يأخذنا عنوان المقال إلى حادثة ترويها كتب الحديث والسيرة، وهي حادثة الشاة المسمومة التي أهدتها المرأة اليهودية للنبي (ص) بعد غزوة خيبر محاولةً قتله. أورد مسلم بهذا الخصوص الرواية التالية في صحيحه: «حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس، أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال ’ما كان الله ليسلّطك على ذاكِ‘، قال: أو قال ’عليّ‘. قال: قالوا ألا نقتلها؟، قال لا! قال فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم».

كما روى البخاري روايةً أخرى حول نفس الحادثة جاء فيها: «لما فُتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ’اجمعوا من كان ها هنا من اليهود‘، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ’إني سائلكم عن شيء أنتم صادقيّ عنه؟‘، قالوا نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ’من أبوكم؟‘ قالوا أبونا فلان، قال ’كذبتم، بل أبوكم فلان‘، قالوا صدقت وبررت، قال لهم ’هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟‘، قالوا نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في آبائنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ’من أهلُ النار؟‘ فقالوا نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ’اخسئوا فيها أبداً‘. ثم قال ’هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟‘ قالوا نعم، قال ’أجعلتم في هذه الشاة ُسمّاً؟‘ قالوا نعم، قال ’فما حملكم على ذلك؟‘ قالوا أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرّك».

وكما هو معروف عن ظروف الحادثة، فهي وقعت بعد فتح خيبر، قبيل مغادرة جيش المسلمين لها. الجمع بين روايتي مسلم والبخاري يعطينا أن المسألة لم تكن تصرّفاً فردياً من المرأة، بل كانت أشبه بمؤامرة تواطأ فيها مجموعة من اليهود على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، «اجمعوا من كان ها هنا من اليهود». نُذكّر هنا بأن القصّة جاءت بعد مواجهات عديدة بين النبي واليهود قبل موقعة خيبر، أي بعد تعرّضه منهم لنقض عهود وخيانة متكررة. الحادثة تظهر أيضاً بأن المعركة كانت قد انتهت قبل فترة ليست بعيدة (ربما بضعة أيام فقط!) ومع ذلك، كما هو خلق نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، فإن المبادرة بحسن الظن كانت هي خياره الأول على الدوام، بعكس ما يظهر من سلوكنا نحن عموم المسلمين، وطبعاً لا يفوتنا أن نبرر هذا السلوك دوماً بالنباهة واليقظة أمام المؤامرات التي تحاك ضدنا. المسلمون يومها كانوا قد فرغوا من معركة ضارية مع عدوّ لا يؤتمن، مُجرّب في خيانته عدة مرات، ومع ذلك، وبمجرّد أن يخرج المسلمون من ساحة الحرب، يُريحون سلاحهم ويعودون إلى مستقرّهم الأخلاقي في التعامل مع الناس جميعاً، بمن فيهم أعداء الأمس القريب ولو كانوا أصحاب مواقف خيانة وغدر متكررة.

بالرغم من كل ما سبقَ موقعة خيبرمن احتكاك بين المسلمين واليهود، وبالرغم من خيبر نفسها، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قبِل الطعام من امرأة يهودية تعرّض نفرٌ من طائفتها للقتل والإذلال في ساحة الحرب. القصة تختصر الكثير من أخلاق الإسلام، تختصر أيضاً الفرق بين ردّة فعل النبي صلى الله عليه وسلم وردّة فعل بعض صحابته الذين سألوه عن قتلها، وواقعياً توضّح الفرق بين تفكير المُصلح وحكمه على الأشياء وبين التفكير المحكوم بردّة الفعل عند كثير من الناس، الذين كانوا يومها حول النبي صلى الله عليه وسلم وهم موجودون في أي زمان. القصة يمكن إسقاطها واقعياً على نواحٍ كثيرة من حياتنا، خاصة في ظل الثورة والحرب وأزمنة الصراع، لأنه في هذه اللحظات المفصلية تصطدم القيمة الأخلاقية بالعاطفة، هذه اللحظات هي أقسى اختبار لمدى رسوخ القيم في الأنفس البشرية!

من المفاصل الهامة التي ينبغي الوقوف عندها في القصّة ردّة فعل النبي على محاولة القتل، المثبتة باعتراف المرأة في الرواية الأولى لمسلم (فقالت أردت لأقتلك)، وباعتراف المجموعة من اليهود في رواية البخاري (أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك). إذن نحن أمام جريمة بكل معنى الكلمة، سبقها تخطيط وتآمر من مجموعة وقامت المرأة بالتنفيذ. في كلّ زمان ومكان يكون هناك من يظنّ أن القتل هو الخيار الأصوب، كان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم حين قالها أحد الصحابة (ألا نقتلها؟!)، وفي زماننا يظن معظم المسلمين أن علاج الباطل يكون بالقتل. لا بأس من تكرار أن المسألة هنا ليست مسألة باطل فقط، بل هنا جريمة تآمر وتخطيط ومحاولة قتل مثبيتة كلها باعتراف المجرمين بشكل واضح وصريح.

قالوا «ألا نقتلها؟» فأجاب «لا!». ترى لو تكررت نفس الحادثة اليوم، سواء في زمن الثورة أو الحرب والفوضى، ورفض أحدنا القتل في ظرف مشابه، فما هو حجم الهجوم والانتقاد الذي سيتعرّض له القائل بذلك؟! كثيرون هم الذين سيخرجونه من الملّة.

تمثل جريمة تسميم الشاة كل محاولة قتل، كل دعوة للقتل، كل فكرة مسمومة، كل إعلام مسموم، كل رأي يقف صاحبه فيه في صف القاتل ويدعم موقفه. الحلّ الانفعالي لكل ما سبق هو القتل عند أكثر الناس، ولا شيء غير القتل، بل لو كان كثير منا موجودين في ذلك الزمان لاستنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم ثقته بالمرأة اليهودية بعد كل حروبه مع اليهود ونقضهم مواثيقهم معه، ربما كانوا هزئوا منه، ربما شتموه أو انفضّوا من حوله.

لو كانوا موجودين وقتها لكان سوء الظن مقدّماً على أي ردة فعل أخرى، ولكان ذلك بالنسبة لهم هو رد الفعل السليم، وما خلاه –في نظرهم– مجرد سذاجة! تذكر رواية مسلم بشكل واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم رفض قتل المرأة هنا، لقد ميّز النبي صلى الله عليه وسلم هنا بين محاولة القتل (أو التحريض عليه والدعوة إليه) وبين القتل الفعليّ، ولم يغيّر تاريخ اليهود معه من حكمه هذا، بل كما سبق وذكرت، إن حسن الظن كان أساساً في تعامله برغم كل شيء.

محاولة القتل جاءت على خلفيّة عداوة دينية مع المسلمين، تشبه كافة أشكال العداوات الفكرية التي تنشأ بين المذاهب الدينية والفكرية والتي تحولت إلى حروب عبر التاريخ. كل الخلافات السياسية والفكرية التي ينشأ عنها تحريض على القتل تنضوي عملياً تحت هذا النوع من العداوات: آراء مشايخ السلطة وأدواتها الفكريين والإعلاميين، صحفيّون، مصوّرون، أو كل من يبث سمومه دعماً للباطل،كل الجهلة والمحرّضين الذين لا يتورّطون بشكل مباشر في سفك دم الأبرياء والمقاومين. هنا يجب أن نطرح تساؤلاً متأخراً بعض الشيء: هل يحقّ لنا إسقاط مثل هذه الروايات القيميّة على واقع الثورة الحالي؟

لا أشك بأن النص الديني تمّ إقحامه منذ الأيام الأولى للصراع مع النظام، وهذه نتيجة حتمية لا مناص منها، ولأنها كذلك، فإن على النص أن يدخل بكل قيّمه دونما اجتزاء، أن ينزل ضمن مواضع تطبيقه بشكل سليم، بعيداً عن العبث والعشوائيّة. النص ليس دعوة للمواجهة بدون ضوابط، فلحظة المواجهة تحكمها كثير من الضوابط، وحين تحين تلك اللحظة فإنه لا يترك الغرائز منفلتة من عقالها، بل يحيطها بكثير من القيود. كثيرون يهللون لقتل إعلامي «بوق» للنظام، كثيرون يدعون لقتل أمثال هؤلاء، لا أفق لدى هؤلاء هنا إلا القتل، يشرعنون دعواتهم بفتاوى من هنا وهناك، ينتسبون إلى الإسلام، ولكن الإسلام الذي يروّجون له معاكس تماماً لمضمون الإسلام الذي تحمله تفاصيل هذه القصّة بالذات.

استكمالاً لموضوعنا، نشير إلى أن روايات أخرى تذكر أن المرأة قُتلت بعد ذلك. نعرض الرواية التالية كمثال عن هذه الروايات: «عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن إمرأة يهودية دعت النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابًا له على شاة مصلية، فلما قعدوا يأكلون أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة فوضعها، ثم قال لهم: ’امسكوا، إن هذه الشاة مسمومة‘، فقال لليهودية: ’ويلك لأي شيء سممتِني؟‘، قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيًا، فإنه لا يضرك، وإن كان غير ذلك أن أريح الناس منك. وأكل منها بشر بن البراء فمات. فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (قال الحاكم عن هذه الرواية أنها صحيحة على شرط مسلم، ووافقه الذهبي). أحدثت الروايات المتعلقة بالحادثة جدلاً بين علماء الحديث، مما اضطرهم بعضهم إلى التوفيق بينها، قال القاضي عياض: «وجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها إلا حين اطلع على سحرها، وقيل له اقتلها فقال لا، فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصًا، فصحّ قولهم م يقتلها أي في الحال، ويصحّ قولهم قتلها أي بعد ذلك. والله أعلم». ولن أعيد فتح جدل جديد حول مسألة قتل المرأة (مع أن الجدل يبقى قائماً) بل سأعتمد نتيجة الجمع التوفيقي الأخير الذي قدّمه القاضي عياض، أي أن القتل يكون قد تمّ بعد موت أحد الصحابة الذين أكلوا من الشاة، ولم يكن قتلاً قصاصاً من نيّة القتل أو التحريض أو حتى محاولة القتل. كما لم تذكر الروايات الصحيحة ولا الضعيفة شيئاً بخصوص مجموعة اليهود الذين خطّطوا مع المرأة لحادثة القتل تلك. أي أن القتل يكون محصوراً بمن قتل فعليّاً، ولم يخرج أبعد من ذلك.

ومع وضوح رواية البخاري في تورّط جمع من اليهود في العمليّة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أدان في نهاية الأمر الشخص المنفّذ القاتل وصاحب الإسهام الأكبر في التدبير لهذا الجرم. بكلمة أخرى، لو لم يُقتل أحد الصحابة لما قُتلت المرأة، بالرغم من كل الظروف المحيطة التي أتينا على ذكرها. لو بقي الأمر ضمن نطاق التآمر والمحاولة لما كان هناك غير العفو الواضح في رواية مسلم. وبكل الآحوال، لم يحدث أي تبعات على اليهود الآخرين المشاركين. نُفّذت العقوبة بالقاتل الفعلي والمباشر بحسب التوفيق المشار إليه!

يحتدم الجدل اليوم، مع الفوضى المحمومة بدعوات القتل العشوائي وتبريراته المنتشرة ردّاً على إجرام الطرف المعتدي، وكثيراً ما يخرج الموضوع على أرض الواقع عن منطق الدفاع عن النفس في مواجهة القتل المحقق، إلى الدعوة لقتل كلّ مخالفٍ يدعم القاتل أيديولوجياً أو إعلامياً أو يخدمه فكريّاً ودينيّاً. المشكلة أن هذه الدعوات العشوائية تساق باسم الدين وتحت سلطة النص. لكن أي نص؟ وما هي ظروف تطبيقه؟ ولماذا هذا النص وليس النص الآخر الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه مخالف للأول؟!

أثبتت الأحداث أننا نفضّل اختيار النص الذي يتوافق مع ردود أفعالنا الغريزيّة، نفضله على النوع الثاني من الاختيارات التي تتطلّب شيئاً من الحياديّة، وكثيراً جداً من انفتاح العقل، ومعهما أدوات محاكمة عقلية كافية لفهم ظروف النص وظروف الواقع.

المسافة العقلية بين الردود الغريزية وبين النوع الثاني كبيرة جداً، هي تماماً كالمسافة بين «ألا نقتلها؟» وبين «لا!».