في زيارة سريعة للمناطق المحررة في مدينة حلب، التقيت بمقاتلين من كتائب مختلفة. وأمضيت وقتاً طويلاً مع مقاتلي كتيبة أحرار الثورة، من لواء أنصار محمد التابع للجيش الحر، وذي السمعة الطيبة في حلب. هنا محاولة لرسم بعض ملامح هؤلاء المقاتلين. لا أدعي رسم صورة كاملة للجيش الحر في حلب، ولا حتى تعميم هذه الملاحظات على مقاتلي الكتيبة الواحدة. كما لا أدعي تقديم دراسة نظرية. يندرج هذا المقال ضمن سلسلة المقالات التي تنشرها الجمهورية في محاولة لرسم ملامح المقاتلين على الأرض، والتي قد تفيد في دراسات نظرية لاحقة. من ناحية أخرى، نريد التفكير بالمحاربين بطريقة مختلفة، خارج السياق العسكري-السياسي. عسكرنا أكثر من حاملي سلاح و بيادق في المعركة. نريد رؤيتهم كبشر، لهم همومهم وآمالهم ومخاوفهم.
وراء خط الجبهة يعيش المقاتلون كما يعيش المدنيون. من هنا نبدأ.
كيس سكر
التقينا في أنطاكية مع مصابي الجيش الحر. تتراوح أعمار الشباب بين العشرين والخامسة و العشرين. لم يحكِ البعض قصته. لم يشعروا بالراحة لوجود شابين من الطبقة الوسطى الدمشقية. حاولنا كسر هذا الجمود، ولكن إقامتنا كانت قصيرة جداً للنفاذ إليهم. تكلم اثنان منهم بصراحة. الأول هو المعيل الرسمي للشباب، عن طريق بعض المساعدات المادية التي يتلقاها من أقاربه في الخليج. تصل أيضاً مساعدات أخرى صغيرة من بعض الأقارب للشباب الآخرين ومن عائلاتهم في حالات نادرة من الداخل السوري. باستثناء هذه المساعدات البسيطة جداً، لا يوجد أية معونة من أي طرف معارض رسمي أو غير رسمي. هذا المكان هو نموذج فقط. يتكرر الأمر مع آلاف الجرحى. زارهم العديد من المؤسسات و التنظيمات. طالبهم الجميع بالتقاط الصور معهم، مشترطين في بعض الأحيان أن يحملوا ما يدل على الجهة الراعية، قبل أن تتم العمليات الجراحية المطلوبة. تم جمع المعلومات والبيانات المطلوبة لهذه العمليات عشرات المرات. في معظم الأحيان لم تصل المساعدة.
البيت الذي يسكنونه متواضع جداً. ينامون على فرشات شبه عفنة. أريكتان مهترئتان، طاولة صغيرة، وأركيلة. ينام في البيت حوالي العشرة أشخاص، قد يزداد العدد ليصل إلى العشرين، حسب الواصلين الجدد. للمساعدات البسيطة التي يرسلها المغتربون، على صغرها، الدور الأساسي في حياة هؤلاء.
الشاب الثاني الذي شاركنا تجربته كان عماد، وهو مساعد مهندس من مدينة حماه. كان عماد يعمل في مجال البرمجيات، بمرتب عال بالنسبة لسوريا ما قبل الثورة. عند قيام الثورة، كان في الجيش، وفي وضع مريح نسبياً. انشق عماد في الأشهر الأولى للثورة. عماد شاب وسيم تشعر براحة فطرية في وجوده. لبعض الناس القدرة على الولوج إلى أسرار الحياة دون تعقيدات. تبدو الحياة لهم معطىً بديهياً. قصصه وحضوره تذكّرني بوالت ويتمان: سعي لا يتوقف مصدره إيمان بخلاص آت، يرافقه قبول نبويّ بالخسارات. شارك عماد بالمظاهرات السلمية منذ بداياتها، قبل أن ينشقّ. بعد انشقاقه كان من أوائل من حملوا السلاح. فيما بعد تنقل بين كتائب الحر. لعماد وجهة نظر طيبة بالكتائب الإسلامية، بما فيها النصرة. ولكن له شكوكه فيما يتعلق ببرامجها. مع كأس الشاي الثقيل، جلس عماد يشعل سيجارة تلو الأخرى.
ــ «ما عمتزبط من عند الركبة. عمتجرحني شوي محل ما لازم أربطها». فك عماد ساقه الاصطناعية.
ــ «عماد حكيلون للشباب عن الرجل يلي ركبتها قبل هي، تبع الجلابية».
ــ «والله شو بدي أحكي؟ يا سيدي رحنا عند جماعة خير، بيركبو كل الرجلين نفس المقاس، شو ما كان طولك وووزنك. ومن تحت عريضة كتير، يعني ما فيي ألبس بنطلون بحياتي. استغفر الله، بس منظرها بيكشش البدن، وما بتعرف تمشي فيها منوب. وزنها لحالو بيخليني أعرج».
ــ «كان لازم تشوفو هو وحاطط رجل أعرض من خصرو، بيموّت من الضحك».
ــ «قلنالون يا جماعة زبطوها شوي، كرمال النبي. قال ’موعاجبك… امشي من هون! ما بيكفي عمنساعدك، وبدك تتشرّط!‘… حسيت حالي عمبشحد».
ــ «خسا يا عماد، كلو مكتوب عند رب العالمين».
ــ «حكيلون للشباب عن الإخوان»، ينفجر الشباب بالضحك.
ــ «هات لنشوف».
ــ «يا سيدي استبشرنا خير, قلنا هدول عالم بيعرفو الله. أخدونا وجابونا شي عشرين مرة. وعلى معلومات وصور، وبيبعتو الصور يشحدو علينا فيها. لحد ما قلتلون خلصونا. قال ’والله يمكن ما يمشي الحال‘. وكانو واعدينا بشوية مصاري لنأمن أكلنا هون. المهم، أنا وطالع الحجي نادى للشب عندو بالمكتب. قال عطيهون كيس سكر للشباب يدبرو حالون»، يردد الشباب «كيس سكر» في كل مناسبة. إن جاع أحدهم، «أعطيه كيس سكر»، إن تأخر أحدهم «شو كنت عمتجيب كيس سكر؟»، إن اتصلت بهم منظمة خيرية «الله يبعتلنا كيس سكر».
نام عماد، بساقه المقطوعة، في الحدائق العمومية في أنطاكية في بعض الليالي، قبل أن يلتحق بهذا البيت. قال له أحد الأطباء إن ساقه كان من الممكن معالجتها مبكراً، ولكنها تعفنت نتيجة الإهمال. كان من الممكن لقليل من المال أن ينقذ الساق. «الحمد لله على كل شي. الله وكيلكون ماني زعلان ع رجلي. في ناس استشهدت. أنا والله مو زعلان غير عالذل يلي عمننذلو هون. كيس سكر لكن! إلنا الله».
كتيبة أحرار الثورة
في معبر باب الهوى، التقينا أبو عدي وأبو باسل من قادة لواء أنصار محمد. أبو عدي في بداية الأربعينات، لصوته غنة دمشقية محببة. حين التقيته في باب الهوى، لم أشعر بالارتياح. بالمقابل، شعرت بارتياح مباشر لأبو باسل. ربما لأن أبو باسل صديق أبو مأمون، زميل الرحلة إلى الداخل السوري. أبو باسل في بداية الثلاثينات، هادئ كحكيم صيني. كان هذا لقائي الأول مع قادة في الجيش الحر. بعد عدة دقائق، اكتشفت أنني لم أتعلّم بعد كيف أتواصل مع من يختلف عني. كان شعوري للارتياح لأبو باسل عائداً بشكل رئيسي إلى شبهه بي. يلبس أبو باسل بنطلون جينز وقميصاً أبيضأ، ويبدو أقرب إلى أحد الشباب «الكوول» في الشعلان منه إلى مقاتل على الجبهة. سمعت فيما بعد عن شجاعته في المعارك. أما أبو عدي فكان يلبس لباساً عسكرياً، مع لحية غير مشذبة. اختفى عدم ارتياحي سريعاً، قلة من العسكر تتبسّط في حديثها مع الغرباء منذ اللحظات الأولى كما فعل أبو عدي. يتمتع الرجل بذكاء عملي مباشر، وطيبة قلب تجعله أقرب إلى أب للشباب المقاتلين منه إلى قائد ميداني. اعترض أبو عدي على قرار الهيئة الشرعية بمحاصرة المناطق التابعة للنظام وقطع إمدادت الطعام الواصلة إليها من الريف الحلبي، حيث يرى أننا نتشبه بنظام بشار في هذا القرار. عند دخولنا لمخيم أطمة، تذمر الرجل بصوت لا يكاد يُسمع: «يا أخي والله لو ما بدنا ناخد الشب يشوف أهله، ما فتت عالمخيمات. والله قلبنا ما بيتحمل هيك مناظر». لم يبالغ أبو عدي. يُحكى أن الزعتري يشكل مخيماً مثالياً مقارنة بمخيمات الداخل السوري، وتحديداً أطمة.
كان أبو باسل يعمل في السعودية، بمرتب ممتاز وحياة مرفهة. بمعنى ما، هو فعلاً شاب «كوول». سألته: «ليش رجعت؟ وليش بدك تحارب؟ مو كان أسهلك تشتغل بالإغاثة والعمل المدني؟». لأبو باسل وجهة نظر أخرى. يرى أبو باسل أن واجب الشباب السوري المتعلم وأبناء الطبقة الوسطى الانخراط في الجيش الحر. الانسحاب من المعركة والتذرع بالانخراط في العمل الإغاثي والمدني والإعلامي (على أهميته) يجعل الجيش الحر بأيدي غير المتعلمين والمتأسلمين. إن كان لنا دور في هذه المعركة، فيجب أن يكون بشكل أساسي من خلال الانخراط بالجيش الحر، كمقاتلين. أو، بأقل الأحوال، علينا أن نحافظ على تواجدنا في المناطق المحررة مهما كلف الأمر. الابتعاد عن ساحات القتال، والهرب إلى الخارج، يعني أن نترك سوريا لغير المتعلمين. أيضاً، لا يجوز أن نقبل بأن تتحرر سوريا بدماء فقرائها وحدهم.
ترك أبو عدي عمله المريح مادياً في ليبيا وعاد ليحارب. ويبدو أنه شارك في الثورة ضد القذافي. متزوج وله أولاد. يوافق أبو عدي أبو باسل. معظم مقاتلي الجيش الحر هم من غير الجامعيين، أو حتى غير الحاصلين على الشهادات الثانوية. تكاد تخلو المناطق المحررة من الجامعيين وأبناء الطبقة الوسطى. ينعكس هذا على مجمل التنظيمات وأسلمتها. إن كانت الثورة قد تأسلمت سياسياً، وشابها الكثير من الأخطاء، فليس هذا ذنب المقاتلين والهيئات الشرعية، بل ذنب من ترك البلد حين مست الحاجة إليه، تاركاً فقراء سوريا وراءه. مثل أبو باسل، يلوم أبو عدي أغنياء سوريا ومتعلميها ومثقفيها لهربهم. «يا زلمي مع محبتي للشيخ معاذ، نزل ساعتين ع منبج، ومشي. يا أخي كرمال الله زيارة ع حلب. يقعدوا معنا، يحكوا معنا. وينو هاد الائتلاف والمجلس والهيئة. لسا حكي فاضي وبهادل عالتلفزيون، الله يبهدلون». بلهجة الأستاذ، يقول أبو باسل: «اسمع، هاد الحكي يلي لازم ينحكى… لازم ينزلو يعيشوا متل هالعالم، بحلب وإدلب والرقة، بالدير والغوطة الشرقية. شو هنن أغلى من هالعالم يلي عمتموت كل يوم؟». لا وجود على الإطلاق لأي تمثيل في الأراضي المحررة لمن يدّعي تمثيل الشعب السوري. هنا الجيش الحر، الكتائب الإسلامية، الهيئات الشرعية، والمجالس المحلية.
في الأيام اللاحقة، اكتشفت أن أبو عدي يتبع سياسة العصا والجزرة مع المقاتلين. لا يوجد في الكتيبة، أو اللواء بشكل عام، تراتبية صارمة. ربما كان هذا ينطبق على معظم تشكيلات الحر والكتائب الإسلامية. لا يوجد هنا جيش بالمعنى المعروف لهذه الكلمة. التسليح المتواضع ونقص الذخيرة، والعلاقات الأبوية في التشكيلات، تجعلنا نؤكد مرة أخرى أن المصطلح الأدق هو المقاومة الشعبية. يتم تقييم المقاتلين قبل كل شيء بناءً على شجاعتهم على الجبهة، هذا هو المعيار الرئيس للاحترام هنا. انعكس هذا بوضوح في علاقة المقاتلين معنا. اكتسبنا بعض الثقة حين زرنا الجبهات وقضينا بعض الليالي في المقرّ على الجبهة. لم نعد فتية العاصمة المدللين فقط. بدأ البعض بالتكلم معنا بأريحية. دخلنا عالم العسكر.
الشيخ ربيع
التقينا الشيخ ربيع في مقر كتيبة نور الدين الزنكي في إحدى مدارس حلب. للرجل ابتسامة محببة ورغبة بالكلام. كان الشيخ ربيع يتذمر من انتشار عمليات السرقة. تحاول بعض الكتائب الحد من الفلتان الأمني المنتشر، ومنها لواء الأنصار وكتائب الزنكي.
يرى الشيخ ربيع أن البلد متروكة لمن هبّ ودبّ: «وين المشايخ؟ وين العلماء؟ وين يلي بدو يفتي ويحل مشاكل العالم؟ شو عم يعملو بتركيا و قطر؟ يا أخي أنا رجل مسلم و ملتزم، بس معظمنا ما بيفهم بالدين. وين دعاة الدين الصحيح والمعتدل؟ ليش تاركين البلد للنصرة والقاعدة وغيرها؟ تاركين البلد لكم شيخ يفتوا أنو سرقة المعامل حلال؟ أنو هي غنائم؟ له يا رجل! كل شي إلا السرقة. كل شي إلا هي. والله ما فينا لحالنا نساوي كل شي». سألته قبل انتهاء الحديث: «شيخ ربيع، شو كنت تشتغل قبل الثورة؟». يرتبك الشيخ للمرة الأولى في حديثه المنساب بجمال و صدق، ينظر بطرف عينه إلى أبو باسل والملازم رضا، يجيب: «كنت عامل». يصمت لثوانٍ، ويبتسم ابتسامة صاحب الأرض الصغيرة لجابي الضرائب: «كنت أنا الجابي، وله الأرض وما عليها. تعلمت من أبو باسل أن أرفض ما كُتب لي». سألت الشيخ بصوت حاولت أن يبدو طبيعياً: «شو بدك تعمل بعد الثورة؟ رح ترمي السلاح وترجع عشغلك؟». «لأ..يعني إيه؟ حسب. إزا أجت حكومة تطبق شرع الله الصحيح». هنا لم أفهم بالضبط ما الذي يخشاه الشيخ ربيع: النصرة وأشباهها من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، والغرب وإسرائيل، وقطر وتركيا، بقايا النظام، والمعارضة التقليدية. على أكتاف الشيخ ربيع يقع همّ الثورة كله: يخشى أن تُسرق الثورة. لا حليف للشيخ ربيع في هذه المعركة. تبدو هذه مخاوف الكثير من المقاتلين. لا ثقة بأحد. تُرك السوريون ليواجهوا النظام وحده، لا يخشون فقط من عنف النظام، بل ما بعد سقوطه أيضاً.
أحد مقاتلي الزنكي يشرح لي: «نحنا واللواء ويلي بيشبهونا ما عنا تمويل. لتاخد تمويل يا بتكون قاعدة، يا بتكون علماني. غير هيك، ما في سلاح». أكد لي أبو عدي وأبو باسل صحة هذه الآراء. الدعم الوارد لقيادات الحر يكاد يتوقف. للكتائب الإسلامية صِلاتها، ولكن حتى هذه لا تتمتع بدعم واسع، كما يشيع النظام. سألته: «وليش أنت ضد القاعدة؟» ارتبك قليلاً. «لأنو إسلامون غير إسلامنا، لأنو كتير متشددين، وعم يهدّوا مقاماتنا. ولأنو كلون أجانب. ما بيحترمونا. مانا قاعدة. لا بيشبهونا ولا بنشبهون». كان المقاتل في بداية العشرينات، له لحية طويلة وشوارب محفوفة، وخلفه علم القاعدة الأسود (الذي لا يمثل القاعدة بالضبط، في بعض المناطق)، وعلم الثورة. «طيب والعلمانيين؟». «شو والعلمانيين؟ هدول جماعة بشار. هيك منكون ما ساوينا ثورة. رجعنا متل ما كنا. أخي نحنا إسلامنا معتدل. لا هيك ولا هيك»
عسكر وأطفال
طفلة في التاسعة تلوّح لنا: «الله يحميكون». عشرات الأطفال في مخيم أطمة يركضون خلف السيارة: «الله محيي الجيش الحر». أطفال بستان القصر يتجمعون حول أبو بشير الذي يعرفونه جيداً، محاولين إقناعه بأن يريهم كيف يستخدم بندقيته. علي ومحمد يلهون مع أطفال العامرية. في السيارة، يقول أبو عدي: «وقت بكون هيك مخنوق، هاي البنت الصغيرة بترجّعلي كل إيماني بهالثورة». يرد أبو باسل: «يا ريت الكبار بسوريا يكونو متل هالولاد. عالأقل نحسّ بقيمة يلي عمنعملو».
لم أستطع أن أنظر إلى عسكرنا إلا كأطفال يلهون بأسلحة ليست لهم. قال لي صديق أنني كرّرت هذا التشبيه عدة مرات في «مرايا حلب». أفكر بحزن بعسكر النظام. هل كل العسكر أطفال؟
في المشهد الأخير من فيلم «مذاق الكرز»، نرى العسكر يلهون في مرج أخضر مفتوح، كما نرى طاقم الفيلم مع كاميراته يصورون الجنود. تضيف الموسيقا بعداً مأساويأ لمشهد موت لم نره في الفيلم، لوي آرمسترونغ، في أغنية من تراث الموتى وحروبهم هناك. هذه هي المذبحة السورية. قصة الكاميرات التي تصور سقوط السكود يومياً على أفقر أحياء سوريا.
ليس هذا ما يريده كياروستامي من المشهد. لا بأس. يبقى في المشهد السوري مذاق الكرز، والأصدقاء في السينما الإيرانية، والجاز الأمريكي. وكاميرات تصور السكود، وعسكر وأطفال… وأمل بمستقبل أفضل.