جريمة قتل محمد قطاع، الطفل الفقير من حي الشعار بحلب (9 حزيران 2013)، باسم الدين الإسلامي، وعلى يد مجموعة لا اختصاص لها، ليست شيئًا عاديًا، ولا هي «خطأ» من أخطاء الثورة أو «انتهاك» حقوقي ارتكبته جماعة محسوبة عليها؛ إنها جريمة مطلقة يهتز لها ضمير الإنسان، وتدفع إلى مساءلة ضميرنا عن تكوينه وعن عدالته.

لا يكفي أن ترفض هذه الجريمة أو تدان، بل ينبغي التساؤل عما جعلها ممكنة. وإذا كان لا ريب في أن جرائم النظام الأسدي وعنفه المتوحش طوال عامين و3 شهور قد وفّرت الشروط النفسية لارتكاب جرائم من هذا النوع، وإذا كان هذا العنف اليومي والردّ عليه قد طبّع العنف وجعل القتل من مألوف الوقائع والأفعال والكلمات، فإن في التفكير الديني الإسلامي المعاصر ما يسهّل ارتكاب مثلها، وتحديدًا التكفير المرسل والشائع، واعتبار القتل فعلًا عقابيًا عاديًا، والربط الشائع بدوره بين الدين والعنف. وهذه أمور لا يتوفر عند معتدلي الإسلاميين ما يحول بين متطرفيهم وبين ممارستها، بفعل الوهن الفكري للاعتدال الإسلامي وغلبة التأويل السلطوي والعقابي للتعاليم الإسلامية. ولذلك لم تُسمع أصوات إسلامية قوية تدين هذه الجريمة المسيئة للإسلام، وللثورة، فوق كونها جريمة قتل ديني لطفل، يندر أن يجد المرء مثلها في تاريخ الأديان. هذا السكوت علامة غير مشرفة على حال الضمير الإسلامي المعاصر.

الواقعة هي الأبشع بين وقائع كثيرة تستوقف الحريصين على الثورة، وعلى البلد، وعلى كرامة الإسلام ذاته؛ وقائع اقترن فيها الدين بالعنف، وقامت بها جهات إسلامية متنوعة، يبدو أنها تشترك في الاعتقاد بأن التزامها بطاعة الله يُغنيها عن احترام البشر، ويعطيها حرية تصرف مطلقة حيالهم، الضعفاء منهم بخاصة. وبمجموعها تطرح هذا الوقائع أسئلة فكرية وسياسية وأخلاقية على عموم المسلمين المعاصرين، والإسلاميين منهم على نحو خاص؛ أسئلة تتمحور في النهاية حول نقطة جوهرية واحدة، هي العلاقة بين الدين والإكراه: هل الإكراه أداة عادية في خدمة الدين، أم الدين أداة إيديولوجية في خدمة الإكراه والسلطة الإكراهية، أم أن الدين شيء والإكراه شيء آخر مناقض؟

الدعوة العملية التي تبدو لنا مركز كل جهد إصلاحي على المستوى الإسلامي تتمحور حول الفصل القاطع بينهما، بحيث لا إكراه في الدين ولا دين في الإكراه.

والإقرار الحاسم والنهائي بهذا المبدأ هو ما يفتح أوسع أبواب السياسة أمام أي إسلاميين محتملين، وليس هو الذي يُغلقها. إن تطور سياسة إسلامية معاصرة مفتوحة الآفاق رهن بتحريم العنف الديني أو أية ممارسة العنف باسم الدين. بل إن تطور أخلاقية إسلامية معاصرة متسقة وفاعلة رهن أيضًا بالقطيعة الكاملة والنهائية مع العنف، ورفض اعتبار العنف أداة مشروعة في خدمة الدين. في حين أن اعتبار العنف أداة مشروعة وعادية يحول دون نموّ الضمير، ويبقيه قزمًا غير فاعل. هذا فوق أن الإيمان الديني ذاته لا يستقيم على أرضية من الإكراه. والروح، التي هي «عضو» الإيمان، تجفّ وتيبس إن كان الإكراه مباحًا ووسيلة عادية في خدمة الدين.

حيث الإكراه، لا دين، بل دولة أو جيش أو عصابة عنيفة…، وحيث الدين لا إكراه، بل إيمان وانشراح صدر وارتباط بالله وبجماعة المؤمنين.

نرى أيضًا أن أكثر مشكلات الإسلام المعاصرة متولدة عن اعتبار الارتباط بين الإسلام والإكراه أمرًا عاديًا وضروريًا وشرعيًا، أو اعتبار العنف أداة مشروعة وعادية من أدوات الدين. هذا يولد إيديولوجية إسلامية انقلابية وتسلطية، وحزبية أو حزبيات سياسية إسلامية متطلعة إلى السلطة المطلقة، وهو أحد المنابع الكبرى للعنف في حياتنا السياسية والاجتماعية في بضع العقود الأخيرة. المنبع الآخر، المعلوم، هو سلطة الدولة، التي لم ننجح بعد في ترويضها وأنسنتها، والتي لا تستطيع الثورات المضادة للطغيان أن تكون خطوة في اتجاه الأنسنة إن لم يجر قطع الرابط بين الدين والعنف. ذلك أن من شأن إبقاء هذا الرابط أن يغيّر سند الطغيان والعنف ضد المجتمع، من الوطنية أو غيرها إلى الدين، دون أن يطال روح الطغيان ذاتها. هذه الروح الشريرة، التي لم تكفّ عن ارتكاب الجرائم كل يوم منذ 30 شهرًا، هي ما ينبغي الخلاص منه بكل نسخها وتناسخاتها، إن كان لإنسان أن يكون كريمًا في بلدنا يومًا.

وخلافًا لما يبدو أن أكثر الإسلاميين يعتقدون، فإن من يستفيد من ارتباط الدين والعنف ليس الدين، ولا عموم المؤمنين، بل الأقوياء، المتحكمون بالسلطة التي يدرّها العنف. المستفيد هو العنيفون العامون أو إداريو العنف، وستتحول إدارة العنف العام وتوجيهه ضد المجتمع إلى غاية، بينما ينقلب الدين إلى أداة تضفي عليها الشرعية، بل القداسة، وتحميها من الاعتراض الاجتماعي، وتسوغ قمع المعترضين أو استئصالهم.

إن كان لجريمة قتل طفل باسم الإسلام أن تُطوى، وتذكر في حوليات التاريخ كواقعة عارضة، وإن تكن مخجلة، فينبغي أن يمتنع كل قتل باسم الدين. وإلا كان محتملًا أن تكون جريمة قتل الطفل سلمو حلقة واحدة في سلسلة متصلة الحلقات من القتل الديني، لا يُعرف، إن كانت هذه من بداياتها، ماذا يحتمل أن تكون النهايات.