من المرجح أن تشكّل الثورة السورية، بمسارها حتى الآن، حالة شديدة الخصوصية من ضمن الثورات عموماً، ومن ضمن ثورات الربيع العربي أيضاً. وجه الخصوصية لا يتعلق فقط بخصوصية السوريين، أو خصوصية التركيبة السكانية للمجتمع، وإنما أيضاً بخصوصية النظام السوري وقدرته الفائقة على استخدام أساليب القمع الوحشي بلا رادع، بل وبدعم من جهات إقليمية ودولية نافذة. هنا نسجّل للنظام بعض ملامح النجاح، وبلا شكّ العديد من أوجه الخسارة، والنجاح وإن لم يكن مدروساً بالضرورة من قبل الأجهزة الأمنية فهذا لا يقلل من ثماره، ولا يعيب الثورة دائماً بما أنها أثبتت أيضاً قدرتها على التكيف مع الواقع في كثير من الأحيان.
سيكون مهماً على صعيد الإشارات العامة السابقة أن نستذكر الجهد الحثيث للنظام لمنع السوريين من التظاهر في ساحات المدن، وبالتالي دفع المظاهرات إلى الأحياء المنعزلة والزواريب أو البلدات الصغيرة. كان هاجس النظام الأكبر هو عدم تكرار الصورة التي شاهدها العالم للمصريين في ميدان التحرير، إلا أن النتائج أتت في جزء منها مطابقة لما واظب عليه من تفتيت للنسيج السوري ومنع التقائه وطنياً. فالساحات العامة تعبير عن الاجتماع الوطني، أو مسرح لإنجازه، وهي مشروع تعارف وتحاور والتقاء بخلاف الأحياء ذات الطبيعة السكانية المتجانسة، وربما الأصول الاجتماعية المتجانسة على نحو ما هو شائع في عموم المدن السورية.
هنا كان لا بد، ربما، من تشظي الثورة تنظيمياً، قبل أن يُتاح لشبابها فرصة الالتقاء والانتظام على المستوى المناطقي الأوسع أو على المستوى الوطني العام. لا يقلل هذا من شأن المنظمات أو التنظيمات الوطنية الموجودة بالفعل، ولكن المضطرة لترك أمر كل منطقة لاجتهادات أعضائها هناك، وبما يناسب ظروفهم وظروف منطقتهم، بينما تبقى الإستراتيجية العامة متوقفة عند شعارات الثورة من دون الخوض في التفاصيل. بهذا المعنى، كان لا بد لأي تنظيم وطني ثوري أن يتمتع بلامركزية عالية، وإلا فقد دينامية التحرك والمقاومة ضمن واقع أمني قادر على تعقب وضرب التنظيمات الكبرى أكثر من قدرته على تعقب وضرب الوحدات الأصغر.
على الصعيد نفسه لا يمكن تجاهل التشكيلات التي نشأت مناطقياً، وضمن ظروف خاصة، وبقائها ضمن حيزها الجغرافي والاجتماعي الضيق؛ الأمر الذي لم يتح لها فرصة الاستفادة من تجارب المناطق الأخرى أو تقديم العون لها. هذا قد يكون مدخلاً لتشتت الرؤى الوطنية المستقبلية، بخاصة مع عدم وجود «مدونة سلوك» مُتفق عليها بين كافة القوى الثورية، وأيضاً مع عدم اتفاقها على أسس الإدارة الذاتية للمناطق المحررة. لذا سنجد اختلافات جوهرية في التوجه والأدوات، فأداء الهيئات الشرعية في حلب وإدلب مثلاً يختلف عن أساليب الإدارة المتبعة في يبرود أو عن التجربة التي لم يقيّض لها الاستمرار في الزبداني، وقد نجد انزياحاً في التجربة نفسها كما حدث في جوبر، حيث بدأت تجربة الإدارة بلديةً ومدنية قبل أن تنحو إلى الأسلمة تحت ضغط الحاجة إلى التمويل وطبيعة الجهات التي تكفلت به.
ثم إننا لا نستطيع تجاهل حالات الفوضى الناجمة عن تكاثر التشكيلات الثورية، العسكرية منها والمدنية، وغياب التنسيق فيما بينها، أو حتى عدم الرغبة في التنسيق، فضلاً عن وجود حالات من التنافس الذي لا يليق بمُثل الثورة، ووصولها في بعض الأحيان إلى حد الاقتتال. ومع أن الفوضى أمر محتم في حالات الانفلات الأمني إلا أن احتساب الجميع على الثورة يثقل كاهلها بما ليس من طبيعتها، وعلى رغم انكشاف العديد من الإساءات لم يجرِ التصدي لها بالحزم المطلوب إعلامياً وميدانياً، سواءً لعدم قدرة الكتائب المقاتلة على التعامل معها أو لعدم رغبتها في فتح معارك جانبية تُضعف من قدرتها أمام قوات النظام. أسوأ ما في الأمر هنا أن جهات إعلامية ومحطات تلفزيونية محسوبة على الثورة لا تدقق في هوية الكتائب والمتحدثين باسمها، ما يجعل المتلقين خارج المنطقة المعنية بوجود تلك الكتائب يصدّقون مشاركتها في الثورة ويحسبونها على تشكيلات الجيش الحر.
ذلك يقودنا تالياً إلى الفوضى الإعلامية التي أصبحت واقعاً، فالمتحدثون باسم الثورة كُثر، والمتحدثون باسم هيئات سياسية معروفة كثر أيضاً، بصرف النظر عما إذا كانوا مخوّلين تنظيمياً بهذه المهمة. ربما تكون بعض الشخصيات قد وقعت في أسر حب الظهور على الشاشات، ومن المؤكد أن سخونة الحدث السوري ترفع من مستوى الطلب على الشخصيات المعارضة، إلا أن الظهور المكثف أدى إلى نتائج عكسية في العديد من الحالات، فغلبت الاجتهادات الشخصية أحياناً على الالتزام بخط المؤسسة التي ينتمي إليها المتحدث، وغاب التفريق بين الاثنين، وانتعشت عوامل الفردانية فظن البعض نفسه أكبر من المؤسسة التي ينتمي إليها، في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات الناشئة أحوج ما تكون إلى روح الجماعة والانضباط.
على الصعيد نفسه من الضروري الإشارة إلى الانفصال بين جزء كبير من المعارضة والواقع الميداني على الأرض، وإن يكن الفصل بين المستوى السياسي والمستوى العسكري ليس سلبياً بالأصل أو بالضرورة، كما نرى في تجارب سابقة كتجربة الجيش السري الإرلندي أو تجربة بعض الفصائل الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، فإن هذا الفصل يقتضي تناغماً بين المستويين مع ترك هامش المناورة لكل منهما وفق مقتضيات العمل، ويقتضي انضباطاً ضمن كل مستوى منهما وفق التكامل المتفق عليه. مع الأسف ليس بوسعنا الزعم بتحقق هذه المعادلة في الثورة السورية، فالاختلافات المتكررة في أوساط المستوى السياسي، المجلس الوطني ومن بعده الائتلاف، وطريقة معالجة الاختلافات لا تدلان على النضج الكافي والمطمئن على علاقتهما بالمستوى العسكري، كما أن العديد من القرارات السياسية الهامة اتُخذ بعيداً عن الكتائب المقاتلة وتعثّر تنفيذه لهذا السبب؛ تعيين رئيس حكومة مؤقتة بشكل غير توافقي على سبيل المثال.
مع ذلك ليست الفوضى بشرّ مطلق الآن، فالتشتت يقف حائلاً أمام تقديم تنازلات جوهرية في الصراع الحالي، ما دامت أية كتلة سياسية غير قادرة فعلاً على فرض تسوية لا ترضي الأغلبية المطلقة، أي أن الضغط على أية كتلة سياسية –بعدّها تمثيلاً للثورة– سيُضعف الكتلة المعنية من دون النيل من الثورة، وهذا يقوّي من الموقع التفاوضي للمستوى السياسي من دون أن يمتلك الأخير قوة ذاتية؛ هذا الواقع بمثابة الخسارة للنظام وحلفائه المعلنين والمستترين. غير أن هذا ينبغي ألا يغيّب الفارق بين عدم مقدرة أي طرف على احتكار الثورة وبين الانفلات الكامل الذي قد يهدد السنوات الأولى التالية لسقوط النظام، فعدم احتكار الثورة هو نقيض ميداني وفكري لاحتكار النظام لكافة أوجه الحياة، أو نقيض لفكرة الاحتكار المؤدية قطعاً وأبداً إلى الاستبداد، أما التشتت التام فقد يهدد الحد الأدنى المطلوب للبناء الوطني القادم.
ثمة واقع أمني شديد القسوة علينا عدم نسيانه ونحن نطلق الافتراضات، ولكن ربما نستطيع تطوير أحكام الضرورات الحالية بحيث تصبح دليلاً إلى سوريا الغد، ولعل اللامركزية المفروضة الآن مدخلاً من المداخل المقترحة للنظام السياسي القادم؛ إن تم تطويرها وتم العمل عليها ميدانياً وفكرياً في آن. بهذا المعنى قد تكون التجارب المتعثرة الحالية بوابة للتفكير في النظام السياسي المقبل، والذي لا يأخذ الطابع الهرمي الحالي الصلد، والذي لا يكتفي أيضاً بشعار الفصل بين السلطات من فوق، بل يترك المجال رحباً أمام أساليب الإدارة الذاتية ما دامت منسجمة مع الإطار الوطني العام.
الأمر الآخر الذي يجدر بنا عدم نسيانه هو أن جانباً من الثورة بات مؤجلاً بحكم الواقع الأمني أيضاً، وهو يتوقف على قدرة السوريين على النزول إلى الساحات العامة بالمعنى الفعلي والمجازي الذي تمت الإشارة إليه سابقاً. أي أن نزولهم إلى الساحات للاحتفال بسقوط النظام سيكون إيذاناً ببداية التلاقي والاختلاف أيضاً، وحينها سيكون المحك الحقيقي في قدرتهم على إدارة اجتماعهم بعد طول افتراق، وفي قدرتهم على تبادل الخبرات المحلية أو الخاصة المكتسبة في أثناء الثورة، وبحيث لا يصبح الافتراق الإجباري مشروع فُرقة فيما بينهم.