بسهولة.

أخاف نطوّل كتير بالمعركة. تروح البلد كلها وقتها ويروح الشعب. الناس جاعوا. ويمكن إذا طولنا تصير عندنا عصابات وجماعت وصراعات… ويكثر الحرامية.

سننتصر حتمًا، شايف النصر بين عيوني، لكن بدها وقت وصبر وحكمة. أعصابنا ما تلفت، وما فرطنا.

بعد سقوط النظام أخاف من «جبهة النصرة»: يعملوا تفجيرات أو يصفّوا ناس ويعملوا كركبة كبيرة في البلد. قطعًا رح نختلف مع «جبهة النصرة»، ورح يصير هالخلاف مسلّح، ورح تصير تصفيات. متأكد من ذلك. نحن لن نسمح لحدا يزعزع أمن البلد بس نخلص من النظام. وما رح نترك السلاح حتى تزبط البلد.

نريد بلدًا دون رشوة، ونريد حرية في الرأي، وانتخابات حقيقية لأي منصب من رئيس الدولة إلى رئيس البلدية.

نريد جيشًا لا يسرق الضابط فيه، لا «يُفيّش» الضابط لـ20 أو 30 عسكري يغتني منهم، ولا يسرق ضباط فيه البنزين، أو يهربون على الحدود فيكسرون ميزانية الدولة والاقتصاد.

الجيش الحر لازم يكون حر، وما يسرق؛ في ناس بيننا يسرقون. رح نضربهم على إيدهم ونحاسبهم بكل قوانا ولو قادة ألوية، وبالفعل حاسبنا وحبسنا مرة قائد لواء لأنو سرق.

نريد النظام يمشي على الكبير والصغير.

أنا لن أترك السلاح حتى تصير كل هذه الأمور.

ما مقبول حدا يفرض شخصيته علينا. ما في فرض. الانتخابات والحرية لهما الأولوية.

أسأل: ألم تتعود على السلطة والسلاح؟

أبو قصي يجيب: أعوذ بالله! نحن خرجنا ضد هالشغلات. بدنا نكون طبيعيين. ورُبع الناس متلنا.

صحيح هناك ناس طلعوا من أجل السيطرة والمناصب، لكن الشرفاء كتار، وما رح يصح بالأخير إلا الصحيح.