مرّة أخرى، وفي اسطنبول مجدداً، كان الرأي العام السوري على موعدٍ مع أزمةٍ في جسم المعارضة السياسيّة السوريّة، فالاجتماع الذي كان مُخصصاً لبحث توسعة اﻻئتلاف الوطني تحوّل إلى حلبة صراعٍ تراشق فيها المُجتمِعون اﻻتهامات والتسريبات، في مشهدٍ أسهم في تشويه صورة المُعارضة السياسيّة السوريّة، غير الجميلة أصلاً. النتيجة: توسيع الائتلاف بعد ضم 51 عضواً جديداً، يُضافون إلى أعضاء الائتلاف الـ 63 الحاليين، ليصل العدد الكلّي إلى 114 عضو، وضمّت هذه التوسعة 13 عضواً عن «القائمة الديمقراطيّة»، 14 مقعداً عن الحراك الثوري، و15 مقعداً لتمثيل «الجيش الحر»، كما تمّ إرجاء انتخاب خلَفٍ لمعاذ الخطيب في رئاسة الائتلاف الوطني حتى منتصف حزيران الجاري.
بدأت الأنباء عن خلافاتٍ في داخل اجتماع اسطنبول بالوصول إلى الإعلام منذ لحظاته الأولى، وتركّزت بشكل خاص حول عدد المقاعد الجديدة لـ«القائمة الديمقراطيّة» ورفض المجلس الوطني وكتلة مصطفى الصبّاغ، الأمين العام للائتلاف الوطني، ما تطالب به القائمة. وتسارعت حركة المشهد مع تسريب مقطع فيديو يُظهر جدلاً بين مُعارضين مشاركين في اﻻجتماع والسفير الفرنسي إريك شوفالييه، بعد أن أظهر الأخير استياءه مما اعتبره رجوعاً عمّا اتُفق عليه قبلاً بخصوص نِسب وحصص الكُتل السياسيّة، لتصل حرارة الخلاف إلى ذروتها مع استياء ميشيل كيلو ممّا راج حول ضغط سفراء أجانب على الائتلاف لمصلحة قائمته، ما دعاه لشنّ هجومٍ قاسٍ على الإخوان المسلمين وكتلة الصبّاغ خلال مداخلة في قناة «العربيّة»، مندداً بالتحاق هذه الجهات بالسياسة القطريّة وتنكّرها لالتزاماتها السابقة بناءً على إيعازات من دولة قطر، وهذه نقطة سبق لكيلو أن أثارها خلال تعليقاته الرافضة لاختيار غسّان هيتو رئيساً للحكومة اﻻنتقاليّة. في نفس المداخلة، أشار كيلو إلى أن «الأزمة الحقيقيّة هي في داخل الائتلاف: بنيته، تركيبته، علاقة قواه بعضها ببعض، وعقليّة مديريه…» وأسف لأن «الإرادة الوطنيّة للشعب السوري هي الغائب الأكبر عن الائتلاف»، معتبراً أن القضيّة الوطنيّة السوريّة «ليست في أيدٍ أمينة».
أمام تبادل التصريحات بين الأقطاب السياسيّة المتصارعة، فضّل برهان غليون، الرئيس الأسبق للمجلس الوطني، اتخاذ موقف وسطي ومستقل من أطراف الخلاف، دون أن يكتم غضبه وحزنه لحدوث هذا الخلاف ولأثره على عمل المعارضة السوريّة في هذا الظرف الحسّاس، حيث كتب في مدوّنته: «لم يعد من المحتمل أو المقبول أن تستمر جلسات الائتلاف وهيئته العامة لأسابيع طويلة من أجل إقرار ضم بعض الأعضاء إليه، في الوقت الذي يحتاج فيه اﻻئتلاف للعمل ليل نهار لمواجهة التحديات العسكريّة والإغاثيّة والسياسيّة التي تواجه الثورة والمعارضة»، وأضاف غليون: «ماحصل في الأسبوع الماضي ٢٣-٢٨ في استنبول كان مأساة بالمعنى الحرفي للكلمة، وعار على الإئتلاف وجريمة ضد الثورة. لقد عطلت كل اعمال المؤتمر بهدف التوصل إلى اتفاق لضم مجموعة من المعارضين، بصرف النظر عن اهميتهم، إلى الائتلاف. وتحول الأمر، بسبب مناورات المجموعات المتنافسة على الهيمنة على الائتلاف، وجميعها لا تزن شيئاً في ميزان الصراع الدائر داخل سورية، من نزاع داخلي بين أطراف المعارضة على المواقع الائتلافية إلى مواجهة بين الدول الحليفة، وبشكل خاص بين الدول العربية الأكثر دعماً لنا. وبمقدار ما زاد تصميم المدافعين عن مواقعهم داخل الائتلاف على إغلاق هذا الأخير على الطارقين بابه، زاد احتداد المواجهة بين الدول التي لم تعد تهتم بالمجموعات المستنجدة بها وإنما صارت تنظر إلى المعركة على انها تحدّ للإرادات وتحديد للمواقع والمراتب الاقليمية». أشار غليون كذلك إلى خطر هذه النزاعات بقوله: «ان النزاعات الطفولية، غير المعقولة وغير المقبولة، على المواقع والمناصب، بما في ذلك سعي أي تكتل إلى زيادة عدد أعضائه في الائتلاف من دون سبب سوى ضمان نفوذ أكبر، يظهر أن الهم الأول هو الهيمنة الداخلية لا خدمة الثورة والثوار. وهو يظهر السفراء الأجانب في كل مرة وكأنهم هم الأحرص على المصالح العامة السورية، ويضعهم بالفعل في موقع التوفيق بين المصالح المتنازعة، ويزيدهم قناعة بشرعية تدخلهم. وبذلك تتمّ مصادرة الوظيفة الرئيسية للسيادة الوطنية. فالحاجة تفرض نفسها لقوة خارجية، أي من خارج المجتمع للتوفيق بين مصالح أطرافه المتنازعة والتوصل إلى تفاهم يضمن السلام والاستقرار وبالتالي تسيير الأعمال، طالما عجزت أطراف المجتمع نفسها أن تفرز من نفسها إطار الوحدة والتفاهم والتوافق ومفهومه»، وأنهى أستاذ علم الاجتماع السياسي فكرته بألم: «باختصار، سلوكنا كأطفال غير ناضجين وغير مسؤولين هو الذي يشجّع على هذا التدخّل».
بالتزامن مع الخلافات في اجتماع اسطنبول، أصدرت قوى الحراك الثوري المُمثلة بالهيئة العامة للثورة السوريّة، لجان التنسيق المحلّية، اتحاد تنسيقيات الثورة السوريّة، والمجلس الأعلى لقيادة الثورة بياناً مشتركاً جاء فيه: «هذه القيادة فشلت في التصدي لمسؤولية وشرف تمثيل ثورة الشعب السوري العظيم سياسياً، وسقطت هذه القيادة في اختبارات الاستحقاقات التنظيمية والسياسية والإنسانية التي اختيرت لتكون مكلفة بالتصدي لها، ويأتي الفشل المستمر لاجتماع الهيئة العامة للائتلاف المنعقد منذ أسبوع في اسطنبول ليؤكد قناعتنا القديمة أن الائتلاف بواقعه التنظيمي الحالي عاجز عن القيام بواجباته المنوطة به بسبب التجاذبات السلبية بين كتله المؤسسة، والتي أفضت إلى تدخلات سافرة من أطراف إقليمية ودولية عديدة، بات معها استقلال القرار الوطني في مهب الريح». أدان البيان كذلك توسعة الائتلاف الجارية ﻷنها، حسب تعبير القوى الموقّعة، «ليست أكثر من محاولة ترقيع بائسة، نرفض أن تقتصر على ضم شخصيات وكيانات لا تتمتع بحضور فاعل مؤثر في الثورة». وطالب البيان بتوسيعٍ يضمن تحقيق أهداف الثورة عبر «تمكين الثوار عبر ممثليهم السياسيين من المشاركة في الفاعلة في صنع القرار في الائتلاف، والذي تضمنه مشاركة القوى الثوريّة بنسبة ﻻ تقل عن خمسين بالمئة من مقاعد الائتلاف، وفي مؤسساته القياديّة». كما حذّر البيان المشترك من أن القوى الموقّعة عليه «لن تمنح بعد اليوم أي شرعية ثورية لجسم سياسي قد يتحول إلى سرطان في جسم الثورة لو تمت توسعته بشكل خاطئ على أساس اعتبارات مريضة بعيدة عن تمثيل من لا يزال يضحي منذ انطلاق الثورة وحتى اليوم».
بعد أيامٍ قليلة من صدور هذا البيان، أعلنت الهيئة العامّة للثورة السوريّة انسحابها من الائتلاف الوطني احتجاجاً على مفردات التوسعة التي أقرّت في اسطنبول وأُعلن عنها في بيانٍ رسمي.
آراء متباينة
بعد الإعلان عن تفاصيل اتفاق توسيع الائتلاف الوطني، سبرت «الجمهوريّة» آراء أطراف الخلاف في اجتماعات اسطنبول، وعند سؤال عمر مشوّح، عضو المجلس الوطني والناطق الإعلامي باسم الإخوان المسلمين، عن أسباب الخلاف في اسطنبول، أجاب: «الذي حصل في اسطنبول أن هناك محاولة فرض إرادة دولية على القرار السوري المستقل. لقد حاولوا في البداية من خلال الأتباع والمريدين وعندما فشلوا حضروا بأنفسهم لفرض الإرادة الدولية»، وأضاف: «المشكلة ليست في توسعة الائتلاف من عدمه… المشكلة الحقيقية في هدف التوسعة، حيث يُراد منها تخفيض سقف الائتلاف من أجل مؤتمر جنيف القادم، والذي يبحثون له عن معارضة تقبل ببقاء النظام!».
وعند السؤال عن الاتهامات الموجّهة للجماعة باحتكارها القرار السياسي في اﻻئتلاف الوطني أجاب مشوّح: «هذا اتهام قديم جديد… الصحيح أننا نملك قراراً سياسياً قوياً وقدرة على التحالف وتوجيه القرار بما يخدم المصلحة العامة، لكننا ﻻ نحتكر القرار السياسة العام، فهناك شركاء لنا في المعارضة ونتشاور معهم باستمرار، وأقمنا تحالفات كثيرة من أجل أن يكون القرار مشتركاً ووطنياً ويحقق أهداف الثورة. احتكار القرار السياسي في هذه المرحلة هو انتحار سياسي، وﻻ أظن أن الجماعة أو حتى غيرها من الأطراف المعارضة يحق له أن يحتكر القرار السياسي.. نحن نسير معاً في خط وطني مع باقي الشركاء، ونقول للجميع: مَن يحتكر القرار السياسي فأبعدوه، حتى لو كان من الإخوان».
وعن مدى لملمة اﻻتفاق الحالي للموقف أمام استحقاق جنيف أجاب مشوّح: «أظن أننا وصلنا إلى حل يرضي الجميع من خلال القوائم التي تم التوافق عليها، وبشهادة الجميع كان للإخوان دور مهم في تطويق الأزمة والدفع نحو التوافق، لكننا نحذّر من محاولات فرض الإرادة الدولية من خلال أشخاصٍ يريدون تسيير الائتلاف نحو أهداف تخفض من سقف الثورة، وقد تقودنا إلى نصف ثورة».
على الجانب الآخر، أجاب المهندس هادي البحرة، أحد أعضاء «القائمة الديمقراطيّة» المنضمّين إلى الائتلاف الوطني في التوسعة، عن سؤال الجمهوريّة حول ما جرى في اجتماعات اسطنبول بقوله: «إذا نظرت الى جوهر الأمور فإن توسعة الائتلاف ’كمبدأ عام‘ كان معروفاً لدى الجميع واستحقاقاً مؤجلاً ومقبولاً كضرورة لعدة أسباب، أهمها هو توسيع شرعية تمثيل الائتلاف الشعبية وانضواء طيف أكبر من القوى السياسية والشعبية والثورية والعسكرية والمدنية المعارضة ضمنه، كون الائتلاف يمر بمرحلة محورية من الثورة. جوهر المشكلة هو مشكلتنا كسوريين، وماعانيناه عبر تاريخنا من خداع دولي مورس علينا ومؤامراتٍ مرت على وطننا من العام 1918 ومن ثم اتفاقية سايكس-بيكو… فأصبح الشك بالآخر أحد عناصر تشكل شخصياتنا. أضف إلى ذلك النظام القمعي الذي عشنا بظله لفترة تقارب النصف قرن»، وأضاف: «الديمقراطية عندما تمارس واقعياً فهي تمر عبر سلسلة من المفاوضات والتحالفات، والتي انتهت هنا باتفاقٍ توافقي، الجيد هنا أن غاية كل الأطراف كانت المصلحة الوطنية، وكل طرف اعتبر نفسه هو من يمثلها، بينما الواقع يقول إن المصلحة الوطنية تُحفظ وتُصان بتلاقي وتوافق كل هذه الأطراف معاً. فالحالة الوطنية الجامعة لا يمكن أن تشمل الإقصاء. و هكذا تعلمنا درساً جديداً من دروس هذه الثورة المباركة».
وعن إمكانيّة أن تتمكن الاتفاقات الحاليّة من تحسين حالة الائتلاف وتصويب موقعه أمام الاستحقاقات أجاب البحرة: «هذه التوسعة رفعت من سوية تمثيل الائتلاف للقوى المعارضة والثورية والعسكرية, فأعطته مصدر قوة إضافية ودافعة نحو الإصلاح الجدي لعمله والبناء على إيجابياته وعلى ما بنى وحقق سابقاً، وللقضاء على ماهو سلبي»، وأكّد مضيفاً: «لا حجة بعد الآن لأية قوى ممثلة ضمنه، ولا له ككلّ، إن لم يحقق القفزة النوعية المطلوبة منه الآن، وهي الابتعاد عن العمل الشخصي والاتجاه نحو مأسسة الائتلاف، وخلق آليات العمل المنظم، وفق خطط واضحة وجداول زمنية لتحقيقها، كي نستطيع قياس إنجازاته ومستوى تنفيذ التزاماته. نجاحه يؤسّس على التعاون والتنسيق والعمل الجماعي، فإن نجح نجحت جميع مكوناته وإن فشل فشلت جميع مكوناته. يتوجب تفعيل دور كل مكوناته ووضع برنامج للتكامل والدعم لجهود الثوار وللقيادة العسكرية المشتركة ومنظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية وهي الأهم، وخلق آلية لإيجاد مكاتب فاعلة للائتلاف في الداخل يديرها الحراك الثوري المدني ممن هم فاعلون في الداخل، وفتح المجال للاستفادة من قدرات كل السوريين للعطاء في كل المجالات سواءً داخل سوريا أو خارجها».
من جهته، اعتبر سمير نشّار، رئيس الأمانة العامة لإعلان دمشق، أن «الغرب، وعلى رأسه الولايات المتّحدة، بالإضافة إلى محور إقليمي مؤلف من السعودية، الإمارات، الكويت والأردن، لن يقبلوا بوصول الإسلاميين إلى السلطة، كما حصل في تونس ومصر، خاصّة الإخوان المسلمين (المدعومين من قطر وتركيا)»، لذلك، يرى نشّار، «ﻻ بد من وجود إطار سياسي تقف على رأسه قوى ليبراليّة، دون إقصاء الإسلاميين المعتدلين أو الإخوان ولكن شرط عدم قيادتهم له، أي أن يكون هناك توازن بين الليبراليين والإسلاميين. من هنا أُريد من التوسعة إدخال شخصيات معارضة للإخوان والإسلاميين، وبدون التأكد من أن هؤﻻء يؤيدون خطاب الثورة وإسقاط بشار الأسد». حصلت مخاوف سياسيّة تجاه القادمين الجدد، فحسب تعبير نشار، «القادمون الجدد هم من أنصار جنيف بحماسة، بينما الآخرون ينظرون الى جنيف بتوجّس، خاصة أن هناك تياراً في الائتلاف أظهر تأييداً وحماساً للمشاركة في جنيف، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في الاجتماع الأخير للهيئة السياسية للائتلاف»، وعمّا سيحدث بخصوص هذه المخاوف يقول: «المستقبل سوف يُظهر إلى أي مدى هذه المخاوف مشروعة، وإلى أي حد سوف يتمكن المحور المؤيد للسعودية من لعب دور إيجابي لمصلحة أهداف الثورة، وليس العكس، لأن الوقائع أظهرت أن السعودية ليست لديها المعرفة الكافية بخلفيتهم السياسية، لأنها تركت هذه المهمة لبعض الوسطاء، وهنا تكمن المشكلة، على الرغم من الرغبة السعودية في زيادة حجم القوى الليبرالية وهي رغبة صادقة».
يشير نشّار كذلك إلى أهمية اﻻستحقاقات الداخلية المقبلة للائتلاف، والمتمثلة بالتوافق على قبول أسماء الأعضاء الجدد من «الحراك الثوري» و«الجيش الحر»، وكذلك انتخاب الهيئة الرئاسيّة للائتلاف (رئيس ونوّاب وأمين عام)، ويؤكد أن المشاورات والاتصالات لم تنجح في التوصّل لمقترح توافقي يشمل الجميع «على قاعدة ومشروع سياسي يهيّئ الأرضية المناسبة لعمل مشترك للذهاب أو التعامل مع جنيف بشكل موحّد من خلال رؤية سياسيّة متماسكة»، ويقول أيضاً إن إمكانيّة التوصل لأرضيّة العمل المشتركة متاحة، شرط وجود الإرادة المشتركة أيضاً.
…
لم ينتهِ زلزال المعارضة السياسيّة بعد، فالعديد من الهزّات، داخله وخارجه، بانتظاره. الائتلاف الوطني على موعدٍ مع انتخاب رئيسٍ جديد منتصف الشهر الجاري. قبلها، أثناءها، وبعدها، مسؤوليّة التحضير للاستحقاق الدولي في جنيف. ﻻ يُخفي الكثيرون تشاؤمهم عند السؤال عن فرص تصدّي المعارضة لواجباتها أمام السوريين والعالم بمسؤوليّة، وﻻ سيما أن الحدث الثوري السوري يكافح للبقاء على قيد الحياة ما بين جبالٍ من الركام، بحارٍ من الدماء، وعوالم من الصمت واللامبالاة.