منذ أكثر من سنة، تعيش سوريا مأساة لا نرى لها حلاً واضحاً. قرارات الأمم المتحدة عدا عن كونها قليلة الجدوى، لا تُحترم. والإرسال المفاجئ للمراقبين الدوليين الذي بلغ عددهم 300 يبدو غير ذي دلالة أمام تفاقم الأزمة.
في حين كان يأمل الغرب و في مقدمته فرنسا، أن يرحل الرئيس الأسد بسرعة ويفهم أن ساعاته أصبحت معدودة، السيناريو المنتظر لم يتحقق وتواصلت المواجهات. ما الذي حدث؟
يكمن الجواب الأول في توازن القوى بين الأطراف الفاعلة في الأزمة: النظام السوري الذي يملك دعماً أقوى مما كان يتوقعه الغرب؛ المجلس الوطني السوري الذي لم يعرف كيف يوحّد مختلف أطياف المعارضة والذي يفرض نفسه كمحاور وحيد دون منازع؛ الجيش السوري الحر، الجناح المسلح للمعارضة الذي يلعب دوراً غامضاً والذي أصبحت طرق عمله منتقدة من طرف هيئة الأمم المتحدة.
أيضاً يجدر النظر في تفاوت القوى بين الدول التي قدمت مشروع قرار يخص سوريا. كل أزمة دولية هامة ينبغي بالضرورة أن تعرض على هيئة الأمم المتحدة، في هذا المكان يجدر أن يقوم النقاش. عجز الجامعة العربية عن إيجاد حل للأزمة رغم المجهود القطري أكد هذه القاعدة. في نيويورك، اتضحت حقيقة أنه لا يمكن للمجتمع الدولي أن يفرض حلاً إلا إذا حصل إجماع بين أعضائه الرئيسيين.
مستندة على الاتفاق الذي حصلت عليه سنة 2011 بالنسبة لليبيا، أملت كلاً من باريس وواشنطن حشد المجتمع الدولي حول اتفاق يقضي برحيل الرئيس الأسد؛ لكنهما اصطدمتا بمعارضة روسيا والصين. لا يمكن فعل شيء من دونهما، هكذا هو الوضع حالياً. من جهة أخرى، تتهم موسكو وبكين الغرب بتجاوز التفويض الذي أقرته الأمم المتحدة من أجل حل الأزمة في ليبيا؛ لهذا قررتا عدم السماح بتكرار السيناريو في سوريا. من أجل ذلك، تدافعان ـ روسيا والصين ـ عن موقف مبدئي، بالتأكيد قابل للنقاش، لكنه مهم بالنسبة لهما: لا هذه ولا تلك تود أن ترى مشاركة الأمم المتحدة فيما تعتبرانه شأناً داخلياً، حتى لا تضطران في يوم ما إلى تقديم تقارير حول الوضع في التيبت بالنسبة للأولى وفي القوقاز بالنسبة للأخرى. من الواضح أيضاً، أن موسكو تريد الاحتفاظ بقاعدتها العسكرية في طرطوس على الساحل السوري؛ هذه القاعدة ذات أهمية كبرى بالنسبة لها خاصة وأن قوات الحلف الأطلسي متواجدة في عرض البحر الأبيض المتوسط بل وتدخلت في ليبيا.
بشكل غير متوقع، ظهرت معارضة جديدة في نيويورك: معارضة الهند، البرازيل وجنوب إفريقيا. رغم علمهم بوحشية القمع الذي يرتكبه النظام السوري؛ اختارت هذه الدول الثلاث معارضة أي حل تفرضه واشنطن والدول الغربية. وزن دول البريكس هو واقع يجب أن يحسب له حساب في هيئة الأمم المتحدة.
عنصر أخير زاد من الارتباك، هو تواجد ثلاث دول من المنطقة حليفة للغرب: تركيا، العربية السعودية وقطر. تريد هذه الدول أن تذهب أبعد مما ذهب إليه الغرب. تدرك أنها غير قادرة على التدخل، فتحاول عبثاً تسليح المعارضة. اصطدمت هذه الأخيرة برفض أمريكا التي تخشى من انفجار ليس فقط في سوريا بل قد يمتد ليشمل كل المنطقة.
في نفس السياق، اجتماعات “أصدقاء سوريا” لم تسفر عن أي نتيجة ذات أهمية. هل يمكن أن تكون النتيجة مخالفة و«الأصدقاء” هم أنفسهم الدول الغربية وبعض حلفائها في المنطقة الذين يسعون في واحد من أهدافهم إلى فرض المجلس الوطني السوري كممثل شرعي للمعارضة؟ الملفت للنظر، أن لندن لم تكلف نفسها بإرسال وزير يمثلها في اجتماع باريس الأخير.
على الدبلوماسية أن تتأقلم
الأزمة أبعد من أن تشارف على نهايتها ولا أحد يستطيع أن يجزم أين سنصل في غضون الستة أشهر القادمة؛ لكن يمكن استخلاص العديد من الدروس منذ الآن حول علاقات القوى.
مقاومة النظام السوري عزّزت الرئيس الأسد الذي يشعر الآن بما يكفي من الأمان ليرفض تواجد مراقبين من هيئة الأمم المتحدة ينتمون إلى دول ” أصدقاء سوريا”. على عكس ما تأمّلت واشنطن وباريس، قد يكون الأسد جزءاً من الحل الذي سيتم التفاوض حوله. من الصعب أن نرى، كيف يمكن أن يقبل بأن يستبعد كلياً من الحوار الذي سيجري.
سيشكك هذا في مصداقية تهديد السيد جوبيه والسيدة كلينتون باللجوء إلى المادة السابعة من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، في حال فشل خطة أنان. في نيويورك، من الوارد جداً أن تواصل موسكو وبكين معارضتهما لهذا الحل. سيطرح السؤال إذن حول ما إذا كانت واشنطن وباريس ستخرجان عن تفويض هيئة الأمم المتحدة؟ من المرجح أنهما ستترددان في اجتياز الروبيكون.
استثمرت روسيا والصين أكثر منهما وأثبتتا أنه لا يمكن أن يُفعل شيء دونهما؛ يمكننا أن نراهن أنهما لن تدخرا أي جهد في الحفاظ على هذه الميزة التي برهنتا عليها. هل حان الوقت لتستعملاها كورقة ضغط تدخلان من خلالها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي استبعدتا منه طويلاً؟ الجمعية العامة القادمة لهيئة الأمم المتحدة ستحدد الجواب.
أعادت واشنطن كل من تركيا، العربية السعودية وقطر إلى أماكنها: يبقون الفاعلين في المنطقة لكن عليهم تقبل فكرة عدم اللعب في الأدوار الأولى. يجدر شرح السبب الذي دفعهم إلى السعي إلى تقديم دعم عسكري للمعارضة. في السياق الذي يلي الربيع العربي لن تجني هذه الدول شيئاً من سوريا التي سترتبط بإصلاحات لا تمنح فيها مكاناً للإسلاميين الذين يناسبونهم.
لاستكمال البانوراما، يجب استحضار فاعلين غيّبا عمداً لكنهما بطبيعة الحال معنيان بكل التحولات التي من شأنها أن تحدث في المنطقة: إيران وإسرائيل. مقاومة بشار الأسد سمحت لطهران بالاحتفاظ بحليفتها سوريا دون الحاجة إلى الظهور في الواجهة. في سياق التوتر النووي يعتبر هذا أمراً جيداً بالنسبة لها.
أما بالنسبة لإسرائيل فيكمن الخيار الأمثل في الاحتفاظ بدكتاتور معقول في دمشق؛ كما أن تدهوراً دائماً في سوريا سيزيد من إضعاف جارة لم تسع أبداً للمطالبة باسترجاع جزء من أراضيها في الجولان التي فقدتها سنة 1967. يمكننا أيضاً ملاحظة أن التوتر الحالي سمح لإسرائيل ببناء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية دون أن يشار إليها بالبنان.
الملف السوري هو بالتأكيد أكثر تعقيداً مما كنا نعتقد. خاصة فيما يتعلق بعلاقات القوة، هي الآن مختلفة عما كانت عليه قبل سنة. بالتأكيد، لا غنى عن التغيير في سوريا، لكن الواقع يفرض على الدبلوماسية أن تتكيف مع هذا الوضع.
على فرنسا أن تجيب على تساؤل أخير يظهر اهتمامها به قليلاً، مسألة المكانة التي يجب أن تأخذها سوريا مستقبلاً؟
بلد كبير على واجهة البحر الأبيض المتوسط، سوريا فاعل لا غنى عنه في المنطقة؛ لا يمكن تصور سياسة متوسطية بدون دمشق. كان نفوذها في العالم العربي هام جداً وبالتالي فاحتمال فترة طويلة من العقوبة كما شهدت العراق قبل الغزو الأمريكي لن يكون مقبولاً لدى الرأي العام العربي الخارج من ثورات الـ2011. وسيكون لهذا ثمناً سياسياً باهظاً.
إعادة إحياء سوريا هو الهدف الذي ينبغي أن تنبني عليه سياسة بلدنا. ليس من الواضح أن خياراً كهذا سيتشارك فيه جميع حلفائنا، سواء تعلق الأمر بواشنطن أو بعواصم الخليج. علينا أن نعي ذلك من أجل تجنب المشاكل.