كتب عبد الحميد برو، وهو أحد اللاجئين السوريين المقيمين في بلدة الريحانية، على صفحته على موقع فيسبوك:

فالسوري لم يعد قادراً على مغادرة منزله..مهدد بالضرب والخطف في كل لحظة ممن هم ضد الثوره من الأتراك..معرضون للتحرش في أي لحظة..بقينا بلا عمل..بلا أمل بالبقاء في الريحانية..السوري حتى في الريحانيه سيتم تهجيره إلى مناطق أخرى بسبب انعدام الشعور بالأمان..ومع هذا يا أصدقائي، سنبقى نعيش بالأمل وللغد”

نشر هذا الستاتوس بعد يومين على تفجير سيارتين مفخختين في قلب بلدة الريحانية-إقليم هاتاي (لواء الإسكندرون) جنوب تركيا، واتهمت الحكومة التركية النظام السوري بالوقوف وراءه.

هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية التي تفجر فيها سيارات مفخخة على غرار ما أصبح روتينياً في لبنان والعراق وسوريا في العقود الماضية. فعلى رغم العنف الذي طبع الحياة السياسية التركية في مراحل سابقة، وعلى رغم الحرب بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني التي استمرت نحو ثلاثة عقود وحصدت نحو أربعين ألف قتيل، لم يحدث أبداً أن استخدم أحد أسلوب السيارات المفخخة في تركيا. وقد كشفت تحقيقات الشرطة التركية فعلاً أن المشتبه بهم الذين تم اعتقالهم في أعقاب الكارثة ينتمون إلى منظمة يسارية على صلة بأجهزة مخابرات النظام السوري، يرأسها شخص يدعى معراج أورال على علاقة نسب مع عائلة الأسد، شاع أخيراً أنه قاد عمليات التطهير المذهبي، أوائل شهر أيار الجاري، في بانياس وقرى قريبة منها على الساحل السوري.

هذه الحبكة البوليسية المعقدة تشير إلى مدى تعقيد «مشكلة تركيا السورية» إذا جاز لنا التعبير. سنحاول في هذه الدراسة تفكيك عناصر هذا المشهد بأبعاده المختلفة، تحت عنوان جامع هو ارتدادات الزلزال السوري على تركيا، الزلزال الذي سبق وهدّد به بشار الأسد الدولَ المجاورة إذا تعرض نظامه للخطر. نحن نرى منذ أشهر كيف تحقق ذلك في لبنان والعراق حيث الاستقطاب المذهبي الحاد على خط التوتر السني-الشيعي على أشده. فماذا عن تركيا؟

تركيا منقسمة بعمق حول سياسة حكومتها من الأزمة السورية

انتقلت الحكومة التركية بقيادة رجب طيب أردوغان من تحالف استراتيجي مع نظام بشار الأسد في دمشق إلى العداء الصريح له، في انعطافة حادة وسريعة لم تحسب عواقبها بصورة جيدة. وانقسم المشهد السياسي التركي بين مؤيدي الثورة الشعبية في سوريا ومؤيدي نظام الأسد، فيما يشبه نظيريه في لبنان والعراق. وعلى رغم التأييد الشعبي الكبير الذي تتمتع به حكومة حزب العدالة والتنمية، والذي تجلى في تصويت نصف الناخبين له في الانتخابات البرلمانية والبلدية في السنوات السابقة، يتمتع خصومها أيضاً بقوة لا يستهان بها. وقد تقاطعت مصالح هؤلاء الخصوم في رفض السياسة السورية للحكومة، ونشأ بينهم ما يشبه «تحالف الكارهين». ويضم هذا الحلف المقدس حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كلجداروغلو الذي يشكل حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان، وحزب الحركة القومية بقيادة دولت بهتشلي، وحزب السلام والديموقراطية بقيادة صلاح الدين دمرتاش والذي يعتبر الجناح السياسي لـحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجالان. ومن خارج البرلمان يبرز حزب العمال التركي ذو الإيديولوجيا الماوية الممزوجة بعقيدة وطنية متطرفة بقيادة دوغو بيرنجك، مع مروحة واسعة من المنظمات اليسارية الصغيرة من بقايا ماركسيي عقد السبعينات.

علينا أن نستدرك هنا بالقول إن عملية السلام التي أطلقها عبد الله أوجالان في كلمته التاريخية في عيد النوروز (21 آذار 2013) وبدأ تطبيقها بسحب مقاتلي حزب العمال الكردستاني من الأراضي التركية باتجاه جبل قنديل في شمال العراق، أخرجت الجناح السياسي لهذا الحزب من هذا الحلف المقدس. بالمقابل دفعت عملية السلام هذه بحزب الحركة القومية إلى واجهة الحلف المناهض للحكومة. سنعود لاحقاً إلى هذه النقطة بالتفصيل.

الأخطر من هذه الجبهة السياسية المعارضة لسياسة الحكومة إزاء المشكلة السورية، هو الانقسام الاجتماعي العمودي الذي يقابلها. ولدينا هنا انقسامان كبيران: تركي-كردي من جهة، وسني-علوي من جهة ثانية، مع وجود مساحة تقاطع (كردية-علوية) في المجتمع الكردي المنقسم بدوره مذهبياً بين سنة وعلويين.

يمكن القول، بدون مجازفة كبيرة، إن علويي تركيا عموماً –بأتراكهم وكردهم– يتعاطفون مع نظام الأسد في أزمته الوجودية، إذا نظرنا إليهم كجماعة متماسكة. يجب التأكيد هنا أن الأرضية المذهبية لا تشكل إلا مادة خام لا يمكن تفعيلها إلا بجهود مدروسة وضخ إعلامي كثيف لتشكيل رأي عام، وهذا ما حدث. هناك، قبل كل شيء، حساسية سلبية مفهومة لدى العلويين من حزب العدالة والتنمية الحاكم ذي الخلفية الإسلامية ومن جميع الأحزاب الإسلامية المعبرة عن الإسلام السني. وفي الواقع جرى تهميش المذهب العلوي في تركيا، مرة لأنه خارج الدين الرسمي للدولة العثمانية، ومرة ثانية بسبب العلمانية المتصلبة للنظام في الحقبة الجمهورية. ويتطلع العلويون في تركيا إلى الاعتراف بهم كجماعة دينية مستقلة عن الإسلام السني، لها معتقداتها وطقوسها وثقافتها المختلفة. اللافت أن هذا التطلع لم يتحول إلى «برنامج سياسي» إلا مع صعود نجم حزب العدالة والتنمية الذي في ظل حكمه المديد بدأت تحولات ديموقراطية كبيرة فككت هيمنة الجيش ومؤسسات القضاء الأعلى على الحياة السياسية، وفتح الباب أمام الحوار الاجتماعي متعدد المستويات، وانتقل الهامش الاجتماعي إلى المتن.

ففي المراحل السابقة كانت الثقافة الدينية للأكثرية المسلمة السنية مهمشة ومقموعة «على قدم المساواة» مع الثقافات الأخرى الكردية والعلوية والعربية والشركسية والأرمنية والمسيحية وغيرها من ألوان الطيف الاجتماعي المتعدد في تركيا الجمهورية. وكانت نخبة من البيروقراطية العسكرية-المدنية تهيمن حصرياً على السلطة والثروة خلف قناع هش من التعددية السياسية الحزبية. وكانت «الدولة الخفية» تمسك بمفاصل القوة من خلال المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية، وتتحكم بهندسة المجتمع والرأي العام بما يتفق مع تأبيد هيمنة «أقلية بيضاء» على سواد الشعب المفقر. فتجلى الصراع الاجتماعي الرئيسي بين المعدمين وأصحاب الثروات الفاحشة في صورة صراع ثقافي بين الإسلام والعلمانية، من جهة، وبين التنوع القومي والنزعة التركية المتشددة من جهة أخرى. لم يحصل إسلام الأكثرية على حقه في الظهور في الميدان العام إلا مع صعود الحزب الإسلامي الرئيسي. فقابل ذلك صعود في تطلعات العلويين إلى الاعتراف بهم بعد عقود من طمس هويتهم الدينية والثقافية، في مواجهة ما رأوا فيه تهديداً وجودياً لهم. سياسياً صوّت العلويون تقليدياً لحزب الشعب الجمهوري، وانخرطوا في التيارات اليسارية المتطرفة في السبعينات. وهكذا عبرت خصومة العلويين للحزب الإسلامي الحاكم عن نفسها في تيارات علمانية-يسارية-قومية دافعت عن دور الجيش في الحياة السياسية، الأمر الذي وضعها في موقع معارض لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، بصورة مفارقة لتطلعاتهم.

ليس هناك أي سبب مذهبي أو سياسي يحتم وقوف العلويين أو التيارات السياسية العلمانية واليسارية مع نظام الطغيان في دمشق في حربه الوجودية ضد الشعب السوري. فمن ناحية العقيدة الدينية، يختلف مذهب علويي تركيا عن علويي سوريا الذين يتحدر منهم الدكتاتور السوري وحاشيته المقربة. أضف إلى ذلك أن عموم المجتمع التركي لا يكترث بجواره الجنوبي الذي كان ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وجاءت الحقبة الجمهورية لتدير ظهرها له. كما أن «عروبة» نظام الأسد تشكل عامل نفور إضافي لعموم الأتراك، والعلويين ضمناً، المتمحورين حول نزعة قومية تركية متعالية منغلقة على ذاتها. بل إن انفتاح الحكم الإسلامي المستجد على الجوار العربي من بوابة الدين الواحد، كان عامل نفور إضافي من الجوار العربي لدى خصوم الحكومة، ومنهم العلويين.

لكن التحول الدراماتيكي في سياسة الحكومة من صداقة حارة مع نظام الأسد إلى احتضان المعارضة التي تعمل على الإطاحة به، دفع بالرأي العام المعارض للحكومة التركية إلى تبني رواية نظام الأسد للحدث السوري. فقامت وفود من حزب الشعب الجمهوري بزيارات إلى سوريا أعلنت خلالها تأييدها للأسد واستنكارها لـ«المؤامرة الإمبريالية» عليه. وراجت سردية المؤامرة الامبريالية هذه بصورة أكثر ديماغوجية وعدوانية لدى حزب العمال التركي ومنظمات يسارية صغيرة لم تكتف بالتحريض ضد حكومة أردوغان، بل حرضت بصورة مباشرة ضد اللاجئين السوريين في المخيمات والمدن الجنوبية فوصفتهم بـ«السلفيين» و«الإرهابيين» و«عملاء أميركا وإسرائيل» الذين «يقطعون رؤوس الأطفال» حسب زعمها. ليس هذا التحريض وليد اليوم بعد تفجير السيارات المفخخة في الريحانية الذي حملوا مسؤوليته أيضاً للاجئين السوريين الذين اعتبروهم مناهضين لنظام الأسد، بل هو قائم على قدم وساق منذ أكثر من عام في ضخ إعلامي مكثف، عجز التيار الإسلامي المقرب من الحكومة في مجاراته برواية بديلة، فخلت ساحة الرأي العام لخطاب واحد يكرر أسوأ أشكال سردية نظام الأسد القائمة على الكذب وتزوير الحقائق.

غير أنه علينا ألا نهمل عاملاً شديد الأهمية في هذا التحامل من يساريي تركيا ضد ثورة الشعب السوري. فهو لم ينطلق أصلاً من ديناميات اجتماعية-سياسية مستقلة، بل من علاقات تاريخية متينة بين اليسار التركي وأجهزة مخابرات نظام الأسد، تمتد جذورها إلى مطلع الثمانينات حين وفر هذا النظام الملاذ الآمن لآلاف الأتراك والكرد الهاربين من بطش النظام الانقلابي لكنعان إيفرين، واستخدمهم الأسد الأب، في حينه، في نزاعه مع تركيا حول تقاسم مياه نهر الفرات. وبلغت هذه العلاقة مرتبة العلاقة العضوية الحميمة بالنسبة ليساريين أتراك من الانتماء العلوي كالمدعو «معراج أورال» من حركة «آجيلجيلر» (المستعجلين أو نافدي الصبر) الذي سيقود عصابات شبيحة علويين ارتكبوا مجازر بانياس والبيضا والنبعة تحت شعار «التحرير والتطهير»، ويسمي مجموعته بـ«المقاومة السورية».

حزب العمال الكردستاني من الحرب ضد الحكومة إلى السلام الاستراتيجي

تعود علاقة حزب العمال الكردستاني بنظام حافظ الأسد إلى مطلع الثمانينات، أي منذ تأسيسه تقريباً. فقد انتقل قائد هذا الحزب إلى سوريا، حين استشعر بتضييق الطوق الأمني للاستخبارات التركية حوله. وكانت أجهزة مخابرات الأسد سعيدة بهذه «الهدية» التي هبطت عليها من السماء، فوفرت للحزب بيئة اجتماعية حاضنة في المناطق الشمالية ذات الكثافة السكانية الكردية، وتسهيلات لوجستية في سهل البقاع اللبناني حيث أقام أوجالان معسكرات تدريب لمقاتليه قبل إرسالهم للقتال في تركيا ضد الجيش التركي، ومقراً لقيادته في العاصمة دمشق. واستطاع «الكردستاني» أن يستثمر المظالم الكردية التاريخية والتهميش الاجتماعي والسياسي المفروض على كرد سوريا لمصلحة حربه الاستراتيجية ضد النظام التركي، فجند آلاف الشبان من كرد سوريا في جناحه العسكري النشط تحت شعار مخادع وجذاب هو «تحرير كردستان وتوحيده» في حين كان يعطي نظام الأسد «العروبي» تطمينات قائمة على الفصل بين الأراضي السورية التي يقيم عليها الكرد وبين هؤلاء السكان الذين اعتبرهم «مهاجرين» من «كردستان تركيا». الواقع أن عملية التجنيد الكثيفة هذه ستقود إلى واقع غريب: كتلة كبيرة من الكرد السوريين تقدر بالثلث من إجمالي مقاتلي وكوادر الحزب، تقاتل من أجل أجندة كردية في تركيا وتدير ظهرها للمشكلة الكردية في سوريا نفسها. هذا الوضع يشبه إلى حد بعيد حالة المجاهدين الإسلاميين السوريين الذين كان النظام السوري يضطهدهم في سوريا من جهة، ويرسلهم إلى العراق لـ«الجهاد» ضد القوات الأميركية في العراق بعد احتلاله في العام 2003 من جهة ثانية.

استمر هذا التحالف الوثيق بين الكردستاني والنظام إلى أن جاء الإنذار التركي للأسد في أيلول 1998، الذي أدى إلى طرد عبد الله أوجالان من دمشق وملاحقة ناشطي الكردستاني السوريين وتسليم أعداد كبيرة منهم إلى تركيا، تنفيذاً لالتزامات الأسد القاسية في إطار «اتفاق أضنة». أمضى أوجالان عدة أشهر يتنقل بين موسكو وأثينا وروما بحثاً عن ملاذ آمن، لكنّ تعاوناً استخباراتياً كثيفاً بين الأتراك والأميركيين والأوروبيين أدى إلى إلقاء القبض عليه أخيراً في نيروبي، وتم اقتياده إلى سجن منعزل على جزيرة صغيرة في بحر إيجة هي جزيرة «إيمرالي» حيث ما زال يقبع في زنزانته المنفردة إلى اليوم. وفي غضون ذلك لوحق أعضاء حزب العمال الكردستاني في سوريا وسجن المئات منهم وحوكموا بأحكام قاسية من محكمة أمن الدولة سيئة الصيت. وفي العام 2003 أنشأ أنصار الكردستاني حزبهم السوري الخاص باسم «حزب الاتحاد الديموقراطي» بقيادة صالح مسلم. اقتصر نشاط الحزب في المناطق الكردية في سوريا، إلى ما قبل بداية الثورة الشعبية في آذار 2011، على التوسع العضوي والدعاوة الثقافية لأفكار الزعيم الأسير أوجالان وتحدي السلطات الأمنية بالاحتفال السنوي بعيد النوروز الذي كان يشهد صدامات دائمة مع قوات الأمن واعتقال عدد من نشطاء الحزب في كل مرة. أما عملية تجنيد المقاتلين من الشبان الكرد السوريين للقتال في صفوف الكردستاني في تركيا، فقد تراجعت إلى حد كبير.

مع بداية الثورة الشعبية في سوريا، منتصف  آذار 2011، قام حزب العمال الكردستاني بانعطافة كبيرة وحاسمة في علاقته مع النظام السوري. كان لافتاً أن فروع الحزب في ثلاثة بلدان أجرت عملية إعادة تموضع سياسية متزامنة، الأمر الذي يرجح الفرضية القائلة بصفقة سياسية كبيرة بين الكردستاني والتحالف السوري-الإيراني. ففي تركيا كانت مفاوضات سرية جارية على قدم وساق بين الحزب وجهاز المخابرات التركي في العاصمة النرويجية أوسلو، أوقفها الحزب فجأةً لسبب غير معروف، ثم انتقل إلى تصعيد عسكري كبير ضد الجيش التركي، فنفذ عمليات نوعية ضده أوقعت في صفوفه أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى.

وفي إيران اتخذ الفرع المحلي للحزب المعروف اختصاراً باسم «بيجاك» قراراً مفاجئاً بوقف عملياته العسكرية (القليلة أصلاً) ضد القوات الإيرانية في إقليم كردستان إيران.

أما في سوريا الثورة، فقد عض حزب الاتحاد الديموقراطي على جرحه القديم، وطوى صفحة نزاعه مع نظام الأسد، فقام بمجموعة من الخطوات السياسية والإجرائية في إطار مشروع كبير يناسب الزمن السوري الكبير. فبغض نظر مكشوف من أجهزة النظام، تدفق مسلحو الحزب الكردستاني من جبال قنديل إلى مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين وصولاً إلى حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب حيث الكثافة السكانية الكردية، بالتوازي مع تسليح عناصر الحزب السوري وإقامة الحواجز المسلحة ونقاط التفتيش عند مداخل المدن والبلدات والقرى الكردية. ثم عزز سلطته العسكرية هذه بسلطة سياسية وإدارية تمثلت في انتخاب ما أسماه «مجلس شعب غربي كردستان» ومجالس للإدارة المحلية في الأحياء والقرى. ونشط آلته الإعلامية في خدمة روايته الخاصة للحدث السوري. وحين بدأ الشبان الكرد يشاركون في المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية في إطار الثورة الوطنية العامة، كشف الحزب عن وجهه وعمل على قمع المظاهرات في المناطق الكردية، الأمر الذي دفع بنشطاء الثورة الكرد إلى إطلاق صفة «شبيحة الكرد» على مسلحي الحزب. وسياسياً، انضم حزب الاتحاد الديموقراطي إلى «هيئة التنسيق الوطني لقوى المعارضة» برئاسة حسن عبد العظيم وهيثم مناع، وهو ائتلاف قوى معارضة تقليدية دعت إلى حل الأزمة بالحوار بين نظام الأسد ومعارضيه، فنبذته تنسيقيات الثورة ونشطاؤها ونددت بنهجه المهادن لنظام رافض لأي حوار. ومن جهة أخرى رفض الحزب الانضمام إلى «المجلس الوطني الكردي» الذي تشكل، بتشجيع من رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، في خريف 2011 وضم معظم الأحزاب التقليدية الكردية في سوريا، لتتحدد العلاقة بين الطرفين كعلاقة بين «مجلس وطني» و«مجلس شعب غربي كردستان» التابع لأنصار أوجالان السوريين. وعموماً اتسمت هذه العلاقة بالتوتر والعداء، بسبب اختلاف مواقف الطرفين من الحدث السوري واختلال ميزان القوة بينهما لمصلحة الكردستاني الممسك بالسلاح والمنسق مع أجهزة نظام الأسد والمتمتع بقاعدة اجتماعية كبيرة بالقياس إلى أحزاب «المجلس». بل إن الحزب الأوجالاني قام بضرب واعتقال قادة ونشطاء من أحزاب المجلس الكردي، وحدثت صدامات مسلحة بين الطرفين في مناطق عدة.

لم يتم تجاوز هذه العلاقة المتوترة بعد «اتفاق هولير» الذي رعاه الزعيم الكردي العراقي مسعود بارزاني بين الطرفين، صيف 2012، بل شكل إطاراً لهيمنة الكردستاني على الأحزاب السورية المقربة من بارزاني، فحكم على «الهيئة الكردية العليا» المنبثقة عن الاتفاق بالشلل التام والتحول إلى غطاء سياسي لممارسات الحزب الكردستاني بحق شركائه في الهيئة.

في أيلول 2012 انطلقت موجة جديدة من المفاوضات المباشرة بين حكومة أردوغان الممثلة بجهاز استخباراته الرئيسي من جهة، وحزب العمال الكردستاني ممثلاً بزعيمه الأسير عبد الله أوجالان وقيادته الميدانية في جبل قنديل شمال العراق من جهة ثانية. وسط معارضة صاخبة من حزبي المعارضة الكبيرين «حزب الشعب الجمهوري» و«حزب الحركة القومية» صمدت المفاوضات وقطعت شوطاً كبيراً من التوافقات بين الجانبين بهدف الوصول إلى حل سياسي سلمي للمشكلة الكردية في تركيا، وضمناً إلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح وانخراطه في العملية السياسية الديموقراطية. تتوج هذا المسار الشاق في عيد النوروز، 21 آذار 2013، حيث تمت تلاوة رسالة لعبد الله أوجالان أمام حشد جماهيري كبير تجاوز المليون في مدينة ديار بكر جنوب شرق الأناضول. أعلن أوجالان في رسالته التاريخية بلا لبس عن انتهاء مرحلة النضال المسلح والانتقال إلى مرحلة النضال السياسي السلمي لتحقيق تطلعات الشعب الكردي بالوسائل السياسية المشروعة.

ليس معروفاً للرأي العام ما هو حجم التنازلات المتبادلة التي أوصلت الطرفين إلى الاتفاق. فمعرفتهما بقدرة المعارضة على تعطيل المسار السلمي وتلغيمه جعلتهما يتفقان على مد تنفيذ الاتفاق والإعلان عن بنوده على مسافة زمنية طويلة، يساهمان في غضونها في تهيئة الرأي العام التركي والكردي لتقبل التسويات المؤلمة للطرفين. كان البند الأول هو سحب حزب العمال الكردستاني لجميع مقاتليه من الأراضي التركية إلى جبال قنديل. وهذا ما بدأ الحزب بتنفيذه منذ 8 أيار الجاري، ومن المتوقع أن ينتهي منه في الخريف القادم. الحكومة من جانبها مهدت الطريق أمام خطوة الكردستاني بأن سحبت قواتها العسكرية من جنوب شرق البلاد حيث الكثافة السكانية الكردية، لتجنب أي احتكاك استفزازي بين الطرفين من المحتمل أن يقوض العملية السلمية برمتها.

هناك خطوات أخرى سياسية معلنة في إطار الاتفاق، منها ما يتعلق بتعديلات مهمة في الدستور القائم أو صياغة دستور جديد أكثر تقبلاً للتعددية، يعترف بالهوية القومية للشعب الكردي. ومنها ما يتعلق بتعديل قوانين تضيق على الحريات السياسية والثقافية وتعترف باللغة الكردية بوصفها إحدى اللغات الرسمية في تركيا، وأخرى تفسح في المجال لإطلاق سراح آلاف النشطاء السلميين الكرد المحكومين بتهمة التنسيق مع حزب العمال الكردستاني الموصوف رسمياً بالإرهابي. وهناك بنود غير معلنة يتم تسريبها عمداً من حين إلى آخر بهدف تهيئة الرأي العام لتقبلها، كتعزيز اللامركزية الإدارية بما يتيح نوعاً من الإدارة الذاتية في المناطق الكردية، أو احتمال إصدار عفو يشمل أيضاً إطلاق سراح زعيم الحزب عبد الله أوجالان.

الخلاصة أن عملية السلام التركية-الكردية دفعت حزب العمال الكردستاني إلى إعادة تموضع جديدة في إطار الصراع الإقليمي الأوسع الذي اشتد حول الثورة السورية، فانتقل دفعة واحدة من محور طهران-دمشق إلى محور أنقرة-الرياض-الدوحة. ولم يمض يوم واحد على كلمة أوجالان التاريخية في عيد النوروز، حتى رد النظام السوري بقسوة وحشية، فضرب حي الشيخ مقصود ذي الغالبية الكردية في مدينة حلب حيث يسيطر مسلحو الحزب الأوجالاني، بالسلاح الكيماوي. ورد الحزب بالمشاركة مع وحدات من الجيش السوري الحر في ضرب بعض حواجز التفتيش التابعة لقوات الأسد.